لقد نصّ الرسول(صلى الله عليه وآله) على ضرورة تمسك الاُمة بمصدرين عزيزين وبجوهرين ثمينين وينبوعين غزيرين هما (الكتاب والعترة) لا ينفصلان ولا يفنَيان حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
فالاُمة تعتصم بهما لتتخلـّص من شرور الفتن، وتستهدي بهما لتنال المستقبل المشرق في أقرب زمن ممكن.
وفي غير هذه الصورة فسوف تذوق الأمرّين وتتقاذفها سفن الفتن في أمواج البحر الهائج حتى تتمخّض عن نتائج وقناعات ايجابية لتستقر في نهاية المطاف على سفينة النجاة سفينة أهل البيت التي اعتبرها الرسول أماناً لاُمته من الغرق حين حذّرهم من كل هذه الفتن.
وهكذا نفهم أن التبشير بالمهدي الأعظم(ص) وبأنّـه ن أهل بيت الرسالة إنما هو لتفعيل الطموح بالإصلاح الشامل، ولإحياء الشعور بضرورة اجتياز العقبات كي يتحقق وعد الله بالنصر المؤزر لراية الحق المتمثلة في راية المهدي من أهل بيت النبوة سلام الله عليهم أجمعين.
لكنّ هذا الإمام العظيم قد قدّر له أن يغيب لأن الظروف لم تكن لتسمح له بالظهور العاجل، ومن هنا هيّأ الرسول الخاتم اُمته لتقبّل هذا الأمر الواقع ووعدها بظهوره على كل حال، فلو لم يبق إلاّ يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يظهر المهدي من آل محمد وتتحقق دولتهم دولة الحق المجيدة، ويتحقق وعد الله بالاستخلاف لهم وتمكين الدين الحق واظهاره على الدين كله ولو كره المشركون.
غيبة الإمام المهدي(ع)
1 ـ عن سعيد بن جبير قال: سمعت سيد العابدين علي بن الحسين(عليه السلام) يقول: «في القائم منّا سنن من الأنبياء سنّة من أبينا آدم وسنّة من نوح وسنّة من إبراهيم وسنّة من موسى، وسنّة من عيسى، وسنّة من أيوب وسنّة من محمد صلوات الله عليهم، وأما موسى، فالخوف والغيبه، وأمّا عيسى فاختلاف الناس فيه، وأما أيّوب فالفرج بعد البلوى، وأما محمـّد(صلى الله عليه وآله) فالخروج بالسيف»([9]).
2 ـ عن ثابت الثمالي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال: «فينا نزلت هذه الآية: (واُولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)([10]) وفينا نزلت هذه الآية: (وجعلها كلمة باقية في عقبه)([11]) والإمامة في عقب الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) الى يوم القيامة وأن للقائم منّا غيبتين إحداهما أطول من الاُخرى»([12]).
3 ـ عن أبي بصير قال: «قلت لأبي عبدالله: لقائم آل محمد غيبتان إحداهما أطول من الاُخرى؟: فقال: نعم ولا يكون ذلك حتى يختلف سيف بني فلان وتضيق الحلقة، ويظهر السفياني ويشتدّ البلاء ويشمل الناس موت وقتل يلجأون فيه الى حرم الله وحرم رسوله(صلى الله عليه وآله)»([13]).
4 ـ عن محمد بن مسلم الثقفي، عن الباقر أبي جعفر(عليه السلام) أنه سمعه يقول: «إنّ للقائم غيبتين يقال له في إحداهما: هلك ولا يُدرى في أيّ واد سلك».
5 ـ عن المفضل بن عمر قال: «سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: إن لصاحب هذا الأمر غيبتين، يرجع في إحداهما الى أهله، والاُخرى يقال: هلك وفي أيّ وادٍ سلك; قلت: كيف نصنع إذا كان ذلك؟ قال: إنّ ادّعى مدع فاسألوه عن تلك العظائم التي يُجيب فيها مثله»([14]).
وهذا النص يُرشد المؤمنين الى كيفية التعرّف على الإمام المعصوم بعد غيبة طويلة بحيث لا يُعرف مداها، فيكون الاختبار الصحيح هو الكاشف عن أنه الإمام المعصوم الذي يستطيع الإجابة على الاسئلة الحرجة، التي يعجز عنها عامة الناس ولا يعرفها إلاّ الإمام المعصوم الجامع لشرائط الإمامة الكبرى والتي يشترط فيها العلم التام بالشريعة والعصمة والكفاءة التامة للقيادة الميدانية في شتى الظروف التي تحيط به وبالمسلمين وبالبشرية جميعاً.
وفي فترة الغيبة الصغرى كان السفراء الأربعة المنصوبين من قبله(عليه السلام) يتوسّطون بين الإمام ومواليه وكانت تخرج على أيديهم الأجوبة عن كل ما كان يسأل عنه من المعضلات والمشاكل التي كانت تواجههم في تعاملهم اليومي.
ولوسأل سائل لماذا هذه الغيبة؟ ولماذا خُطـّطت في مرحلتين؟ فالجواب كما قد جاء في نصوص أهل البيت عليهم السلام بالتفصيل.
الغيبة لماذا؟
لقد أفادت الروايات الواردة عن النبي(ع) والأئمة(ع) عللاً متعدّدة تـُـشير الى علّتين اساسيتين منها:
العلــّـة الاولى : على الإمام الذي يتحدّى الطغاة ويخرج عليهم أن لا يكون في عنقه بيعة لطاغيه زمانه عند خروجه بالسيف، فعن الإمام أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) أنه قال: «يبعث القائم وليس في عنقه بيعة لأحد»([15]).
العلّــة الثانية: إنّ التآمر على المهدي بالقتل والتصفية الجسدية بعد الحصار الشامل لجده وأبيه كان يفرض عليه ـ لأجل المحافظة على نفسه من أيدي الطغاة المتربصّين له ـ التخلص من هذا التآمر بالغيبة فقط ، إذن تكون العلة في غيبته هي الخوف من القتل وهو بعدُ لم يحقق الهدف من وجوده فإنه هو المؤمّل للقضاء على الظلم والظالمين وإقامة العدل الشامل من خلال دولة الحق المجيدة.
فعن زرارة قال: سمعت أبا جعفر الباقر يقول: «إن للقائم غيبة قبل أن يقوم،قال: قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف ـ واومأ بيديه الى بطنه»([16]) أي يخاف القتل.
وفي حديث للإمام الحسن العسكري(عليه السلام) بعد استعراضه لمحاولة فرعون قتل موسى(عليه السلام) وحفظ الله تبارك وتعالى لموسى(عليه السلام) تشبيه دقيق لظروف غيبة النبي الكريم بغيبة الوصي المنتظر(عليه السلام) قال الإمام العسكري(عليه السلام): «كذلك بنو اُمية وبنوالعباس لمّا وقفوا على أن زوال ملك الاُمراء والجبابرة منهم على يد القائم منّا، ناصبونا العداوة ووضعوا سيوفهم في قتل آل الرسول(صلى الله عليه وآله) وإبادة نفسه طمعاً منهم في الوصول الى القائم ويأبى الله عزّ وجلّ أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره المشركون([7]).
والغيبة الصغرى بشكل خاص هي تمهيد طبيعي ومنطقي للغيبة الكبرى التي تتحقق فيها الغيبة التامّة التي تفوّت الفرصة على الظالمين من التعرف عليه وكشف سرّه.
وقد سلك الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) في اخفائه وتعريف شيعته به وإقامة الحجة عليهم بوجوده سلوكاً دقيقاً جمع فيه بين وجوب حفظه من أعدائه ووجوب إتمام الحجة عليهم بوجوده.
حتى أن عمّ الإمام المهدي(عليه السلام) جعفر بن علي الهادي لم يعلم بولادته ولا بوجوده، وعليه فلابدّ من غيبة صغرى كي يُعرف خلالها ميلاده(عليه السلام) ووجوده ويعرض على خواصّ أصحاب الإمام العسكري(عليه السلام) كما فعل هو حيث عرضه على خواصّ أصحابه وأعلن لهم عن ولادته، ثم عقّ عنه وتباشر الشيعة بذلك وكتموه عن من سواهم.
وهناك علّة اُخرى يمكن فهمها من خلال الواقع التاريخي تتلخّص في ضرورة تحقق الاستعداد اللازم من قبل أتباعه الذين تعوّدوا درك حضور الإمام فلابد من مرحلة تمهدية ليتسنّى تقبّـل هذه الغيبة الطويلة حيث يتكامل خلالها الكيان الشيعي ليستقل بادارة شؤونه دون حاجة كبيرة الى الارتباط المباشر بالإمام المعصوم بعد أن سعى أهل البيت(ع) لرفع المستوى العلمي لشيعتهم; تمهيداً لمرحلة الغيبة الكبرى حيث يكون اعتمادهم على رواة أحاديث الأئمة(عليهم السلام) العارفين بالحلال والحرام، كما ورد في التوقع الشريف الصادر عن الإمام المهدي(عليه السلام) الى أحمد بن إسحاق عندما سأله عن مسائل إذ قال له: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله».
وهذا دليل آخر على ضرورة فتح باب الاجتهاد كما هو مفتوح في مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، لا سيما في فترة غيبة الإمام المعصوم(عليه السلام) وذلك، بعد أن عمل الأئمة(عليهم السلام) في تربية الذهنية الشيعية وارتفعوا بها الى مستويات عليا متجاوزين أوّليات كثيرة كانت تتطلبها عملية الاجتهاد هذه، ويقتضيها التعامل الصحيح مع النصوص.
وقد امتدّت هذه التربية واستوعبت مساحة زمنيه توازي فترة الوجود المبارك للأئمة الأطهار(عليهم السلام) وحتى نهاية الغيبة الصغرى وهي فترة لا تقل عن ثلاثة قرون وعقدين تقريباً أي من (11 هـ الى 329 هـ ).
المصدر: سایت السبطین
_________________________________________
([9]) الفتح الرباني: 23/240، وقال الهثيمي: رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح.
([10]) رواه ابن ماجة، انظر كنز العمال: 11/370.
([11]) انظر صحيح البخاري: 4/141 كتاب الدعوات وصحيح مسلم: 5/153 كتاب الفضائل.
([12]) صحيح البخاري كتاب الدعوات: 1/141، صحيح مسلم كتاب الفضائل: 15/159 وكنز العمال: 14/418.
([13]) صحيح البخاري: 4/142 باب الصراط.
([14]) صحيح البخاري تفسير سورة الانبياء: 3/160، وصحيح مسلم: 17/194.
([15]) صحيح البخاري: 4/142 كتاب الدعوات باب الصراط.
([16]) انظر معالم الفتن: 1/91، رواه الطبراني في الأوسط.