ظهر تيار الغلاة مجدّداً في عصر الإمام الصادق (عليه السلام)، بعد ان كان قد انقرضت هذه الفئة التي ظهرت في عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) وقالوا باُلوهيته فحرّقهم بالنار، واستغفر الله سبحانه ممّا نسبوه إليه ظلماً وعتوّاً. ولم يكن للإمام الصادق (عليه السلام) السلطان الذي كان لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فاقتصر على ما تيسّر له من إعلان البراءة عنهم أمام الخاصّ والعام ولعنهم وتحذير شيعته من كيدهم ومكرهم ومقاطعتهم وبيّن زيف وبطلان عقائدهم الكافرة.
وقد حظي بعض هؤلاء الغلاة كوهب بن وهب المعروف بأبي البختري بمكانة مرموقة عند سلاطين عصره بسبب دعواه هذه وفتحوا له صدورهم وولّوه القضاء، فكان يكذب على الإمام الصادق (عليه السلام) ويضع الأحاديث تلبية لرغباتهم.
وكان أبو الخطّاب هو زعيم هذه الفرقة الكافرة، فقد روي في كتاب زيد النرسي قال: لمّا ظهر أبو الخطّاب بالكوفة وادّعى في أبي عبد الله (عليه السلام) ما ادّعاه دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) مع عبيدة بن زرارة فقلت له: جعلت فداك لقد ادّعى أبو الخطّاب وأصحابه فيك أمراً عظيماً، إنّه لبّى بلبّيك جعفر، لبّيك معراج. وزعم أصحابه أنّ أبا الخطاب اُسري به إليك ، فلمّا هبط إلى الارض دعا إليك، ولذا لبّى بك.
قال: فرأيت أبا عبد الله (عليه السلام) قد أرسل دمعته من حماليق عينه وهو يقول: ياربِّ برئتُ إليك ممّا ادّعى فيَّ الأجدع عبد بني أسد، خشع لك شعري وبشري، عبدٌ لك ابن عبد لك، خاضع ذليل.
ثم أطرق ساعة في الأرض كأنّه يناجي شيئاً، ثم رفع رأسه وهو يقول: أجل أجل عبد خاضع خاشع ذليل لربّه، راغم من ربّه ، خائف وجل، لي والله ربّ أعبده لا اُشرك به شيئاً، ماله أخزاه الله وأرعبه ولا آمن روعته يوم القيامة، ما كانت تلبية الأنبياء هكذا، ولا تلبيتي ولا تلبية الرسل، إنّما لبّيت بلبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك [1].
وكان أبو الخطّاب يجوّز لأصحابه العمل بالمنكرات وارتكاب الكبائر وأنّ الصادق (عليه السلام) قد أذن لهم بذلك كما كان يدّعي ، فَنُقِل ذلك إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وقيل له: إنّ أبا الخطّاب يذكر عنك أنّك قلت له: إذا عرفت الحقّ فاعمل ماشئت. فقال: لعن الله أبا الخطّاب، والله ما قلتُ له هكذا [2].
وبقي أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يتبرأون من خط الغلوّ ويلعنونهم، حتى عصر الإمام المهدي (عليه السلام) حينما صدر عنه في الغيبة الصغرى التوقيع التالي على يد محمد بن عثمان العمري: «وأمّا أبو الخطّاب محمد بن أبي زينبة الأجدع ملعون، وأصحابه ملعونون، فلا تجالس أهل مقالتهم، فإنّي منهم بريء، وآبائي منهم بُرءاء» [3].
وكان من اساليب هؤلاء الغلاة هو وضع الأحاديث على لسان الإمام الباقر (عليه السلام) والإمام الصادق (عليه السلام) والكذب عليه، ولهذا كان علماء الشيعة في ذلك العصر يتشدّدون في قبول الرواية، فقد جاء في رواية محمد بن عيسى بن عبيد أنّ بعض أصحابنا سأل يونس بن عبد الرحمن وأنا حاضر وقال له: يا أبا محمد ما أشدّك في الحديث وأشد إنكارك لما يرويه أصحابنا ، فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث؟ فقال يونس: حدّثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول: «لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنّة، وتجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة، فإنّ المغيرة بن سعيد دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا».
وفي رواية اُخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ أصحاب المغيرة المتسترين باصحاب أبي كانوا يأخذون كتب أصحاب أبي ويدفعونها إلى المغيرة فيدسّ فيها الكفر والزندقة والإلحاد ويسندها إلى أبي، ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثّوها في الشيعة، فكل ما كان في كتب أبي من الغلو فذاك ممّا دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم ومؤلّفاتهم».
المصدر:سایت السبطین
[1] ـ بحار الأنوار 47: 377ـ 378، ح101.
[2] ـ بحار الأنوار 47: 338، ح17.
[3] ـ بحار الأنوار 47: 334.