من الصعب جدا ان تختار جانبا من جوانب شخصية العباس بن امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب عليهم السلام ، من دون ان تبلغ في هذا الجانب ، اقصى مداه في الكمال والتمام ، الى حد تجاوز حد مديات الملاحم والاساطير ، التي خلدت ابطال وعظماء الشعوب ، منذ القدم وحتى يوم الناس هذا.
عندما يُذكر اسم العباس ، تُذكر الاصلاب الشامخة والارحام المطهرة ، تُذكر الشجاعة بتمام معناها ، تُذكر الرجولة بأسمى تجلياتها ، تُذكر التضحية بأروع صورها ، يُذكر الوفاء الى حد الاسطورة ، يُذكر الحب الى درجة الذوبان ، تُذكر تعاليم الاسلام فاذا هي رجل اسمه العباس.
ولادته ، كانت بحد ذاتها ، صورة من صور الملاحم ، فالتاريخ يذكر ان الامام علي بن ابي طالب (ع) ، اوصى اخيه عقيل ، وهو العارف بأنساب العرب ، أن يختار له زوجة ، بعد وفاة السيدة فاطمة ألزهراء (ع) ، لترعى أبناءه الحسن والحسين وزينب ، وتكون ولدتها الفحول ، لتلد له فحولا يكونون عونا لاخوانهم ، فاختار عقيل ، السيدة فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابية ، فنعم من أختار ، فكانت أم البنين (ع) ، أم العباس ، فارس كربلاء.
ألق العباس الخالد ، ليس مرده شجاعته وقوته ، فهناك الكثير من الشجعان والاقوياء على مر التاريخ ، ولكن ان تتزواج هذه الشجاعة بالحكمة والبصيرة والايمان وطاعة الائمة الاطهار ،عندها تكتسي الشجاعة ألقا ، توهج بابهى صوره ، فطف بصر التاريخ ، رغم سني عمر العباس القصيرة.
فارس كربلاء ، العباس ، شارك في معركة صفين التي دارت رحاها بين جيش الاسلام بقيادة الامام علي (ع) ، وجيش بني امية بقيادة معاوية ، وكان عمره ستة عشر عاما ، في بداية المعركة طلب احد اقوى فرسان جيش بني امية ، ابو الشعثاء ، مبارزا ، فخرج اليه رجل ملثم ، كان وضحا انه شاب ، فكره ان ينزل ابو الشعثاء ، فارسل اليه احد اولاده الستة ، فارداه الملثم ، فارسل ابوالشعثاء اولاده الواحد تلو الاخر لمنازلة الملثم ، فندلهم جميعا، فلم يبق الا ابو الشعثاء نفسه ، فضطر الى النزال ولكنه اشترط ان يرفع الفارس لثامه ،فأبي ، الا امير المؤمنين (ع) أمره برفع اللثام فرفعة ، فاذا هو شبل حيدرة ، العباس ، فاستشاط ابو الشعثاء غضبا ، فهجم على العباس ، فبادره ليث ام البنين بضربته اطاحت براسه.
كما سطر اروع صور البطولة في معركة النهروان ، وذلك عندما أوكل اليه امير المؤمنين(ع) مهمة حراسة الجسر الوحيد الذي كان الخوارج يحاولون عبوره لمهاجمة جيش الامام علي (ع) ، من الخلف ، فأفشل العباس كل هجمات الخوارج العديدة ومنعهم من عبور النهر..
كما تذكر كتب التاريخ ،موقفا شجاعا للعباس ، وذلك اثناء تشييع جنازة اخيه الامام الحسن (ع) ، الذي كان من المقرر ان يدفن جسده الشريف جنب جده الرسول الكريم صلى الله عليه واله وسلم ، إلا ان بني امية رفضوا هذا الامر فما كان من العباس أن يرفع سيفه البتار فطلب منه الامام الحسين (ع) التريث مخاطباً إياه “ليس يومك هذا”.
اما موقفه من محاولات بني امية اخد البيعة من الحسين (ع) بالقوة والضغط ليزيد ، فتذكر كتب التاريخ ، ان العباس هجم على قصر والي المدينة ، بعد أن إحتدم النقاش بين الامام الحسين (ع) ومروان بن الحكم حول اخذ البيعة ليزيد ، وبذلك خرج الامام الحسين (ع) مرفوع الرأس يحيط به العباس وبنو هاشم..
الدرس السرمدي الذي تركه العباس للمسلمين والاحرار وكل الانسانية ، فكان درس كربلاء ، الذي ختمه بالشهادة بعد ان قُطعت يداه ، وهُشم رأسه ، ونبتت السهام في عينيه ، دون ان يتزلزل ايمانه بعدالة قضيته ، وصوابية موقفه من ثورة الحسين (ع) ضد الطغيان والجاهلية والتعصب والعنصرية والطائفية.
رغم ان هذه المواقف تكفي لجعل اي انسان رمزا من رموز الشجاعة والاقدام ، الا انها تتضاءل امام طاعته لمولاه الحسين(ع) ووفائه لاخيه في احلك واصعب الظروف ، فالتاريخ يذكر لما أخذ عبد الله بن حزام ابن خال العباس أماناً من ابن زياد للعباس وأخوته فكان جواب العباس: ” لا حاجة لنا في الأمان، أمان الله خير من أمان ابن سمية” ، وعندما نادى شمر: أين بنو أختنا ؟ أين العباس وأخوته ؟ فلم يجبه أحد، فقال الحسين (ع) ، أجيبوه وإن كان فاسقاً، حينها أجابه العباس: ماذا تريد؟ فقال: أنتم يا بني أُختي آمنون، فقال له العباس قولته الشهيرة :”لعنك الله، ولعن أمانك، أتؤمِّننا وابن رسول الله لا أمان له ” ؟! وتكلَّم أخوته بنحو كلامه، ثمّ رجعوا.
المعروف ان العباس كان في العشرين من العمر ، اي في ذروة الشباب ، والمعروف ان للشباب اندفاعا قويا نحو الحياة ورفضا للموت ، ولكن العباس زق العلم زقا كاخوته ، فكان كما قال الامام الصادق (ع) ، نافذ البصيرة ، وعبدا صالحا مطيعا لله ولرسوله.
طاعة العباس للحسين ، لم تنحصر ، بطاعة المسلم لإمامه ، بل ان العباس تماهى مع الحسين حتى بالعطش ، وذلك عندما رسم اروع صورة للحب والوفاء والاخلاص والذوبان في المحبوب ، وهو على ضفة نهر العلقمي غرف منه ليرتوي ويطفئ عطشه واحس ببرودة الماء، فتذكَّر عطش الحسين(ع) ، ورمى بالماء ولم يشرب ، وهو ويقول:
يَا نفسُ مِن بعد الحُسين هوني * مِن بعدِهِ لا كُنتِ أن تَكُوني
هَذا الحُسين وَارِدَ المَنونِ * وتشرَبينَ بَاردَ المَعينِ
تاللهِ مَا هَذي فِعَال دِيني
منزلة العباس لدى ائمة اهل البيت عليهم السلام ، منزلة رفيعة ، فقد قيل في حقه من الاحاديث ما تبين هذه المنزلة ، ومنها ما قاله الامام السجاد (ع) : ” ان لعمي العباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة” ، حتى ان الامام السجاد (ع) هو نفسه من قام بدفنه في مكان خاص وليس مع باقي الشهداء ، لما له من عظيم المكانة عند ائمة اهل البيت عليهم السلام.
لكن يبقى موقف الحسين(ع) من العباس يوم كربلاء ، الشهادة الكبرى والوسام الارفع ، الذي حصل عليه العباس من مؤسس مدرسة كربلاء ، فعندما ملأ العباس القربة بالماء ليحملها للاطفال العطشى ، فحمل على القوم ، وقتل وجرح عدداً منهم، فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة، وعاونه الحكم بن الطفيل السنبسي، فضربه على يمينه، فقطعها، فأخذ العباس السيف بشماله ، فقاتل حتى ضعف، فكمن له الحكم بن الطفيل الطائي من وراء نخلة، فضربه على شماله فقطعه،وجاهد أن يوصلها إلى المخيم، إذ اتاه سهمان فأصابَ احدهماعينه الشّريفة، والآخر أصاب القربة فَأُرِيق ماؤها،وضربه آخر بعمود على رأسه ، فقال عليك السلام يا اخي وكان اول مرة ينادي باخي اباعبد الله ، وهنا قال الحسين (ع) قولته الشهيرة: “الآن اِنكَسَرَ ظَهرِي، وقَلَّتْ حِيلَتي”.
كل صفحات حياة العباس عليه السلام ، دروسا وعبرا ، وكل مواقفه من الاحداث التي مرت في حياته القصيرة ، مشرفة ابلغ الشرف ، فما كنا نقرأ ونسمعه عن ابطال الملاحم والاساطير ، والصفات التي الصقها الشعراء والادباء والكتاب والفلاسفة بهم ،هي صفات تتصاغر امام الصفات التي جسدها العباس بن على بن ابي طالب عليهم السلام ، تجسيدا عمليا ، حتى يمكن القول وبكل ثقة ان العباس حقيقة تجاوزت الاسطورة.
المصدر: شفقنا