سلوك سيد الشهداء عليه السلام وسيرته الأخلاقيّة تعكس سمو نفسه وتربيته في حجر جدّه محمّد صلّى الله عليه وآله وأبيه علي عليه السلام ، وتجسيده للقرآن الكريم في عمله وأخلاقه.
وقد تجسدت خصاله الكريمة وسجاياه السامية في مختلف الميادين والمواقف في ثورة الطف ، منها رفضه القاطع مبايعة يزيد ، فخرج من المدينة وامتنع عن مبايعته حتّى في أقسى الظروف التي مرّت به في كربلاء من حصار وعطش ومختلف التحدّيات، بل استقبل الموت بعزّة وشموخ، وسقى الحرّ وجيشه طوال الطريق ، وقَبِل يوم عاشوراء توبة الحرّ.
و من سمات هذه النهضة الأخلاقيّة، يمكننا الإشارة إلى النقاط التالية :
١ ـ الإيثار :
وهو من أبرز المفاهيم والدروس المستقاة من واقعة الطف ، والإيثار يعني الفداء وتقديم شخص آخر على النفس ، وبذل المال والنفس والنفيس فداءً لمن هو أفضل من ذاته. وفي كربلاء شوهد بذل النفس في سبيل الدين ، والفداء في سبيل الإمام الحسين عليه السلام ، والموت عطشاً لأجل الحسين عليه السلام ، وأصحابه ما داموا على قيد الحياة لم يدعوا أحداً من بني هاشم يبرز إلى ميدان القتال ، إيثاراً منهم على أنفسهم.
وفي ليلة عاشوراء لمّا رفع الإمام عليه السلام عنهم التكليف لينجوا بأنفسهم ، قاموا الواحد تلو الآخر ، وأعلنوا عن استعدادهم للبذل والتضحية.
ووقف بعض أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ظهيرة يوم عاشوراء ، عندما وقف لصلاة الظهر ، يقونه سهام العدو بصدورهم ، وخاض العبّاس نهر الفرات بشفاه عطشى ، ولما أراد تناول الماء تذكّر عطش الحسين والأطفال فلم يشرب منه.
ورمت زينب عليها السلام بنفسها في الخيمة المشتعلة بالنار لإنقاذ الإمام زين العابدين منها ، وحينما صدر الأمر في مجلس يزيد بقتل الإمام السجّاد عليه السلام فدته زينب عليها السلام بنفسها.
وهناك أيضاً عشرات المشاهد الاُخرى التي يعتبر كلّ واحد منها أروع من الآخر ، وكلّ موقف منها يعطي درساً من دروس الإيثار للأحرار ، فإذا كان المرء على استعداد للتضحية بنفسه في سبيل شخص آخر أو في سبيل العقيدة ، فهذا دليل على عمق إيمانه بالآخرة والجنّة وبالثواب الإلهي.
٢ ـ الشجاعة :
وهي الاقدام عند منازلة الخصوم وعدم تهيّب المخاطر ، واقتحام الخطوب ، وتعتبر الشجاعة من الصفات المهمّة التي تميّزت بها شخصيّة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته، إذ نقرأ عن الإندفاع والحماس المنقطعي النظير الذي جسدوه في سوح الوغى ، والتسابق على بذل الأرواح رخيصةً فداءً للدين والمبادئ.
ورسمت ملحمة كربلاء،منذ انطلاقها وحتّى مراحلها الأخيرة، مشاهد تتجسّد فيها معالم الشجاعة بشتّى صورها ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، فالتصميم الذي أبداه الإمام الحسين عليه السلام في معارضة يزيد ورفض البيعة له ، وعزمه الراسخ على المسير نحو الكوفة والتصدّي لأنصار يزيد ، من أمثال ابن زياد ، وعدم إنهيار معنويّاته لسماع الأخبار والأوضاع التي كانت تجري في الكوفة ، وإعلانه على الملأ عن الإستعداد لبذل دمه والتضحية بنفسه في سبيل إحياء الدين ، وعدم الخوف من كثرة الجيش المعادي على الرغم من كثرة عدده وعدته ، ومحاصرة هذا الجيش له في كربلاء ، مع عدم استسلامه ، والقتال العنيف الذي خاضه بعد ذلك مع جنوده وأهل بيته ، وصور البطولة الفرديّة التي أبداها أخوه العبّاس ، وعلي الأكبر ، والقاسم ، وعامّة أبناء علي وأبناء عقيل ، والخطب التي ألقاها الإمام السجاد وزينب عليهما السلام في الكوفة والشام وغيرها من المواقف والمشاهد البطولية تعكس بأجمعها عنصر الشجاعة الذي يعدّ من أوّليات ثقافة عاشوراء.
وكنتيجة لما يتحلّى الحسين عليه السلام وأسرته من شجاعة حصّلوا على أكبر عدد من أوسمة الشهادة.
يقول عباس محمود العقاد : « فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدّة وقدرة … وحسبه أنّه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين ».
ومع أنّ الأرقام التي تذكرها المقاتل عن عدد قتلى العدوّ نتيجة لهجوم أصحاب الإمام عليهم ، قد تكون مبالغاً فيها ، إلّا أن الأمر الثابت الذي لا يمكن إنكاره هو الشجاعة المثيرة لهذه الثلّة المؤمنة ، التي بذلت نفسها في سبيل الله ، ولم تطاوعها نفسها بترك قائدها في الميدان وحده.
٣ ـ الشهامة والمروءة :
وتعتبر من المعالم الأخلاقيّة والنفسيّة البارزة لدى الحسين عليه السلام وأنصاره ، والتي تجسّدت في ملحمة عاشوراء ، وهذه النفسيّة التي تجعل الإنسان يشمئز من الطغاة ، ويرفض الانصياع لسلطان الظلم ، ويحبّ الحريّة والفضيلة ، ويتجنّب الغدر ونقض العهد وظلم الضعفاء ، ويدافع عنهم ، ولا يتعرض للأبرياء ، ويقبل العذر ، ويقيل العثرة ، ويعترف بالحقّ الإنساني للآخرين. هذه الأمور كلّها تعتبر من معالم الشهامة والمروءة التي تجسدت على أرض الطف.
لقد رفض سيّد الشهداء عليه السلام عار البيعة ليزيد ، ولما واجه جيش الكوفة في طريق كربلاء ، رفض اقتراح زهير بن القين الذي أشار عليه بمحاربة هذه الفئة من قبل أن يجتمع إليهم سائر الجيش ، وقال عليه السلام : « وما كنت لأبدأهم بالقتال »، وهذا نموذج رائع من شهامة الحسين عليه السلام.
وفي قيظ يوم عاشوراء واشتداد حرّ الرَّمضاء ، لما رأى الحسين عليه السلام هجوم الجيش على خيام عياله صاح بهم يعنّفهم : « ويلكُم ! إنْ لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا في أمر دُنياكم أحرارا ذوي أحساب ، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهّالكم ».
وهذا أيضاً شاهد آخر على مروءته وشهامته ، فهو ما دام حيّاً لم يكن قادراً على رؤية العدوّ وهو يهجم على عياله ، وقد شوهدت هذه الغيرة والحميّة من الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره في ساحة القتال يوم العاشر من المحرّم.
٤ ـ العزّة ورفض الذّل :
وهي من أهمّ الدروس الأخلاقيّة التي ميّزت نهضة كربلاء ، ومن أوّليات ثقافة عاشوراء. قال الحسين عليه السلام : « موت في عزّ خيرٌ من حياة في ذلّ ».
وقال عليه السلام لما عرضوا عليه الإستسلام والبيعة : « لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد » (۱۷). وفي كربلاء حينما خيّروه بين البيعة أو القتال ، قال : « ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنين وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام »وعند اندلاع معركة الطفّ كان يكرّ على صفوف العدوّ مرتجلاً .
لقد كانت نهضة كربلاء درسا عمليّاً من دروس العزّة والكرامة ورفض الذلّ ، واستلهم الثوّار منها روح المقاومة والتحرّر.
٥ ـ الصبر :
ويعني الثبات والصمود والمقاومة ، ومجابهة العوامل التي تعيق الإنسان عن بذل مساعيه في سبيل هدفه ، إضافة إلى تحمّل المصاعب والشدائد في سبيل أداء الواجب وإحراز النصر.
وقد رسمت واقعة كربلاء أجمل صور الصمود والثبات في سبيل العقيدة وتحمّل الصعاب ، حتّى أضحت سبباً لمجد وخلود تلك الملحمة ، وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام : « الصبر يهوّن الفجيعة »، فقد هانت بعين الحسين عليه السلام هذه المصيبة الجسيمة بفعل الصبر والصمود الذي تجسّد في يوم عاشوراء ، لقد أنزل الله تعالى عليه الصبر بقدر التحديات والمصائب التي ألّمت به ، وصدق الإمام الصادق عليه السلام « إن الله ينزل الصبر على قدر المصيبة ».
وفي ملحمة كربلاء كان الصبر مشهوداً في القول والفعل لدى سيّد الشهداء عليه السلام وأهل بيته وأصحابه الصابرين الأوفياء ، فلمّا أراد الخروج من مكّة إلى العراق ألقى خطبة قال فيها :
« رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفينا أجر الصابرين ».
وخاطب أصحابه في أحد المنازل على طريق العراق ليلفت أنظارهم إلى خطورة الموقف وصعوبة ما هم مقبلين عليه فقال : « أيّها الناس ، من كان منكم يصبر على حدّ السّيف وطعن الأسنّة فليقم معنا ، وإلّا فلينصرف عنّا »،ولكن أصحابه لم يبدر منهم إلّا ما أحبّ هو من الصبر عند لقاء الأقران ، وتحمّلوا شدّة العطش ، وضراوة هجوم العدوّ ، نتيجة الصبر والثبات على الشهادة على الرغم من قلّة الناصر ، بل كانوا في غاية الفرح والسرور ، حتّى ان بعضهم كان يمازح في تلك الساعة ، كما سيأتي. وكان الحسين عليه السلام يكرر على أسماعهم ويذكرهم بأهميّة الصبر ، قائلاً : « صبراً يا بنيّ عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، فوالله لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبداً ».
وعلّم درس الصبر للنساء لعلمه باتصافهنّ بالرّقة وسرعة الجزع عند المصيبة ، فقد جمع أخته زينب عليها السلام ونساءه ودعاهن إلى الصبر والتحمّل قائلاً : « يا أختاه تعزّي بعزاء الله ، فإنّ سكّان السماوات يفنون ، وأهل الأرض كلّهم يموتون ، وجميع البريّة يهلكون ، ثمّ قال :
«يا أختاه يا أمّ كلثوم ، وأنت يا زينب وأنت يا فاطمة وأنت يا رباب ، انظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن عليَّ جيباً ، ولا تخمشن عليَّ وجهاً ، ولا تقلن هجراً ».
وكانت كلّ لحظة من وقائع الحادثة تعبيراً عن المقاومة والثبات ، وحتّى الكلمات الأخيرة التي تلفّظ بها سيّد الشهداء حين سقط على الأرض إنّما تعكس هذه الروح من الصبر والصمود ، إذ قال مخاطباً ربّه :
« صبراً على قضائك ، ولا معبود سواك ، يا غياث المستغيثين ».
٦ ـ الوفاء :
الوفاء معناه التمسّك بالعهد والثبات على الميثاق والعمل بالواجب الإنساني والإسلامي في إزاء شخص آخر جدير بذلك. وهذه الخصلة من أولويّات معجم عاشوراء ، ولها في قاموس الشهداء مكانة رفيعة ، وهي من أشرف الخصال ودليل على المروءة. قال علي عليه السلام : « أشرف الخلائق الوفاء ».
وكانت عاشوراء ساحة وفاء من جهة ، وغدر من جهة اُخرى ، وضرب العباس بن علي عليه السلام مثلاً في الوفاء ، فقد رفض كتاب الأمان الذي عرضه شمر بن ذي الجوشن عليه. ولم يترك أخاه الحسين وحيداً ، وقدم أخوته الثلاثة فداءً له.
صفوة القول وصفت ثورة الحسين عليه السلام بأنّها قامت على أساس الأخلاق والمروءة. وكانت جهاداً للقضاء على الرذيلة ونشر الفضيلة. وكانت تنتهج الأسلوب الشريف عند مواجهة الخصم ، وتحلّى أفرادها بالغيرة والشجاعة والتضحية ، والصبر عند الشدائد ، والثبات على طريق الحقّ.
أجل …
إن ليلة عاشوراء …هي ليلة الفجيعة، ليلة الاصحاب الذين اختبر أبو عبد الله نياتهم فوجدهم آنس بالموت بين يديه من الرضيع بلبن أمه، منهم شيخ القراء، وكبير العشيرة، وفتية أمنوا بربهم، وصمدوا على بيعة إمامهم.. فكانت لهم الجنة.
اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا اَبا عَبْدِاللّهِ
وَ عَلَى الاَْرْواحِ الَّتى حَلَّتْ بِفِنآئِكَ
عَلَيْكَم مِنّى سَلامُ اللّهِ اَبَداً
ما بَقيتُ وَ بَقِىَ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ
وَلا جَعَلَهُ اللّهُ اخِرَالْعَهْدِ مِنّى لِزِيارَتِكُمْ
اَلسَّلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ وَ عَلى عَلِىِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَ عَلى اَوْلادِ الْحُسَيْنِ وَ عَلى اَصْحابِ الْحُسَيْنِ.
من الأولين والآخرين
المصدر: شفقنا