لقد أشارت الأحاديث الشريفة المرويّة عن النبي(صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار(عليهم السلام)لأسباب وعلل غيبة الإمام المهدي(عليه السلام) الطويلة.
وبإلقاء نظرة شاملة وفاحصة فيما جاء من النصوص حول الغيبة يتّضح أن هذه الروايات والأحاديث يمكن تقسيمها الى سبعة طوائف:
1 ـ فطائفة تذكر أن علّة الغيبة هي أن الله سبحانه أجرى للإمام(عليه السلام) سنن الأنبياء في غيباتهم.
2 ـ وطائفة اُخرى تعلّل غيبته(عليه السلام) بخوفه من القتل.
3 ـ وطائفة ثالثة تذكر أن العلّة هي أن لا تكون في عنقه بيعة لأي ظالم ولا لطاغية زمانه حين يظهر بالسيف.
4 ـ وطائفة رابعة لم تذكر سبباً صريحاً بل تنصّ على أن الغيبة أمر من أمر الله سبحانه وسرّ من أسراره لا يمكن كشفه إلا حين ظهور الإمام(عليه السلام) .
5 ـ والطائفة الخامسة تعتبر السبب ضرورة تحقق العدد اللازم والظروف المؤاتية للثورة الشاملة والاستعداد التام من قبل أنصار الإمام المهدي (عليه السلام) الذين يريدون المساهمة في التغيير العالمي الشامل وهو تغيير عظيم يحتاج الى قوى ونفوس عظيمة تتناسب مع المهمة التغييرية الكبرى.
6 ـ والطائفة السادسة تؤكد على ضرورة مرور فترة زمنية كافية للتمحيص والاختبار لغربلة من يدّعي الاستعداد لنصرة الحق وبذل مهجته في سبيل الله تعالى.
7 ـ والطائفة السابعة تشير الى ضرورة ظهور فشل كل المدارس والأشخاص الذين يتزعمون حركة الإصلاح ويزعمون أنّـهم قادرون على إنجاز الاصلاح الحقيقي في المجتمع لئلا تكون لهم الحجة على المصلح العالمي المنتظر.
واليك نماذج من كل طائفة:
1 ـ فمن الطائفة الاُولى: ما رواه سدير عن أبيه عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال:
إنّ للقائم منـّـا غيبة يطول أمدها، قلت له: يا ابن رسول الله ولمَ ذاك؟ قال: لأنّ الله عزّ وجل أبى إلاّ أن يجعل فيه سنن الأنبياء(عليهم السلام) في غيباتهم، وأنه لابدّ له يا سيدير من استيفاء مدة غيباتهم، قال الله تعالى: (لتركبنّ طبقاً عن طبق) أي سنن من كان قبلكم([18]).
2 ـ ومن الطائفة الثانية ما رواه زرارة عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال:
إنّ للقائم غيبة قبل ظهوره،قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف ـ وأومى بيده الى بطنه ـ قال زرارة يعني: القتل([19]).
ومنها ما روي عن عبدالله بن عطا عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قلت له إن شيعتك بالعراق كثيرة، والله ما في أهل بيتك مثلك، فكيف لا تخرج؟ قال: فقال: يا عبدالله ابن عطا، قد أخذتَ تفرشُ اُذنيك للنَوْكى. إي والله ما أنا بصاحبكم، قال: قلت له: فمن صاحبنا؟ قال: انظروا من عَمِيَ على الناس ولادته، فذاك صاحبكم ; إنه ليس منّا أحد يشار إليه بالأصبع ويُمضَغ باللسان إلاّ مات غيظاً أو رغم أنفه([20]).
وفي هذا النص تصريح وتعليل لأسباب القتل التي تحققت لعامّة الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) ولا ينبغي أن تتكرّر للقائم منهم مادام هو خاتمهم وآخرهم ولا وصيّ بعده.
3 ـ ومن الطائفة الثالثة: ما روي عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنه قال ـ في جواب من سأله عن علّة الغيبة ـ : «لئلاّ يكون في عنقه بيعة إذا قام بالسيف»([21]).
وهذا المعنى مروي عن كثير من الأئمة(عليهم السلام) بألفاظ متقاربة، منها ما روي عن الإمام المهدي(عليه السلام) أنه قال في توقيعه الى إسحاق بن يعقوب في جواب أسئلته:
«وأمّا علّة ما وقع من الغيبة، فإن الله عزّ وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم) إنه لم يكن أحد من آبائي(عليهم السلام)، إلا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإني أخرج حين أخرج، ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي»([22]).
ويقول(عليه السلام) في رسالته الاُولى للشيخ المفيد:
«نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك مادامت دولة الدنيا للفاسقين»([23]).
ويقول سلام الله عليه في رسالته الثانيه للشيخ المفيد:
«ولو أنّ أشياعنا ـ وفّقهم الله لطاعته ـ على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجّل لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا. فما يحبسنا عنهم إلا ما يتّصل بنا مما نكره ولا نؤثره منهم»([24]).
4 ـ ومن الطائفة الرابعة ما رواه عبدالله بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد(عليه السلام) يقول: إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة لابّد منها، يرتاب فيها كلّ مبطل، فقلت له: ولِمَ جُعِلتُ فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم، قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدّم من حجج الله تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر(عليه السلام) إلا بعد افتراقهما، ياابن الفضل إن هذا الأمر من أمر الله وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أن الله عزّوجلّ حكيم، صدّقنا بأنّ أفعاله كلّها حكيمة، وإن كان وجهها غير منكشف([25]).
5 ـ ومن الطائفة الخامسة ما روي عن الحسن بن محبوب بن إبراهيم الكرخي قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) أو قال له رجل: أصلحك الله، ألم يكن علي(عليه السلام) قوياً في دين الله؟ قال: بلى، قال: فكيف ظهر عليه القوم وكيف لم يمنعهم؟ وما منعه من ذلك؟ قال: آية في كتاب الله عزّ جل منعته، قال: قلت: وأيّ آية هي؟ قال: قول الله عزّ وجل: (لو تزيّلوا لعذّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً).
إنه كان لله عزّ وجل ودايع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين فلم يكن علي(عليه السلام) ليقتل الآباء حتى تخرج الواديع، فلمّا خرجت الودايع ظهر على من ظهر فقاتله، وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبداً حتى تظهر ودايع الله عزّ وجلّ فاذا ظهرت ظهر على من ظهر فقاتله([26]).
6 ـ ومن الطائفة السادسة ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال:
«والله لا يكون الذي تمُدُنّ إليه أعناقكم حتى تميّزوا وتمحصّــوا، ثم يذهب من عشره شيء ولا يبقى منكم إلا الأندر، ثم تلا هذه الآية: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)([27]).
7 ـ ومن الطائفة السابعة ما روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال:
«دولتنا آخر الدول، ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عزّ وجلّ: (العاقبة للمتقين)([28]).
إذن هناك أسباب واقعية وموضوعية هي التي تكمن وراء ظاهرة الغيبة كشفت هذه النصوص عنها تارة بشكل صريح واُخرى بشكل رمزي هذا من جهة، ومن جهة اُخرى أن كل نص تكفّل ببيان جزء من تلك العلة الواقعية التي ظهرت بمظهر سنّة من سنن الأنبياء، فإن معنى وجود سنـّة هو وجود قانون عام ينطبق على الحوادث التاريخية كلما تشابهت الظروف، وحيث إن الإمام المهدي(عليه السلام) يعبّر عن نفس الخط الذي سار عليه الأنبياء وبعثوا من أجل تحقق أهدافه. إذن سوف تخضع حركته لنفس السنن العامة التي تحققت في حياة الأنبياء(عليهم السلام) .
وصلاح الاُمة يقتضي أن يغيب الإمام(عليه السلام) حيث لا تتحقق الأهداف بظهوره قبل الأوان وقبل تهيّؤ الظروف الموضوعية الكفيلة بتحقق أهداف رسالات الأنبياء على يده.
وظهور الإمام قبل أن تتحقّق الظروف الكفيلة بحفظ وجوده الذي يستطيع من خلاله إيجاد التغيير العالمي المنشود قد يستلزم قتله من قبل الظالمين فلا يكوننّ نفع ظهوره أكبر من نفع غيبته في هذه الظروف.
وتكشف لنا أدعية الإمام المهدي(ع) نفسه عن جملة من هذه الأسباب والعلل التي جاءت في النصوص السابقة. وإليك نموذجاً منها.
المصدر: سایت منتدی الوارث
________________________________________
([18]) الفتح الرباني: 29/23 وقال: حديث صحيح.
([19]) كمال الدين: 1/321 ـ 322.
([20]) الأحزاب: 6.
([21]) الزخرف: 47.
([22]) كمال الدين: 1/323.
([23]) الغيبة لحمد بن إبراهيم النعماني: 172 ـ 173.
([24]) انظر الغيبة للنعماني: 90.
([25]) كمال الدين: 2/480.
([26]) كمال الدين: 2/481.
([27]) راجع منتخب الأثر: 358 ـ 360، للطف الله الصافي.
([28]) الحر العاملي، اثبات الهداة: 3/486 ـ 487.