إن هذه المحاور المركزية للمنهج الذي يدرس الائمة ، من خلال البناء التحتي لمواقعهم في دنيا الرسالة والاُمة ، هو الذي يعكس واقع الامامة ، وحقيقة الائمة(عليهم السلام) ، ومهامهم ، وأهدافهم ، ويحدد مسؤولية الاُمة تجاههم عبر التاريخ .
على أن الملاحظ أن هذا المنهج لم يكن شاملاً في استيعابه للمطلوب ، إذ لم يتناول إلاّ النادر من الفضائل الظاهرية للائمة(عليهم السلام) ، كما فعل الشيخ الكليني(رحمه الله) الذي أشار إشارات عابرة إلى مصاديق من البعد المعرفي عند الائمة(عليهم السلام) ، في أبواب متعددة من الكافي( 29 ) ، وكما فعل في إشاراته إلى ملبس الامام(عليه السلام) ومطعمه إذا ولي الامر( 30 ) ، فضلاً عن اهتماماته في مواليد الائمة(عليهم السلام) ووفياتهم( 31 ) .
وقد اهتم الحر العاملي(رحمه الله) في «إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات» مثلاً بإبراز عدد هائل من كرامات الائمة(عليهم السلام)ومعاجزهم( 32 ) ، وقد فعل المحدثون من العلماء الاخرين ما يشبه ذلك، كما فعل أبو جعفر محمد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات ، والشيخ الصدوق في «كمال الدين وتمام النعمة» ، والفيض الكاشاني في «علم اليقين» ، وغيرهم .
صحيح أن «الفضائل الباطنية» ـ في مصطلح علماء الاخلاق ـ هي التي تميز مكانة الامام(عليه السلام) على غيره ، إلاّ أن استعراض الفضائل الظاهرية للائمة(عليهم السلام) إلى جانب الاُولى ، حاجة ضرورية لدارسي السيرة وللباحثين عن القدوة ، إضافة إلى أن السيرة العملية للائمة(عليهم السلام) تشكل ثقافة شعبية يتأمل بها الناس ، ويلتمسون حقائق التطبيق لمفاهيم الدين من خلالها ، سواء أكانت في مجال التطبيق في حقل النشاط الفردي ، أو في مجالات العلاقات الاجتماعية وسواها .
وهكذا فإن المنهج الافضل لدراسة حياة الائمة(عليهم السلام) ، أن تجري عملية تلفيقية بين المنهجين ، ولقد حاول المرحوم السيد هاشم البحراني (توفي عام 1109 هـ) أن يتبنى منهجاً وسطاً بين المنهجين ، غير أنه لم يكن موفقاً في مهمته بشكل تام ، وذلك في كتابه «حلية الابرار» ولعل السيد ابن طاووس الحلي(رحمه الله) (توفي عام 664 هـ) قد كان على هذا الطريق في كتابه «الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف» ، والاخيران تناولا موقع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) دون سواه من الائمة(عليهم السلام) .
على أن أفضل تلك المؤلفات كان كتاب السيد هاشم البحراني(رحمه الله) ، لان منحاه كان أقرب للجمع بين المنهجين ، لولا إيجازه الشديد لمواضيع الفضائل الباطنية للائمة(عليهم السلام) ، غير أن المرحوم الفقيه والمؤرخ السيد محسن الامين العاملي(رحمه الله) ، وهو من المعاصرين ، قد وفق توفيقاً منقطع النظير في مشروع كتابته عن سيرة الامام علي(عليه السلام)( 33 ) ، فقط قطع العالم المذكور شوطاً بعيداً في الجمع بين المنهجين اللذين تحدثنا عنهما ، وخرج بمنهجية مناسبة لمقام أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ومكانتهم في دنيا الاسلام والمسلمين ، إلاّ أن طريقته لم تكن شاملة هي الاُخرى ، وإن كان أفضل من كتب في هذا الباب من ناحية التوفيق بين المنهجين .
هذا ويمكن أن يعلل ظهور المنهجين المذكورين ، إلى أن أصحاب الاتجاه الاول قد اهتموا بالسيرة العملية للائمة(عليهم السلام) بالدرجة الاُولى ، فكانت مؤلفاتهم أقرب إلى المناهج التاريخية ، أو الدراسات الرجالية العادية .
وكان اتجاه أصحاب المنهج الاخر قد انصب على إبراز القضية العقائدية ـ أي قضية الامامة ـ دون غيرها ، أي إبراز موقع الامام(عليه السلام)في الرسالة والمسؤولية تجاهه(عليه السلام) من قبل الاُمة .
على أن المنهج الافضل لدراسة الائمة(عليهم السلام) ـ كما ألمحنا ـ ومعرفة موقعهم من قبل الاُمة ، والمسؤولية تجاههم هو الذي يحدد مكانة كل إمام(عليه السلام) في الرسالة ، وموقعه من خلال النصوص الصريحة ، إضافة إلى سيرته العملية ، لان الدراسة السليمة للائمة إذا لم تلاحظ هذا المنهج المتصور ستواجه مشكلتين :
المشكلة الاولى : أن بعض حقائق سيرة البعض من الائمة(عليهم السلام)لا يمكن أن تدرك إلاّ بفهم الوضع التحتي لها ، كسيرة الامام محمد بن علي الجواد(عليه السلام) ، الذي آتاه اللّه الحكم صبياً ـ كما نعلم ـ لاننا لا نستطيع أن ندرك أن نشاطاته العلمية العظيمة ، مثلاً ، كانت ممكنة لصبي في سنه (ثماني سنوات) إذا لم نفهم حقيقة الامام ، وواقع الامامة التي آتاه اللّه تعالى إياها بعد وفاة أبيه علي بن موسى الرضا(عليه السلام) .
والمشكلة الثانية : أن الاكتفاء بالسيرة العملية لبعض الائمة(عليهم السلام) ـ خصوصاً من واجهوا ظروفاً تاريخية قاسية ـ لا تكشف موقعاً مميزاً للامام(عليه السلام) بين الخلق ، ولذا نلاحظ أن الامام علي بن الحسين السجاد(عليه السلام) نبه إلى جزء هام من هذه الحقيقة ، في الحديث الذي أورده الشيخ الصدوق(رحمه الله) مسنداً عن مولانا الكاظم(عليه السلام) عن أبيه عن جده عن السجاد(عليه السلام) قال :
«الامام منّا لا يكون إلاّ معصوماً ، وليست العصمة في ظاهر الخلق فيعرف بها ، ولذلك لا يكون إلاّ منصوصاً ، فقيل له : يابن رسول اللّه ، فما معنى المعصوم ؟ فقال : هو المعتصم بحبل اللّه ، وحبل اللّه هو القرآن ، لا يفترقان إلى يوم القيامة ، والامام يهدي إلى القرآن ، والقرآن يهدي إلى الامام ، وذلك قول اللّه عزوجل (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)( 34 ) .
وحيث إن المرحلة التي تعيشها الاُمة اليوم وغداً تتطلب أن تعرف منابع الخير فيها ، وأن تدرك المنهل الذي ترده ، لتكون مسيرة الصحوة الاسلامية التي تهز العالم اليوم صحيحة البناء ، سليمة الخط، لذا فإن مما ينبغي أن يفعله المخلصون للحق أن يرشدوا الاُمة إلى مصادر الخير والنور فيها بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ، وهم علي وأولاده الائمة المعصومين(عليهم السلام) ، وهذا لا يتم إلاّ بتبيان مواقع الائمة التي أهلهم اللّه تعالى لها ، إضافة لسيرتهم العملية المطهرة ، وباللّه التوفيق .
ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم
المصدر: سایت السبطین
________________________________________
(29) المجلد الاول منه.
(30) ن . م : 410.
(31) انظر أبواب التاريخ منه : 439 ومابعدها.
(32) أبواب المعاجز من الكتاب المذكور.
(33) انظر كتابه القيم (في رحاب أئمة أهل البيت عليهم السلام جـ 1 وجـ 2).
(34) معاني الاخبار للشيخ الصدوق، باب معنى عصمة الامام: 132، كما أورده الفيض الكاشاني في (علم اليقين في اصول الدين) 1 : 377. الاسراء : 9.