ولاهمية الدور الذي ينهض به أئمة الحق بعد النبي(صلى الله عليه وآله) ، فقد أخذ رب العالمين جلّ وعلا على نفسه أن يبلغ المسلمين بأسمائهم وفق خطة تعليمية عالية ، ترتفع إلى مستوى إدراكها القلوب الذكية .
وقد اهتم القرآن الكريم باسلوبه المميّز بتكريس هذه الحقيقة في عدد من آياته المباركة ، كما اهتم الحديث القدسي وحديث رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ـ مبلغ عن اللّه عزوجل ـ بذلك .
ولنأخذ واحدة من الايات الكريمة التي تعمق خط الامامة بعد النبي الخاتم(صلى الله عليه وآله) :
قال اللّه تعالى شأنه : (إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتولَّ اللّه ورسوله والذين آمنوا فان حزب اللّه هم الغالبون)( 7 ) .
فقد نزلت هذه الاية الكريمة المؤكدة أن الذين يلون أمر الناس ، ويتصرفون بشؤونهم دون سواهم هم : اللّه جل جلاله الذي بيده الخلق والامر ، ثم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ، ثم علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، وحزب اللّه من البشر هم الواقفون تحت رايته دون سواهم ، وهم الذين يتولون اللّه ورسوله وعلي بن ابي طالب .
بقي أن تتوضح مسألتان اثنتان هما :
أ ـ ما الدليل على أن المراد بالذين آمنوا هو علي(عليه السلام) ، مع أن اللفظة تفيد الجمع ظاهراً ؟
ب ـ وما الدليل على أن المراد بالولي هنا هو الذي يلي أمر الناس ، ويتصرف في شؤونهم دون غيره ، مع أن لفظ الولي لفظ مشترك يحتمل عدة معان ؟
وحول المسألة الاُولى : نقول : إن نزول الاية في علي بن ابي طالب(عليه السلام) أمر مفروغ منه ، فقد أجمع المفسرون على أن سائلاً دخل مسجد النبي(صلى الله عليه وآله) ، يسأل المسلمين سدَّ فاقته ، فأشار علي(عليه السلام) إلى إصبعه وهو في حالة ركوع ، فانتزع السائل خاتم علي(عليه السلام) من إصبعه ، وهكذا تصدق الامام(عليه السلام) وهو راكع ، فنزلت آية الولاية( 8 ) .
على أن الحادثة المذكورة تحمل معها تفصيلات تباين المفسرون والمؤرخون في نقلها نذكر منها ما يلي :
أخرج الامام أبو اسحق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الثعلبي ، المتوفى عام 337 هـ في تفسيره الكبير ، عند تفسير هذه الاية بأسناده ، إلى أبي ذر الغفاري(رحمه الله) ما يلي :
قال : «سمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بهاتين وإلاّ صُمّتا ، ورأيته بهاتين وإلاّ عميتا ، يقول : علي قائد البررة وقاتل الكفرة ، منصور من نصره، مخذول من خذله ، أما إني صليت مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ذات يوم ، فسأل سائل في المسجد فلم يعطِه أحد شيئاً ، وكان علي راكعاً فأومأ بخنصره إليه ، وكان يتختم بها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، فتضرع النبي(صلى الله عليه وآله) إلى اللّه عزوجل يدعوه فقال : اللّهم إن أخي موسى سألك (قال ربِّ اشرح لي صدري * ويسّر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيراً من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري * كي نسبحك كثيراً * ونذكرك كثيراً * إنك كنت بنا بصيراً) فأوحيت إليه (قد اُوتيتَ سؤلك يا موسى) اللّهم وإني عبدك ونبيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي ، علياً اشدد به ظهري . قال أبو ذر : فو اللّه ما استتم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)الكلمة حتى هبط عليه الامين جبرائيل بهذه الاية (إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتولَّ اللّه ورسوله والذين آمنوا فإن حزب اللّه هم الغالبون)( 9 ) .
أما ما اُشكل حول لفظ (الذين آمنوا) بأنها تطلق على الجمع ، فإن اللغة العربية قد ألفت هذا اللون من الاطلاق ، فكثيراً ما يطلق لفظ الجمع ويراد به المفرد ، تعظيماً لشأن المفرد المذكور ، أو تهويلاً لفعله، وفي الكتاب العزيز مصاديق كثيرة لهذه الحالة نذكر منها :
قال تعالى : (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل)( 10 ) .
فبإجماع المفسرين أن القائل هو نعيم بن مسعود الاشجعي دون غيره ، فأطلق اللّه عزوجل عليه لفظ الناس مع أنه رجل واحد( 11 ) .
وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ...)( 12 ) .
وكان الذي بسط يده ليفتك بالنبي(صلى الله عليه وآله) رجلاً واحداً( 13 ) .
وفي آية المباهلة ما يفيد هذا المعنى : (.. قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين)( 14 ).
فقد عبر القرآن بلفظ الجمع عن النساء ، مع أن الحاضر من النساء في مباهلة النبي(صلى الله عليه وآله) للنصارى ، كانت فاطمة بنت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) دون سواها( 15 ) .
ب ـ أما كون لفظ الولي مشتركاً فهو صحيح من حيث المبدأ ، حيث ترد كلمة الولي بمعنى : المحب ، والصديق ، والنصير ، والحليف ، والاَولى بالتصرف ، كالحاكم الشرعي ، وولي القاصر ، وولي المرأة ، وغير ذلك ، إلاّ أن القرائن تفيد أن لفظ الولي في آية الولاية ليس المحب ولا النصير ولا الصديق ، ولا أمثال ذلك ، وإنما قصدت الاية من الولاية التي حصرتها للّه تعالى ، ولرسوله(صلى الله عليه وآله) ، ولعلي(عليه السلام) دون سواهم هي ولاية شؤون المسلمين والتصرف بأمورهم وليس سوى ذلك( 16 ) .
فإن النصرة والمحبة والصداقة غير مقصورة على أحد من المؤمنين والمسلمين دون أحد ، يقول تعالى متحدثاً عن ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ، وهي ولاية المحبة والنصرة : (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..)( 17 ) .
ولذا فإنه بعد تقرير اللّه تعالى لحالة المودة والنصرة ، بين عموم المؤمنين في آياته وتعليماته ، فليس من المعقول أن نفسر آية الولاية بهذا المعنى ، لاسيما وإن مطلع الاية قد ارتبط بأداة الحصر (إنما) ، مما يجعل من غير المناسب في منهج القرآن الكريم ـ وهو معجزة بيانية ـ أن يستعمل أداة الحصر ثم يقصد شيئاً بعد إيرادها قد شاءه لعموم المسلمين .
إن مجرد الاحتمال من هذا القبيل يسيء لبلاغة القرآن الكريم ومقاصده الرسالية معاً .
هذا ومن الجدير ذكره أن بعض الاحاديث الشريفة التي حملت لفظ (الولي) تؤكد ما ذهبنا إليه :
فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن سعيد بن جبير عن بريدة قال : «غزوت مع علي اليمن ، فرأيت منه جفوة ، فلما قدمت على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ذكرت علياً فتنقصته ، فرأيت وجه رسول اللّه يتغير ، فقال : يا بريدة ، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قلت : بلى يا رسول اللّه ، قال : من كنت مولاه فعلي مولاه»( 18 ) .
وهناك كثير من الاحاديث الشريفة تباشر هذه العملية المباركة .
المصدر: سایت منتدی الوارث
______________________________
(7) المائدة: 55 ـ 56.
(8) تراجع المصادر التالية: صحيح النسائي، أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره، والبيضاوي في تفسيره، والطبرسي في تفسيره، وأبو البركات النسفي في تفسيره، والطبري في تفسيره، والواحدي في أسباب النزول، والنيسابوري في تفسيره، والشبلنجي في نور الابصار، وابن حجر في صواعقه المحرقة، وأخطب خوارزم الموفق ابن أحمد الحنفي في المناقب، وأعيان الشيعة للسيد الامين ج2 ق 1 ص 130، والجمع بين الصحاح الستة في تفسير سورة المائدة، والامام القوشجي في مبحث الامامة من شرح التجريد، وغيرهم.
(9) المصدر المذكور نقلاً عن المراجعات للسيد شرف الدين بأسناده: 161.
(10) آل عمران: 173.
(11) تفسير سيد شبر: 104، وبقية التفاسير.
(12) المائدة : 11 .
(13) تفسير مجمع البيان 6:169.
(14) آل عمران : 61.
(15) يراجع تفسير الزمخشري الكاشف 1: 368، كما يراجع الفخر الرازي، وصحيح مسلم، ومسند أحمد، وغيرهم.
(16) بحث شيخ الطائفة المرحوم أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رض) هذا الموضوع من الناحية اللغوية، في ضوء آراء فقهاء اللغة، فليراجع تلخيص الشافي 2:182 ـ 205.
(17) التوبة : 71.
(18) أخرجه الحاكم في المستدرك 3:110، والذهبي في تلخيصه لصحيح مسلم، وصححاه على شرط مسلم، وأخرجه ابن المغازلي الشافعي في مناقبه بعدة طرق معتبرة : 16 ـ 26.