استمرّ الحسين (ع) على نفس السياسة التي سلكها الإمام الحسن (ع) مع معاوية، وكان بعض الشيعة يفدون إليه ويطلبون منه القيام على معاوية، وكانت الجواسيس تنقل هذه التحركات واللقاءات الى مروان والي معاوية على المدينة، فكتب إليه: أمّا بعد فإنّ عمرو بن عثمان ذكر أنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي، وذكرَ أنّه لا يأمن وثوبه، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لما بعده، فاكتب إليَّ برأيك في هذا والسلام·
فكتب معاوية إلى مروان ينهاه عن التعرّض للحسين (ع) ويأمره بمـراقبته فقط· ثم كتب إلـى الحسين (ع) يذكر له ما نُقل إليه ويدعوه إلـى الوفـاء ببيعته، وهدّده إن لم يفعل بالكيد له·
فلمّا وصل الكتاب إلى الحسين (ع)، كتب في جوابه: «أمّا بعد فقد بلغني كتابك تذكر أنّه قد بلغك عنّي اُمور أنت لي عنها راغب، وأنا بغيرها عندك جدير فإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ الله·
وأمّا ما ذكرت أنّه انتهى إليك عنّي فإنّه إنمّا رقاه إليك الملاقون المشّاؤون بالنميمة، وما اُريد لك حرباً ولا عليك خلافاً، وأيم الله إنّي لخائف لله في ترك ذلك، وما أظن الله راضياً بترك ذلك، ولا عاذراً بدون الاعذار فيه إليك وفي أولئك القاسطين الملحدين حزب الظلمة وأولياء الشياطين·
ألست القاتل حجراً أخا كندة والمصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلَّظَة والمواثيق المؤكَّدة ولا تأخذهم بحدثٍ كان بينك وبينهم ولا بإحنة تجدها في نفسك·
أولستَ القاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (ص) العبد الصالح الذي أبلته العبادة، فنحل جسمه وصفر لونه، بعدما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلته جرأةً على ربّك واستخفافاً بذلك العهد·
أولست المدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمتَ أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول الله (ص): «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، فتركتَ سنّة رسول الله تعمّداً وتبعت هواك بغيرٍ هدىً من الله، ثمّ سلّطته على العراقين، يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمل أعينهم، ويصلّبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك·
أولست صاحب الحضرميين الذين كتبَ فيهم ابن سميّة أنّهم كانوا على دين علي صلوات الله عليه، فكتبت إليه أن اُقتل كلّ من كان على دين علي، فقتلهم ومثَّل بهم بأمرك، ودين علي (ع) والله الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي جلست، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين·
وقلتَ فيما قلت: «انظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمد، واتّق شقّ عصا هذه الاُمّة وأن تردّهم الى فتنة»· وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الاُمّة من ولايتك عليها، ولا أعلم لنفسي ولديني ولاُمّة محمد (ص) علينا أفضل من أن اُجاهدك، فإن فعلتُ فإنّه قربة الى الله، وإن تركته فإنّي استغفر الله لذنبي، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري·
وقلت فيما قلت: «إنّي إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك، فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك فيَّ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك، لأنّك قد ركبت جهلك، وتحرّصت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضتَ عهدك تقبلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا، فقتلتهم مخافة أمر لعلّك لو لم تقتلهم متَّ قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا·
فابشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك أولياءه من دورهم الى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام حدث، يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب· لا أعلمك إلاّ وقد خسرت نفسك، وبترتَ دينك، وغششت رعيتك، وأخزيتَ أمانتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقي لأجلهم، والسلام» [1]·
ونقلنا هذه الرسالة بطولها ليطـّلع القاريء على عظمة الإمام الحسين (ع) من لسانه، وأنّه لم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلسانه وقلمه غير هيّاب من غضب الجبّارين وفتكهم·
المصدر: سایت السبطین
[1] بحار الأنوار 44: 212/ 9