ولد الإمام الباقر (عليه السلام) سنة (57 هـ) وقد عاش في حياة أبيه زين العابدين (عليه السلام) (38) سنة وهو السن الذي تسلم فيه مقاليد الإمامة بعد استشهاد أبيه عام (95 هـ).
حاول الكثير من الكتاب والمؤرخين إيجاد تفسير للحديث الشريف (يكون لهذه الأمة اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) يخالف المراد منه وتحريفه عن مساره الذي رسمه الله ورسوله، فتخبطوا كثيراً وهم يحاولون بلا جدوى تطبيقه على من تقمص الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فوجدوا أن من غير الممكن أن يتطابق هذا العدد مع الخلفاء بعده ولا على الخلفاء الأمويين ولا العباسيين، فلما رأوا أن ليس هناك جدوى زادوا من تخبطهم باختيار اثني عشر شخصاً ممن انتقته أهواءهم وأمزجتهم وميولهم من هؤلاء ــ من غير ترتيب طبعاً ــ وقالوا بأن هؤلاء هم من قصدهم الرسول بحديثه، وكان اختيارهم هذا من غير دليل ولا قرينة ولا برهان، وكأن أمر الخلافة قد وُضعَ بأيديهم ليختاروا من شاؤوا.
ولما لم يجدوا أدنى المؤهلات للخلافة في سيرة هؤلاء حاولوا إعطاء شرعية لخلافتهم بعزل مفهوم الإمامة عن الخلافة وقالوا: بأن الأولى هي تشير إلى الأمور الدينية والثانية للسياسية ! في حين أن القرائن كلها تتفق على أن الاثنتين تمثلان مدلولاً واحداً وهما متلازمتان ولا يمكن الفصل بينهما.
كل هذه المحاولات الفاشلة كانت من أجل تحريف هذا الحديث الشريف عن مظانه ومراده الحقيقي وهو ما تعتقده الشيعة بإمامة وخلافة الأئمة المعصومين الاثني عشر (عليهم السلام) المنصوص عليهم من الله والذين وردت فيهم أحاديث شريفة كثيرة منها:
(الخلفاء بعدي اثنا عشر كعدد نقباء بني إسرائيل)
ومنها: (النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي)
ومنها: (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف)
ومنها: (مثل أهل بيتي كسفينة نوح)
ومنها: (معاشر أصحابي من أحب أهل بيتي حُشر معنا ومن استمسك بأوصيائي من بعدي، فقد استمسك بالعروة الوثقى) فقام إليه أبو ذر الغفاري فقال: يا رسول الله كم الأئمة بعدك فقال (صلى الله عليه وآله): عدد نقباء بني إسرائيل، فقال أبو ذر: كلهم من أهل بيتك ؟ فقال: كلهم من أهل بيتي تسعة من صلب الحسين والمهدي منهم.
إضافة إلى الحديث الشريف (الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش) وفي رواية: (كلهم من بني هاشم)
ومن الواضح أن هذه الخصوصية لا تنطبق إلا عليهم (عليهم السلام) إضافة إلى توفر كل شروط الإمامة فيهم كالعصمة والفضل على جميع الخلق في زمنهم وأنهم أعلم الناس وأورعهم وأتقاهم وأعقلهم وتميزهم بالفضائل والأخلاق.
وما دمنا في معرض الحديث عن الإمام محمد الباقر (عليهم السلام) فسنقتصر بالحديث على من تولوا الخلافة في عصره وهل كان أحدهم يمتلك من مؤهلات الخلافة شيئاً أو يتوفّر فيه من خصائصها خصيصة ؟
كانت ولادة الإمام الباقر (عليه السلام) سنة (57 هـ) وقد عاش في حياة أبيه زين العابدين (عليه السلام) (38) سنة وهو السن الذي تسلم فيه مقاليد الإمامة بعد استشهاد أبيه عام (95 هـ) وقد استمرت إمامة الباقر تسع عشرة سنة، أي حتى عام (114 هـ) وهي السنة التي استشهد فيها وفي هذه الفترة ــ 19 عاما ــ تولى الخلافة خمسة من خلفاء بني أمية وهم:
1 ــ الوليد بن عبد الملك وكانت مدة خلافته 10 سنوات (86 ــ 96 هـ) وقد أدرك الإمام الباقر (عليه السلام) من ولايته سنة واحدة
2 ــ سليمان بن عبد الملك وحكم ثلاث سنوات (96 ــ 99 هـ)
3 ــ عمر بن عبد العزيز حكم لمدة سنتين (99 ــ 101 هـ)
4 ــ يزيد بن عبد الملك حكم لمدة أربع سنوات (101هـ / 105هـ)
5 ــ هشام بن عبد الملك حكم لمدة عشرين سنة (105 ــ 125 هـ) وقد استشهد الإمام الباقر (عليه السلام) في عهده بعد أن دس إليه السم
هؤلاء الخمسة كلهم من بني أمية وقد تولّوا منصب الخلافة وهو أعلى منصب في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، فهل تنطبق عليهم شروط الخلافة كما يجب أن تكون في من يتولى هذا المنصب كالعلم والعدالة وسداد الرأي والورع وغيرها من الفضائل إضافة إلى النسب القرشي كما جاء في حديث النبي (صلى الله عليه وآله) ؟
في البدء يرد السؤال هل يناسب مقام الخلافة بني أمية ؟
النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة والحقائق التاريخية تشير إلى أنهم ملعونون في القرآن وعلى لسان النبي وقد اتفق المفسرون من الفريقين على أن هذه الآية (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ) نزلت في بني أمية، كما وردت كثير من الأحاديث الشريفة بلعن بني أمية ولعن رجالهم كأبي سفيان، ومعاوية، ومروان الذي وصفه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالوزغ ابن الوزغ، إذن فخلافتهم باطلة بنص القرآن الكريم والسنة المطهرة فكيف يلي الخلافة من لعنه الله ورسوله ؟.
ثم يرد السؤال هل ينطبق حديث النبي بأن الخلفاء من قريش عليهم ؟
الشواهد التاريخية والروايات تشير إلى أنهم لم يكونوا من قريش وهناك أخبار وحقائق كثيرة في مصادر الفريقين تدل على ذلك وتقول: (كان أميّة غلاماً روميّاً لعبد شمس شقيق هاشم بن عبد مناف، فتبنّاه عبد شمس وعاش تحت رعايته، وكان أصله من الروم فقيل له أمية بن عبد شمس).
و كان هذا القانون سائداً ومعروفا في مكة، ويدل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام في رده على كتاب معاوية: (وأما قولك: إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن، ولكن ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق ولا الصريح كاللصيق) والعبارة الأخيرة من كلامه (عليه السلام) تشير بوضوح إلى ذلك
إذن فهؤلاء الخمسة ومن قبلهم ومن جاء بعدهم هم لصقاء بقريش ولا ينطبق عليهم شرط النسب كما في حديث النبي في من يتولى الخلافة.
وإضافة إلى هذين الدليلين الذين يثبتان بطلان خلافة بني أمية فإن سيرة هؤلاء وسياستهم لا تنتمي إلى الإنسانية والإسلام، بل كانت سِيرهم أبعد ما تكون عن روح الإسلام وأحكام القرآن وسنة النبي وكانوا يرتكبون الجرائم والموبقات ويقضون الليالي الحمراء في مجالسة المغنين والمغنيات وشرب الخمور وممارسة الفجور !
ولنطالع التاريخ لننظر إلى (منجزات) هولاء الخلفاء الخمسة، وباستثناء عمر بن عبد العزيز الذي اختلف عن الأربعة الباقين بعدله ورفعه سب أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنه أيضاً لا يختلف عنهم بأنه كان غاصباً للخلافة وغير مؤهل لها إضافة إلى أمور سنوضحها كما سيأتي الحديث عنه:
1 ــ الوليد بن عبد الملك
عُرف هذا الرجل بجرائمه الكثيرة والكبيرة وأكبرها قتل الإمام زين العابدين (عليه السلام) بالسم، وتوليته المجرم الحجاج بن يوسف الثقفي على العراق والذي سام أهله سوء العذاب، وأي جريمة أبشع من هاتين الجريمتين اللتين تقشعر لهما الأبدان وهما: قتله ابن رسول الله وحفيد علي والزهراء (صلوات الله عليهم) وسيد أهل الأرض، وتوليته وحشاً على صورة إنسان وهو الحجاج الذي ولاه على شيعة العراق (وقد أحصي من قتلهم هذا المجرم من أهل العراق فكانوا مائة وعشرين ألفا سوى من قتل في حروبه وغزواته على البلاد وقد مات في حبسه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة منهن ستة عشر ألفا مجرَّدة وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد ولم يكن للحبس ستر يستر الناس من الشمس في الصيف ولا من المطر في الشتاء).
وقد قتل الحجاج أعلام المسلمين وكبار علماء الشيعة وكان آخر من قتلهم سعيد بن جبير (رضوان الله عليه) وقد وُصف الحجاج بأنه: (كان جباراً وظالماً وكافراً وفاسقاً وكذاباً وخبيثاً).
هذا أحد ولاة الوليد ومن أبرز رجال دولته وأصحابه ولم يختلف بقية الولاة عن الحجاج في القسوة والوحشية بل لم يختلف الوليد نفسه عنهم فـ (شبيه الشيء منجذب إليه) حيث وصفت المصادر الوليد بأنه كان (جباراً عنيداً، ظلوماً غشوماً) كما نقلت المصادر عن عمر بن عبد العزيز قوله في وصف عهد الوليد (امتلأت الأرض والله جوراً).
أما صفات الوليد ومؤهلاته الشخصية، فقد كان يلحن ــ أي لا يحسن الكلام ــ فخطب في الجامع النبوي، فقال: (يا أهلُ المدينة) - بالضم – فهو لا يعرف بأن أهل مُنادى وهو مُضاف ويجب أن ينصب !
وقال في مرة ثانية وهو يستشهد بآية قرآنية: (يا ليتُها كانت القاضية) ــ بضم التاء ــ فقال عمر بن عبد العزيز: (عليك وأراحتنا منك)، وعاتبه أبوه على إلحانه، فقال له: إنه لا يلي العرب إلاّ مَن يُحسِن كلامهم، فجمع أهل النحو ليعلّموه، ودخل بيتاً فلم يخرج منه سنة، ثم خرج منه وهو أجهل منه يوم دخل، وقد لقب بـ (النبطي) لذلك، فهذا (الخليفة) لا يحسن قراءة آية من القرآن ! ومما قيل فيه أيضا أنه:
(كان دميما، إذا مشى تبختر في مشيته، وكان أبواه يترفانه، فشب بلا أدب، وكان سائل الأنف)
(كان مغرماً باللهو ومجالسة المغنين وأصحاب آلات الطرب)
(كان يدير ظهره إلى الكعبة ويطلب من ابن أبي ربيعة في أن ينشده بعض الأبيات في الغزل)
وهناك كثير من الروايات التي دلت على كفره وفسقه وجرائمه وموبقاته ونكتفي بهذا القدر.
2 ــ سليمان ابن عبد الملك
ذكر كل من ترجم لهذا الخليفة بأنه (مات من كثرة الأكل) وقد ذكرت له قصص كثيرة في ذلك لا يسعنا الآن حصرها وكلها دلت على أن كل همه في هذه الدنيا هو بطنه فهو (كالبهيمة المربوطة همها علفها)، ومن جرائمه قتله عبد الله بن محمد بن الحنفية، والحسن المثنى بن الإمام الحسن السبط (عليه السلام) بالسم.
وقد استدعى مغنياً مخنثاً اسمه الدلّال وأقام معه لمدة شهر يشرب الخمر على غنائه، ولما طلب منه والي مصر الرفق بالناس والتخفيف من الخراج المفروض عليهم قال له: (احلب الدر فإذا انقطع فاحلب الدم) !!
3 ــ عمر بن عبد العزيز
هذا الرجل الذي كثر الحديث عن عدله واستقامته وتقواه وإيمانه حتى وُضعت فيه المعاجز والخوارق، كان للتاريخ رأياً آخر فيه حيث تؤكد الحقائق التاريخية بأنه كان قبل الخلافة عظيم الثراء و(من أخيل الناس مشية) و(إذا مشى خطر بيديه) وقد شارك من قبله من الحكام جرائمهم فقد تولى لمن قبله على الطائف
وكان عمر متهالكاً على الخلافة أيّما تهالك وهو يعلم أنها لا تحل له ولا تليق به وليس بأهل لها، وكان يتوسّل برجاء بن حيوة ــ وهو من قواد الأمويين ــ ليذكره عند سليمان الذي كان على فراش الموت فنهره ابن حيوة وقال له: إنك لحريص على الخلافة. فاستحيا.
وقد استعجل دفن سليمان وهو حي لم يمت بعد، حيث نزل هو مع ثلاثة من ولد سليمان إلى القبر وكان حريصاً على أن يُطمر بسرعة لكن سليمان تحرك فصاح أولاده عاش أبونا ورب الكعبة. فصاح بهم: بل عوجل أبوكم. وأهال عليه التراب.
ويتضح من خلال هذه الرواية أنه كان يتظاهر العدل ومن يستقرأ تاريخ تلك الفترة يجد أن الظروف قد فرضت عليه سلوك هذا الطريق امتصاصاً لنقمة الناس الساخطين على سياسة بني أمية الجائرة، والحد من الثورات الكثيرة في عهدهم. فمنع سب أمير المؤمنين (عليه السلام) وأرجع فدكاً ليخمد لهيب الثورات العلوية.
وتدلنا رواية أبي بصير على ذلك حيث يقول: (كنت مع الباقر (عليه السلام) في المسجد، إذ دخل عليه عمر بن عبد العزيز، عليه ثوبان ممصران، متكئاً على مولى له، فقال (عليه السلام): ليَلِيَنَ هذا الغلام، فيظهر العدل، ويعيش أربع سنين ثمّ يموت، فيبكي عليه أهل الأرض، ويلعنه أهل السماء. فقلنا: يا ابن رسول الله، أليس ذكرت عدله وإنصافه ؟ قال: يجلس في مجلسنا، ولا حقّ له فيه، ثمّ ملك وأظهر العدل جهده)
وكلمة يظهر لها مدلول لا يخفى، وقال الإمام الصادق (سلام الله عليه) أيضاً في حقه (فيبكيه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء) فهو إن كان قد أظهر العدل وخدع الناس بعدله فهو لن يخدع أهل السماء، وتوليه الخلافة وحده كان كافياً لأن يلعنه أهل السماء لأنه اغتصب حقا ليس له.
وقد حاججه الإمام الباقر (عليه السلام) في أمر الخلافة ولم يرتدع كما في الرواية لما تسلم عمر بن عبد العزيز الخلافة قال: قد كلَّمت سائر الناس، وأحبُّ أن أكلم الشيعة، فجاء إليه الإمام (عليه السلام) ومعه زرارة بن أعين، فقال له:
أخبرني عن مقعدك الذي أقعدته، أبإرث من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
قال: لا .
قال: أفبوصيَّة منه ؟
قال لا .
قال: فبإجماع المسلمين أنه لا أحد أولى بها منك ؟
قال: لا .
4 ــ يزيد بن عبد الملك
حياة هذا الرجل مليئة بالمخازي ويندى لها جبين أي إنسان، وهو وصمة عار في التاريخ، كان يسمى بـ (خليع بني أمية) وقد عاش ماجناً سكيراً وترك أمر البلاد للولاة الطواغيت والقادة المتوحشين كالجراح الحكمي الذي سفك من الدماء ما لا حصر له وعم البلاد الظلم والجور، وجلس هو في قصره مع جاريتيه (حبابة) و(سلامة) يضع حبابة يمينه وسلامة عن يساره ثم يشرب إلى أن يسكر، وتغنيانه فيطرب، وقد هام بالأولى وبنى لها قصراً وفيما هو معها وهما يتسامران إذا شرقت بحبة عنب فماتت، فجن جنون يزيد وبقي ثلاثة أيام وهو لا يصدق أنها ماتت ويرفض دفنها حتى أصبحت جيفة منتنة، فقبل بدفنها، ولكن اشتاق إليها فأمر بنبش قبرها بعد ثلاثة أيام لينظر إليها وأمر بإخراجها فلما ألحوا عليه عدل عن رأيه وبقي حزيناً حتى مات حزناً عليها بعد سبعة عشر يوماً.
5 ــ هشام بن عبد الملك
هشام بن عبد الملك كان هذا الخليفة مجمعاً للرذائل والفواحش والسيئات فكان (خشناً فظاً غليظاً بخيلاً شديد البخل حسوداً ظلوماً شديد القسوة بعيد الرحمة طويل اللسان)، كان حقوداً علي ذوي الاحساب العريقة، ومبغضاً لكل شريف، وفي عهده عمّ الجور والفساد البلاد الإسلامية، وزادت النقمة الجماهيرية عليه فشبّت ضده العديد من الثورات أبرزها ثورة زيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) والتي انتهت بمقتله على يد عامل هشام يوسف بن عمر فأمر هشام بصلب زيد وحرقه ونسفه في اليم وكان من أسباب ثورة زيد أن على هشام أن هشام سبّ الإمام الباقر في محضره وكان في مجلس هشام رجل سبّ رسول الله فنهره زيد فقال له هشام لا تؤذ جليسنا !
قال المسعودي في صفة هشام: (وكان أحول شديد انقلاب العين.. شكس الأخلاق, دقيق النظر, جامعاً للأموال, قليل البذل للنوال).
كما وصفه الكميت بن زيد الأسدي عندما حبسه بالقول:
أتحبِسُني بين المدينةِ والتي *** إليها قلوبُ الناسِ يهوى منيبُها
يقلّبُ رأساً لم يكن رأسَ سيِّدٍ *** وعـيـنٌ له حولاء بادٍ عيوبُها
وكان هشام شديد البغض للعلويين، وقد تعرض الإمام الباقر منه إلى كثير من البلاء حيث أمر باستدعائه مع ابنه الإمام الصادق (عليهما السلام) من المدينة إلى الشام وإيذائهما وسجنهما حتى آل الأمر إلى قتل الإمام على يديه بالسم
هذه سير هؤلاء الخمسة فهل ينطبق مفهوم الخلافة ومسؤلياته الخطيرة في الأمة عليهم ؟
أهم الذين ترجع الناس إليهم في أحكام الدين، والاقتداء بهم في مسائل حرامه وحلاله، واللجوء لقولهم في شؤون العقيدة، واللوذ بهم حينما يهدد البلاد الإسلامية الخطر ؟ نترك الجواب للقارئ
سيرة النبوة
تجسدت في الإمام الباقر (عليه السلام) شمائل النبوة وتمثلت فيه صفات الإمامة والخلافة فهو وريثهما والإمام الشرعي في وقته فهو أفقه الناس وأعلمهم وأفضلهم وأورعهم وأتقاهم وأكرمهم وقد شهد معاصروه له بذلك:
ففي علمه يقول عبد الله بن عطاء المكي ــ وكان من كبار العلماء ــ: (ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي لتواضعهم له ولقد رأيت الحكم بن عتيبة - مع جلالته في القوم - بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه)
ويقول فيه ابن حجر العسقلاني: (أظهر من مخبآت كنوز المعارف، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف، ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة، أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثمّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علَمه ورافعه، صفا قلبه، وزكا علمه وعمله وطهرت نفسه وشرف خلقه وعمرت أوقاته بطاعة الله، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلّ عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة ...)
وقال فيه الذهبي: (كان الباقر أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤود والشرف والثقة والرزانة، وكان أهلاً للخلافة).
وقد روى محمد بن مسلم عنه (عليه السلام) ثلاثين ألف حديث، وروى عنه جابر بن يزيد الجعفي سبعين ألف حديث. وكان جابر إذا روى عنه (عليه السلام) حديثا قال: (حدثني وصف الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام).
وقد أحصى العلامة الشيخ محمد حسن آل ياسين أسماء (470) من العلماء ممن روى عنه وتعلم منه.
أما في عبادته فيقول ابن كثير: (كان ذاكراً خاشعاً صابراً من سلالة النبوة رفيع النسب عالي الحسب)
وقال أبو نعيم الأصفهاني: (كان يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة)
وفي كرمه يقول الشيخ المفيد: (وكان مع ما وصفناه من من الفضل في العلم والسؤدد والرئاسة والإمامة، ظاهر الجود في الخاصة والعامة، مشهور الكرم في الكافة، معروفا بالتفضل والاحسان، مع كثرة عياله وتوسط حاله)
وقالت مولاته سلمى: (كان يدخل عليه بعض إخوانه فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب، ويكسوهم في بعض الأحيان ويعطيهم الدراهم فكنت أكلمه في ذلك لكثرة عياله وتوسط حاله فيقول: يا سلمى ما حسنة الدنيا إلا صلة الإخوان والمعارف)
وخلاصة الأقوال ما قال فيه الشيخ المفيد (قدس سره الشريف): (وكان الباقر أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام من بين إخوته خليفة أبيه علي بن الحسين ووصيه والقائم بالإمامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل في العلم والزهد والسؤدد، وكان أنبههم ذكراً وأجلهم في العامة والخاصة وأعظمهم قدراً، ولم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما السلام من علم الدين والآثار والسنة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر عن أبي جعفر عليه السلام، وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين، وصار بالفضل به علما لأهله تضرب به الأمثال، وتسير بوصفه الآثار والأشعار).
وقد أجاد الشاعر محمد بن كعب القرظي (40 ــ 108 هــ) في وصفه (عليه السلام):
يا باقرَ العلمِ لأهلِ التقى *** وخيرَ من لبّى على الأجبلِ
وقال مالك بن أعين الجهني فيه:
إذا طلبَ الناسُ علمَ الـقـران كـانـتْ قريشٌ عليهِ عِيالا
وإن قيلَ: أين ابن بنت النبي؟ نلتَ بذاكَ فروعاً طوالا
نـجـومٌ تـهـلـلُ للمـدلجين *** جبالٌ تورّث علماً جبالا
وقال أخوه زيد بن علي (عليه السلام) في رثائه:
ثوی الباقرُ الـعلمِ في ملحدِ *** إمـامُ الـوری طـيـبُ المولدِ
فمنْ لي سـوی جـعفرٍ بعده *** إمامِ الوری الأوحدِ الأمجدِ
أبا جعفرِ الخير أنتَ الإمام *** وأنتَ المرجّی لـبـلـوی غدِ
محمد طاهر الصفار