تتزايد أهمية الكيمياء يوماً بعد يوم، وتثبت التجارب العلمية الحديثة أن الحياة تتألف من عمليات كيميائية معقدّة، كما ثبت أن الوراثة وليدة للتفاعلات الكيميائية.
بل لعلم الكواكب والأرض تكونت نتيجة لعمليات كيميائية مستمرة، كما أن التغييرات التي تطرأ على الكون هي في كثير من الحالات ذات طبيعة كيميائية.
ومن الشائع الثابت أن الإمام الصادق (عليه السلام) كان على علم بخواص الأشياء منفردة ومركّبة، وأنه درّس علم الكيمياء في مدرسته قبل اثني عشر قرناً ونصف قرن. واشتهر من تلامذته في هذا العلم هشام بن الحكم المتوفي حوالي سنة (199 هـ) وهو من أصحاب الصادق (عليه السلام) وتلامذته، وله نظرية في جسمية الأعراض كاللون والطعم والرائحة، وقد أخذ ابراهيم بن سيّار النظّام المعتزلي هذه النظرية لمّا تتلمذ على هشام.
وقد أثبتت صحة هذا الرأي النظريات العلمية الحديثة القائلة أن الضوء يتألف من جزيئات في منتهى الصغر، تجتاز الفراغ والأجسام الشفافة، وأن الرائحة أيضاً من جزيئات متبخرة من الأجسام تتأثر بها الغدد الأنفية، وأن المذاق جزيئات صغيرة تتأثر به الحليمات اللسانية.
ومن تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) الذين اشتهروا ببراعتهم في
الكيمياء والعلوم الطبيعية جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسي، الذي دوّن وألف خمسمائة رسالة من تقريرات الإمام في علمي الكيمياء والطب في ألف ورقة(22).
وقد ذكر، ابن النديم في الفهرست وأطال فيه الكلام، وذكر له كتبا ورسائل في مختلف العلوم ولا سيما في الكيمياء، والطب، والفلسفة والكلام.
وقد أكبر المؤلفون المسلمون منزلة جابر، وعدّوه مفخرةً من مفاخر الاسلام. ولا بدع، فإن تزيد مؤلفاته على ثلاثة آلاف كتاب ورسالة في مختلف العلوم، وجلها في العوم النظرية والطبيعية التي تحتاج إلى زمن طويل في تجاربها وتطبيقاتها، لجدير بالتقدير والاكبار.
وقد تمكن جابر من تحقيق وتطبيق طائفة كبيرة من النظريات العلمية، أهمها تحضير (حامض الكبريتيك) بتقطيره من الشبّة. وسمّه (زيت الزاج).كما حضر (حامض النتريك) و (ماء الذهب) و (الصودا الكاوية).
وكان جابر أوّل من لاحظ ترسّب (كلورود الفضة) عند إضافة محلول ملح الطعام إلى محلول (نترات الفضة).
وينسب إليه تحضير مركّبات أخرى مثل كربونات البوتاسيوم و كربونات الصوديوم وغير ذلك مما له أهمية كبرى في صنع المفرقعات والاصباغ والسماد الصناعي والصابون وما إلى ذلك.
ولم تقف عبقرية جابر في الكيمياء عند حدّ تحضير هذه المواد فحسب، بل انبعث منها إلى ابتكار شيء جديد في الكيمياء هو ما سمّاه
بعلم (الميزان)، أي معادلة ما في الأجساد والمعادن من طبائع، وقد جعل لكل جسد من الأجساد موازين خاصة بطبائعه، وكان ذلك بداية لعلم المعادلات في طبائع كل جسم(23).
وقد امتد نشاط جابر إلى ناحية أخرى من الكيمياء هي التي يسمونها بالصنعة، أي تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة من ذهب وفضة. ويعدّ جابر رائداً لمن أتى بعده من العلماء اللذين شُغفوا بهذه الناحية من الكيمياء، كالرازي وابن مسكوية والصغرائي والمجيرطي واالجلدكي.
وكانت نظرية تحويل المعادن إلى ذهب أو فضة نظرية يونانية قديمة فُتن بها المسلمون من بعدهم، فوضع جابر فيها رسائل كثيرة، وشرح قواعدها وأصولها بكتبه المتعددة.
يقول ابن النديم: (حدّثني بعض الثقات ممن تعاطى الصنعة إنه (أي جابر) كان ينزل في شارع باب الشام في درب يعرف بدرب الذهب، وقال لي هذا الرجل أن جابراً كان أكثر مقامه بالكوفة، وبها كان يدير (الأكسير) لصحة هوائها، ولمّا أصيب الأزج الذي وجد فيه هاون ذهب، فيه نحو مائتي رطل. كان من موضع دار جابر بن حيّان، فإنه لم يصب في ذلك الأزج غير الهاون فقط)(24).
ويعتقد الدكتور محمد يحيى الهاشمي أن الذي يقصده جابر (بالأكاسير) هو (الراديوم) نفسه، أو أحد الأجسام المشعّة فيقول: (ومما يزيد اعجابنا ادّعاء جابر بأنّ هذا السّر له دخل في جميع الأعمال، واننا إذا أمعنّا النظر في الوقت الحاضر، لوجدنا اكتشاف الأجسام المشعّة التي تؤدي إلى قلب عنصر المادة وتحطيم الذرة لم يمكن من نتائجها القنبلة
الذرية فحسب بل ايجاد منابع قوة جديدة لم تكن تطرق على بال الانسان)(25).
وصلت نظرية (الصنعة) ضرباً من ضروب الآمال والأحلام بل الأوهام وكان من يشتغل بها يُرمى بالعته والهوس، حتى ان الكندي وابن خلدون نبذا هذه الفكرة، وأكدّا عدم امكان تحويل أي عنصر إلى عنصر آخر.
غير أن ما حدث في عام 1919 من تحطيم ذرّات (النتروجين) وتحيلها إلى ذرات (الأكسجين) و (الهيدروجين) قد بدّل مفهوم هذه الفكرة، وأثبت إمكان تحقيقها بالفعل.
وقد تولت بعد ذلك تجارب شطر نواة الذّرة، باستخدام قذائف من جُسيمات (ألفا) أي نوى (الهليوم)، ومن جسميات أخف ولكن أكبر أثراً منها وهي البروتونات أي نُوى (الهدرجين) بعد إطلاقها بسرعة فائقة، وأمكن بذلك شطر نواة الذّرة وتحويل عدد من العناصر إلى عناصر أخرى، كتحويل الهدروجين إلى عنصر الهليوم، وتحويل الصوديوم إلى مغنسيوم، والليثيوم والبورون إلى هليوم، فتحقق فعلاً أمر تحليل العناصر وتحويل بعضها الى بعض.
وقد افرد الاْستاذ محمد يحيى الهاشمي لهذا الموضوع كتابا سماه(الإمام الصادق ملهم الكيمياء)(26)، نحيل إليه القارىْطلبا لمزيد من البحث.
وللمستشرق الفرنسي بول كراوس(27) (Kraus) كتب وبحث مستفيضان حول شخصية جابر بن حيّان العلمية، وإن كان فيهما ما يدعو إلى التأمل والمناقشة، خاصة استبعاد، لبعض هذه النظريات العلمية في عصر الصادق ع. وقد قام الكاتب والعالم المصري اسماعيل مظهر بمناقشة آراء كرواس والرد على ما أورده، من شكوك واهية، في سلسلة مقالات نشرتها مجلة (المقتطف)(28). كما أن الأستاذ أحمد زكي صالح نشر سلسلة أخرى من المقالات في نفس الموضوع في مجلة (الرسالة) المصرية(29). وللفيلسوف الفرنسي هنري كوربلن بدوره مؤلف عن جابر بن حيّان وكتابه الكيمياء(30).
المصدر:سایت السبطین
____________________________________________________
22 - ابن خنلكان في أحوال الصادق 1: 150 وكتاب الفهرست.
23 - فلاسفة الشيعة ص 63.
24 - الفهرست: 499.
25 - الإمام الصادق ملهم الكيمياء: 156 للاستاذ محمد يحيى الهاشمي /مطبعة النجاح ببغداد/ 1950 م.
26 - الإمام الصادق ملهم الكيمياء: مطبعة النجاح، بغداد، 1950 م.
27 - P.Kraus, Jabir Ibn Hayan
contribution L,histoire Des Idees Scientfiques Dans I,Islam, Le Cair, 1943.
28 - مجلة المقتطف في أعدادها (68: 544 ـ 551 ومن 617 ـ 625).
29 - مجلة (الرسالة) (السنة الثامنة ص 1204 ـ 1206 ومن 1235 ـ 1237 ومن 1268 ـ 1270 ومن 1299 ـ 1302).
30 - أنظر المقدمة.