كان بنو الحسن يميلون إلى عبد الله بن الحسن الذي كان يرى نفسه لائقاً للإمامة، وكان ولده محمد يدعي أنّه أعلم واشجع وأكرم من الإمام الصادق (عليه السلام). ففي كتاب الواحدة لابن جمهور أنّ محمد بن عبد الله بن الحسن قال لأبي عبد الله (عليه السلام) : والله إنّي لأعلم منك وأسخى وأشجع. فقال له: أمّا ما قلت إنّك أعلم منّي فقد أعتق جدّي وجدّك ألف نسمة من كدّ يده فسمّهم لي، وإن أحببت أن اُسمّيهم لك إلى آدم فعلت.
وأمّا ما قلت إنّك أسخى منّي فوالله ما بتُ ليلةً ولله عليّ حقّ يطالبني به، وأمّا ما قلت إنّك أشجع منّي فكأنّي أرى رأسك وقد جيء به ووضع على جحر الزنابير يسيل منه الدم إلى موضع كذا وكذا.
فحكى ذلك لأبيه فقال: يابُنيّ آجرني الله فيك إنّ جعفراً أخبرني أنّك صاحب جحر الزنابير.
وكان عبد الله بن الحسن قد رشّح ولده محمد للزعامة والإمامة وأطلق عليه لقب النفس الزكية والمهدي، وقد أخذ بيعة بني هاشم لولده محمد في اجتماع الأبواء كما مرّ سابقاً. وقد حاول الإمام الصادق (عليه السلام) أن يحدّ من هذا الإندفاع بإخبار الأب تارة وولده مرة اُخرى بأنّ مصيره سيؤول إلى القتل وأنّه لم يقدّر له الوصول إلى الخلافة والقيادة للعامة للمسلمين.
فقد نقل أبو الفرج الإصفهاني في مقاتل الطالبيين أنّه لمّا بويع محمد بن عبد الله بن الحسن على أنّه مهدي هذه الاُمة جاء أبوه عبد الله إلى الصادق (عليه السلام) وقد كان ينهاه، وزعم أنّه يحسده، فضرب الصادق (عليه السلام) يده على كتف عبد الله وقال: إيهاً والله ماهي إليك ولا إلى إبنك ، وإنما هي لهذا يعني السفّاح، ثم لهذا يعني المنصور يقتله على احجار الزيت، ثم يقتل أخاه بالطفوف وقوائم فرسه بالماء[1] .
كان الإمام الصادق (عليه السلام) شفيقاً على بني عمّه بني الحسن رغم ما كان يكنّون له من البغض والحسد والمنافسة فراح يعالج في نفوسهم الرغبة الجامحة لحبّ السلطة والزعامة بتقديمهم والاقتراح على تقديم عبد الله بن الحسن لزعامة بني هاشم باعتباره الأكبر سناً بدل ولده محمد واقتراح أخذ البيعة له على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقدّم نقله سابقاً.
كما كان الإمام الصادق (عليه السلام) من الطرف المقابل يحاول إقناع بني العباس بعدم التعرّض لبني الحسن وإخبارهم بعدم استجابة الناس لهم لو خرجوا على مُلكهم، فقد روي أنّه لمّا أكبر المنصور أمر ابني عبد الله استطلع حالهما منه، فقال الصادق (عليه السلام) : ما يؤول إليه حالهما أتلو عليك آية فيها منتهى علمي، وتلا: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) [2]. فخرّ المنصور ساجداً وقال: حسبك أبا عبد الله [3].
ولمّا خرج محمد وأخوه إبراهيم على المنصور قبض عليهما وقتلهما ، ثم سجن أباهما حتى مات في السجن، وكثر القتل في بني الحسن كما أخبر بذلك الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله لشهاب بن عبد ربّه: ياشهاب يكثر القتل في أهل بيت من قريش حتى يُدعى الرجل منهم إلى الخلافة فيأباها. ثم قال: ياشهاب لا تقل إنّي عنيت بني عمّي هؤلاء ، فقال شهاب: أشهدُ أنّه عناهم [4].
وبعد مقتل عبد الله بن الحسن وولديه على شاطىء الفرات اشتد المنصور وأعوانه الظلمة على العلويين، وخاصة على الإمام الصادق (عليه السلام) الذي لم يتفوّه بكلمة ينتقص فيها من بني الحسن، كما لم يظهر تأييداً لهم أيضاً، وكان يحذّر شيعته من الخروج معهم ويخبرهم بمآل أمرهم من القتل لو خرجوا.
قال الحافظ عبد العزيز : روي عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: لمّا دُفعتُ إلى أبي جعفر المنصور انتهرني وكلّمني بكلام غليظ ثم قال لي: يا جعفر قد علمت بفعل محمد بن عبد الله الذي يسمّونه النفس الزكية وما نزل به. وإنّما أنتظر الآن أن يتحرّك منكم أحد فألحق الكبير بالصغير. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين حدّثني محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن الحسين بن علي، عن علي بن أبي طالب أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: «إنّ الرجل ليصل رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين فيمدّها الله إلى ثلاث وثلاثين سنة، وإنّ الرجل ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثين سنة فيبترها الله إلى ثلاث سنين». قال: فقال لي: الله لقد سمعت هذا من أبيك؟! قلت: نعم. حتى ردّدها عليَّ ثلاثاً، ثم قال: انصرف [5].
وقد تجرأ الولاة أيضاً على العلويين في عقر دارهم ومدينة جدّهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمام الملأ العام، فعن عبد الله بن سليمان التميمي قال: لمّا قُتل محمد وإبراهيم إبنا عبد الله بن الحسن بن الحسن (عليه السلام) صار إلى المدينة رجل يُقال له شيبة بن غفال، ولاّه المنصور على أهلها . فلمّا قدمها وحضرت الجمعة صار إلى مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فرقى المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمّا بعد فإنّ علي بن أبي طالب شقّ عصا المسلمين ، وحارب المؤمنين، وأراد الأمر لنفسه ومنعه أهله، فحرّمه الله عليه، وأماته بغصّته. وهؤلاء ولده يتبّعون أثره في الفساد، وطلب الأمر بغير إستحقاق له، فهم في نواحي الأرض مقتولون ، وبالدماء مضرّجون.
قال: فعظم هذا الكلام منه على الناس، ولم يجسر أحد منهم ينطق بحرف. فقام إليه رجل عليه إزار قومسيّ سخين فقال: ونحن نحمد الله ونصلّي على محمد خاتم النبيين وسيّد المرسلين، وعلى رسول الله وأنبيائه أجمعين. أمّا ما قلت من خير فنحن أهله وما قلت من سوء فأنت وصاحبك به أولى، فاختبر يامَن ركب غير راحلته وأكل غير زاده ارجع مأزوراً. ثم أقبل على الناس فقال: ألا اُنبئكم بأخلى الناس ميزاناً يوم القيامة، وأبينهم خسراناً: مَن باع آخرته بدنيا غيره، وهو هذا الفاسق.
فأسكت الناس، وخرج الوالي من المسجد لم ينطق بحرف. فسألتُ عن الرجل فقيل لي: هذا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم [6].
المصدر:سایت السبطین
[1] ـ بحار الأنوار 47: 131/181، مقاتل الطالبيين: 255.
[2] ـ الحشر: 12.
[3] ـ بحار الأنوار 47: 132/ذيل ح 181.
[4] ـ بحار الأنوار 47: 154/ 215.
[5] ـ بحار الأنوار 47: 206/47.
[6] ـ بحار الأنوار 47: 165/5.