يوافق آخر ذي القعدة الذكرى الأليمة لاستشهاد الإمام أبي جعفر محمد بن علي الجواد عليه السلام، وبهذه المناسبة نسلط الضوء على عبقات من سيرته المباركة.
تميز الامام الجواد عليه السلام بأنه تولى مسؤولية الامامة بعد استشهاد ابيه الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام على يد المأمون العباسي، وهو لم يتجاوز 8 سنوات من عمره الشريف كما انه استشهد، وهو مايزال في ريعان الشباب ايضا حيث لم يتجاوز عمره الشريف 25 عاما.
ورغم قصر عمره الشريف الا ان حياته كانت حافلة بالتطورات وزخرت بالعطاء العلمي ونشر معارف اهل البيت عليهم السلام وبيان فضلهم على من سواهم حتى رزقه الله الشهادة فقتل مسموما على يد زوجته ام الفضل بنت المأمون بتحريض من عمها المعتصم العباسي والتحق بآبائه الطاهرين في آخر ذي القعدة عام 220 هـ ودفن في بغداد الى جوار جده الإمام السابع موسى بن جعفر عليهما السلام.
وقبل مولده الشريف كان الشيعة ينتظرون بفارغ الصبر ولادته من أبيه الإمام الرضا عليهما السلام ، وذلك لعلمهم بهذا الأمر، اذ تجاوز عمره الشريف أكثر من أربعين سنة ولكنه لم يرزق ولداً بعد، وكان يجيب حين يسأل عن وارثه: “إن اللّه سوف يرزقني ولداً يكون الوارث لي والإمام من بعدي”.
وأزالت ولادة الإمام عليه السلام القلق من قلوب اتباع اهل البيت عليهم السلام حيث كان يحزنهم أن لايكون للإمام الرضا عليه السلام خليفة.
وتميز عصر الإمام الجواد عليه السلام بوجود المأمون على كرسي خلافة بني العباس الذي اشتهر بالدهاء وأساليب التحايل التي تبطن العداء وتظهر المودة لاتباع اهل البيت وعلى رأسهم الامام الجواد عليه السلام.
ومن سبق المأمون في الحكم كانوا يواجهون الأئمة عليهم السلام وأتباعهم باساليب البطش والحديد والنار وقد رأى بعينه كيف كان أبوه هارون الرشيد يتعامل مع الشيعة بكل قسوة لكنه علم أن هذا الأسلوب من التعامل معهم وأئمتهم لن يزيدهم إلا قوة وتمسكاً بخطهم وظهرت بوادر تشير الى زعزعة اركان حكم بني العباس لذلك اختار اسلوب التعامل بدهاء ومكر يبطن القسوة والنار للحفاظ على كرسي سلطانه من الثورات التي اشتدت في ارجاء عديدة من العالم الاسلامي ضد حكم بني العباس المزيف بقرابة الرسول الاكرم (ص) بعد ماتبين للناس حقيقة اجرامهم.
خطة المأمون
ارتكزت خطة المأمون مع اتباع اهل البيت عليهم السلام على محاولة تضعيف الفكر الشيعي والطعن به من الداخل بشكل يحدث زلزالاً في صميم عقائدهم فيقضي عليهم بشكل لا تقوم لهم قائمة بعده. وقد لاحظ أن الإمامة هي الحصن الأساسي لهذا الفكر. من هنا كانت محاولاته ترمي لتحقيق مايلي:
1 – محاولة تحطيم عقيدة الشيعة بعصمة الإمام عليه السلام من خلال استدعائه إلى دار الخلافة وإرغامه على العيش في القصور لاسقاط شخصيته الثورية.
2 – شن هجمات متتالية على شخصية الإمام العلمية عبر عقد المناظرات مع أبرز العلماء الذين تصل يده إليهم بحضور رؤساء القوم وأشرافهم بغية وقوع خطأ أو توقف في الرد من قبل الامام فيحصل مراد المأمون.
3 – وفي النهاية اذا باءت كل محاولات السلطان السابقة في تحطيم فكرة الإمامة فهو على الأقل سيضمن إبقاء الإمام إلى جانبه وعكس صورة للناس بانه كسائر اتباعه ممن يعيشون في القصور فيتحول الشيعة من معارضين إلى اتباع ايضا.
4- شكلت عقيدة الشيعة بالتقية والخفاء تحد حقيقي لسلطان بني العباس ، لذلك فان استدعاء الامام الجواد من مدينة جده الرسول الاكرم (ص) الى بغداد ليكون قريبا من المأمون وتحت اشرافه المباشر طيلة الليل والنهار مايسمح له برصد نشاطاته واتصالاته وبالتالي الحد من مخاطر المعارضين من اتباع اهل البيت عليهم السلام وضمن استمراره في الحكم بأمان وراحة بال.
وكان المأمون قد واجه والده الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام بذات الاسلوب والسياسة نفسها ولكن سياسته باءت بالفشل الذريع ولم يستطع أن يسجل موقفاً واحداً على الإمام يستطيع أن يستفيد منه في خطته هذه إلى أن فقد الأمل ووجد أن الدّفة تميل لغير صالحه وأن الإمام الرضا عليه السلام، وبسبب هذه المناظرات والمواقف الحازمة انتشرت شهرته في البلاد وحبا شديداً بين العباد، وشيعته تزداد يوماً بعد يوم، فلم يبق أمامه إلا حل واحد وهو التخلص من وجوده الشريف فدس له السم فاستشهد الامام عليه السلام ودفن في ارض خراسان /مدينة مشهد حاليا الواقعة بشمال شرق ايران.
وفي هذه الظروف والأجواء انتقلت المواجهة إلى الإمام الجواد عليه السلام وكان له من العمر ما يقارب ثمان سنوات، وعندها وجد المأمون نفسه في مواجهة الإمام الذي ما يزال صغيرا في عمره، فتجدد أمله بتحقيق مخططه باستخدام اسلوبه القديم، فإن من يواجهه ليس الإمام الرضا عليه السلام بل هو ابنه الصبي الذي لم يبلغ الحلم، ومن كان في عمره عادة يعجز عن مناظرة كبار العلماء أو الصمود أمام مغريات السلطان ودار الخلافة بكل ما فيها، من هنا كانت خطة المأمون في استدعاء الإمام الجواد عليه السلام إلى بغداد.
الإمام الجواد عليه السلام يحبط مخططات المأمون
أدرك الإمام الجواد عليه السلام سياسة المأمون منذ اللحظة الأولى التي وطأت قدماه بغداد، وجابهها بكل قوة غير آبه بقوة السلطان وزخارف ملكه ومحاولات استمالته من اجل احتواءه وقد تضمن ذلك محطات رواها التاريخ منها:
1 – على الصعيد العلمي، هيأ المأمون للمناظرات بين الإمام الجواد عليه السلام وبين قاضي قضاة الدولة العباسية يحيى بن أكثم المعين من قبله والمقرب منه بحضور حشد كبير من الفقهاء والعلماء والامراء والوجهاء، في صالة كبرى بقصره في بغداد وطلب المأمون من ابن اكثم اعداد سؤال يعجز عنه جميع الفقهاء والعلماء فضلا عن صبي لم يتجاوز عمره الشريف 9 اعوام حيث قال «اطرح على أبي جعفر محمد بن الرضا عليه السلام مسألة تقطعه فيها» وقد فكر يحيى بن اكثم كثيرا قبل فترة طويلة حيث كان يعد نفسه للمناظرة التي أمل فيها ان يقترب من الخليفة بعد اظهار عجز الامام عن الجواب امام الملأ العام.
وحان موعد المناظرة والنقاش بحضور زعماء القوم وعليه الاشراف والوجهاء فسأل يحيى الامام الجواد عليه السلام: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا؟.
فتبسم الامام عليه السلام بالرد عليه في ان هذا السؤال ناقص وينبغي اكماله فتلجلج لسان ابن اكثم فاوضح الامام السؤال وأكمله:
“هل قتله في حل أو حرم، عالما كان المحرم أو جاهلاً، قتله عمداً أو خطأً، حراً كان المحرم أو عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أو معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد أم من كبارها، مصراً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان قتله للصيد أم في النهار، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟”.
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتى انكشف فشله واحباطه امام كبار القوم والعلماء.
ثم شرح الإمام عليه السلام بعد ذلك تفصيل هذه المسائل قائلاً:
“إن المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير، وكان من كبارها، فعليه شاة، فان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، وإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، و إن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، وإن كان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة. وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه، وكان إحرامه بالحج نحره بمنى، وإن كان إحرامه بالعمرة نحره بمكة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء وفي العمد عليه المأثم وهو موضوع عنه في الخطاء، والكفارة على الحر في نفسه، وعلى السيد في عبده، والصغير لا كفارة عليه، وهي على الكبير واجبة والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الاخرة والمصر يجب عليه العقاب في الاخرة”.
وكان من اثار هذه المناظرات أن انتشر فكر اهل البيت عليهم السلام وشاع وبانت قوته ومتانته وعلوّه، فانقلب السحر على الساحر.
2 – وأما من جهة العصمة، فقد حاول المأمون الطعن بها وتسجيل ولو خطأ واحد على الإمام الجواد عليه السلام ، وبذل لذلك كل ما أمكنه، فعن محمد بن الريان قال: «احتال المأمون على أبي جعفر عليه السلام بكل حيلة فلم يمكنه فيه شيء فلما أراد أن يبني عليه ابنته دفع إلى مائة وصيفة من أجمل ما يكنّ إلى كل واحدة منهن جاماً فيها جوهر يستقبلون أبا جعفر عليه السلام إذا قعد في موضع الختان، فلم يلتفت إليهن، وكان رجل يُقال له مخارف صاحب صوت وعود وضرب، طويل اللحية فدعاه المأمون فقال: يا أمير المؤمنين إن كان في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره، قعد بين يدي أبي جعفر عليه السلام لا يلتفت إليه لا يميناً ولا شمالاً، ثم رفع رأسه عليه، وقال عليه السلام : (اتقِ الله يا ذا العثنون)، قال: فسقط المضراب من يده والعود فلم ينتفع بيده إلى أن مات.
3- ورغم الحقيقة الراسخة في عصمة الإمام عليه السلام إلا أن المأمون كان قادراً على الاستفادة من وجود الإمام في قصر الخلافة من الجهة الإعلامية ليعكسها بشكل سلبي على الشارع الشيعي، وقد واجه الإمام عليه السلام ذلك أيضاً واسقطه، فقد روي عن الحسين المكاري قال: دخلت على أبي جعفر ببغداد وهو على ما كان من أمره، فقلت في نفسي: هذا رجل لا يرجع إلى موطنه أبداً وما أعرف مطعمه؟ قال: فأطرق رأسه ثم رفعه وقد أصفر لونه.
فقال عليه السلام: “يا حسين خبز شعير وملح جريش في حرم رسول الله أحب إلي مما تراني فيه”.
4- لم يستطع المأمون أن دفع الشيعة للسقوط في مخططاته وسياساته والاستفادة منهم كأتباع خانعين لسلطان بني العباس، بل على العكس فقد استفاد الإمام الجواد عليه السلام من هذه السياسة في تقوية المشروع الإسلامي الأصيل وترسيخ دعائم اهل البيت عليهم السلام.
﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾
واستمر المأمون بسياسته هذه يحصد الفشل تلو الاخر إلى أن توفي وحكم بعده أخوه المعتصم، فسار مدة بسيرة المأمون، ولكنه سرعان ما فقد الأمل ايضا من تحقيق أهدافه، وفهم الاثار التي تحصل بسبب هذه السياسة التي لم تزد مخططاته إلا ضعفاً وسلطانه الا وهنا والشيعة إلا علوا ومتانة، وأحس بالاحباط والفشل فتخلى عن سياسته هذه وعاد الى سياسة اسلافه القائمة على استخدام الحديد والنار شان كل ضعيف لا يقدر على مواجهة الكلمة والفكر، فدس السم للامام الجواد واستشهد عليه السلام عن عمر لم يتجاوز الخامسة وعشرين عاماً.
المصدر: وكالة الحوزة