بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الاوّلين والاخرين.
موضوع البحث مسألة تفضيل الائمّة (عليهم السلام) على الانبياء (عليهم السلام).
هذه المسألة مطروحة في كتب أصحابنا منذ قديم الايّام، ولهم على هذا القول أو هذا الاعتقاد أدلَّتهم الخاصّة، ونحن جرياً على دأبنا في بحوثنا في هذه الليالي، حيث نستدلّ فقط بما ورد عن طرق أهل السنّة، وما يكون متّفقاً عليه بين الطرفين، ومقبولاً لدى الفريقين، جرياً على دأبنا هذا وسيرتنا هذه، نبحث في هذه المسألة على ضوء الاحاديث الواردة عند الطرفين والمقبولة عند الفريقين.
وإن كان لاصحابنا أدلّتهم على هذه المعتقدات، وهم مستغنون
عن دلالة دليل من خارج كتبهم، وغير محتاجين إلى الاستدلال على معتقداتهم بما عند الاخرين، إلاّ أنّ هذه الجلسات وهذه البحوث بنيت على أن تكون بهذا الشكل الذي ذكرته لكم.
يمكن الاستدلال لتفضيل الائمّة سلام الله عليهم على الانبياء بوجوه كثيرة، منها الوجوه الاربعة الاتية:
الوجه الاوّل:
مسألة المساواة بين أمير المؤمنين (عليهم السلام)والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
الوجه الثاني:
تشبيه أمير المؤمنين بالانبياء السابقين.
الوجه الثالث:
كون علي أحبّ الخلق إلى الله مطلقاً.
الوجه الرابع:
صلاة عيسى خلف المهدي.
هذه الوجوه الاربعة، وعندنا وجوه أُخرى أيضاً، لكنّي أكتفي بهذه الوجوه وأُبيّنها لكم على ضوء الكتاب، وعلى ضوء السنّة المقبولة عند الفريقين.
المساواة بين أمير المؤمنين (عليه السلام) والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
نستدلّ لذلك بالكتاب أوّلاً، بآية المباهلة، وقد درسنا آية المباهلة بالتفصيل في ليلة خاصّة، وتقدّم البحث هناك عن كيفيّة دلالة قوله تعالى: (وَأَنْفُسَكُمْ)(1) على المساواة بين أمير المؤمنين والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولمّا كان نبيّنا أفضل من جميع الانبياء السابقين بالكتاب وبالسنّة وبالاجماع، فيكون عليّ أيضاً كذلك، وهذا الوجه ممّا استدلّ به علماؤنا السابقون، لاحظوا تفسير الفخر الرازي، وغيره، حيث يذكرون رأي الاماميّة واستدلالهم بهذه الاية المباركة على أفضليّة أمير المؤمنين من الانبياء السابقين.
يقول الرازي ـ في ذيل آية المباهلة ـ: كان في الري رجل يقال
له محمود بن الحسن الحمصي، وكان معلّماً للاثنى عشريّة، وكان يزعم أنّ عليّاً أفضل من جميع الانبياء سوى محمّد.
قال: والذي يدلّ عليه قوله: (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) ، وليس المراد بقوله: (وَأَنْفُسَنَا) نفس محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لانّ الانسان لا يدعو نفسه، بل المراد به غيره، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان علي بن أبي طالب، فدلّت الاية على أنّ نفس عليّ هي نفس محمّد، ولا يمكن أن يكون المراد منه أنّ هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حقّ النبوّة، وفي حقّ الفضل أي الافضليّة، لقيام الدلائل على أنّ محمّداً كان نبيّاً وما كان علي كذلك، ولانعقاد الاجماع على أنّ محمّداً كان أفضل من علي، فيبقى فيما وراءه معمولاً به، ثمّ الاجماع دلّ على أنّ محمّداً كان أفضل من سائر الانبياء، فيلزم أن يكون عليّ أفضل من سائر الانبياء، فهذا وجه الاستدلال بظاهر الاية المباركة(2) .
والشيخ محمود بن الحسن الحمصي من علماء القرن السابع، له كتاب المنقذ من الضلال، وطبع هذا الكتاب أخيراً وهو في علم الكلام.
ثمّ يقول الرازي في جواب هذا الاستدلال ـ لاحظوا الجواب ـ: والجواب: إنّه كما انعقد الاجماع بين المسلمين على أنّ محمّداً أفضل من علي، فكذلك انعقد الاجماع بينهم ـ أي بين المسلمين ـ قبل ظهور هذا الانسان ـ أي الشيخ الحمصي ـ فالاجماع منعقد قبل ظهور هذا وقبل وجوده على أنّ النبي أفضل ممّن ليس بنبي، وأجمعوا ـ أي المسلمون ـ على أنّ عليّاً ما كان نبيّاً، فلزم القطع بأنّ ظاهر الاية كما أنّه مخصوص بحقّ محمّد، فكذلك مخصوص في حقّ سائر الانبياء.
ويتلخّص الجواب: في دعوى الاجماع من عموم المسلمين على أنّ غير النبي لا يكون أفضل من النبي، وعلي ليس بنبي، فالاستدلال باطل.
ولو راجعتم تفسير النيسابوري أيضاً لوجدتم نفس الجواب، وكذا لو رجعتم إلى تفسير أبي حيّان الاندلسي البحر المحيط.
النيسابوري يقول، وعبارته ملخّص عبارة الرازي: فأُجيب بأنّه كما انعقد الاجماع بين المسلمين على أنّ محمّداً أفضل من سائر الانبياء، فكذا انعقد الاجماع بينهم على أنّ النبي أفضل ممّن ليس بنبي، وأجمعوا على أنّ عليّاً ما كان نبيّاً.
ونفس الكلام أيضاً تجدونه بتفسير أبي حيّان(3) ، وتفسير النيسابوري مطبوع على هامش تفسير الطبري(4) .
فكان الجواب إذن دعوى الاجماع من عموم المسلمين قبل الشيخ الحمصي على أنّ من ليس بنبي لا يكون أفضل من النبي.
لو ثبت هذا الاجماع، أو كان مستنداً إلى أدلّة قطعيّة، ولم يكن في مقابله أدلّة قطعيّة، لسلّمنا ووافقنا على هذا الجواب.
ولكن القول بأفضليّة أئمّة أهل البيت من سائر الانبياء سوى نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا القول موجود بين علماء هذه الطائفة قبل الشيخ الحمصي، فأين دعوى الاجماع ـ إجماع المسلمين ـ قبل ظهور هذا الانسان.
الشيخ الحمصي كما ذكرنا، وفاته في أوائل القرن السابع، لكن الاستدلال الذي ذكره الشيخ الحمصي إنّما أخذه من الشيخ المفيد، والشيخ المفيد وفاته سنة (413)، فقبل الشيخ الحمصي هذا القول موجود، وهذا الاستدلال مذكور بالكتب، على أنّا إذا راجعنا كلام الشيخ المفيد لوجدناه ينسب الاستدلال إلى من سبقه من العلماء، فهذا الاستدلال موجود من قديم الايّام، وإذا كان الدليل هو
الاجماع، إذن لا إجماع على أنّ غير النبي لا يكون أفضل من النبي، وليس للرازي ولا لغيره جواب غير الذي قرأته لكم.
وأمّا المساواة بين أمير المؤمنين والنبي من السنّة، فهناك أدلّة كثيرة وأحاديث صحيحة معتبرة، متّفق عليها بين الطرفين، صريحة في هذا المعنى، أي في أنّ أمير المؤمنين والنبي متساويان، إلاّ في النبوة، لقيام الاجماع على أنّ النبوّة ختمت بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
نذكر بعض الاحاديث:
منها: حديث النور: «خلقت أنا وعلي من نور واحد»، ففي تلك الاحاديث يقول رسول الله: إنّ الله سبحانه وتعالى قسّم ذلك النور نصفين، فنصف أنا ونصف علي، قسّم ذلك النور نصفين، وهما مخلوقان من نور واحد، ولمّا كان رسول الله أفضل البشر مطلقاً، فعلي كذلك، وقد قرأنا هذا الحديث.
ومن الاحاديث أيضاً قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنص: «أنا سيّد البشر» تجدون هذا الحديث في صحيح البخاري(5) ، وفي المستدرك(6) ، وفي مجمع الزوائد(7) ، وإذا كان علي مساوياً لرسول الله بمقتضى
حديث النور، وبمقتضى آية المباهلة، فعلي أيضاً سيّد البشر، وإذا كان سيّد البشر، فهو أفضل من جميع الانبياء.
قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا سيّد ولد آدم»، وهذا الحديث تجدونه في صحيح مسلم(8) ، وفي سنن الترمذي(9) ، ومسند أحمد(10) ، وفي المستدرك(11) ، وفي مجمع الزوائد(12) وغير هذه المصادر.
وإذا كان عليّ (عليه السلام) بمقتضى آية المباهلة وبمقتضى حديث النور مساوياً لرسول الله، فيكون أيضاً سيّد ولد آدم.
تشبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)
بالانبياء (عليهم السلام) السابقين
وهذا الوجه أيضاً ذكره الشيخ الحمصي، وأورده الفخر الرازي في الاستدلال، لكنّ الشيخ الحمصي ذكر هذا الدليل كتأييد لدلالة آية المباهلة، لكنّا نعتبره دليلاً مستقلاًّ، وهذا الحديث نسمّيه بحديث الاشباه أو حديث التشبيه، وهو قوله: «من أراد أن يرى آدم في علمه، ونوحاً في طاعته، وإبراهيم في خلّته، وموسى في هيبته، وعيسى في صفوته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب».
وهذا هو اللفظ الذي ذكره الشيخ الحمصي، وللحديث ألفاظ أُخرى، هذا الحديث بألفاظه المختلفة موجود في كتب الفريقين، أذكر لكم بعض أعلام الحفّاظ والائمّة من أهل السنّة الرواة لهذا الحديث بألفاظه المختلفة:
1 ـعبدالرزاق بن همّام، صاحب المصنّف وشيخ البخاري.
2 ـأحمد بن حنبل.
3 ـأبو حاتم الرازي.
4 ـأبو حفص ابن شاهين.
5 ـالحاكم النيسابوري.
6 ـ ابن مردويه الاصفهاني.
7 ـأبو نعيم الاصفهاني.
8 ـأبو بكر البيهقي.
9 ـابن المغازلي الواسطي.
10 ـ أبو الخير القزويني الحاكمي.
11 ـالطبري، صاحب الرياض النضرة.
12 ـابن الصبّاغ المالكي.
وغير هؤلاء من العلماء، يروون هذا الحديث بأسانيدهم عن عدّة من صحابة رسول الله، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن رواته: ابن عبّاس، وأبو الحمراء، وأبو سعيد الخدري، ومن رواته صحابة آخرون أيضاً.
ولابدّ من الكلام والبحث حول هذا الحديث سنداً ودلالة ليتمّ الاستدلال.
أمّا سنداً، فإنّي أذكر لكم سندين من أسانيده، وقد حقّقتهما،
وهما سندان صحيحان، وبإمكاني تحقيق صحة أسانيد أُخرى لهذا الحديث أيضاً، لكنّي أكتفي بهذين السندين:
يقول ياقوت الحموي في كتابه معجم الاُدباء بترجمة محمّد ابن أحمد بن عبيدالله الكاتب المعروف بابن المفجّع، هذا الشخص نظم حديث التشبيه في قصيدة، والقصيدة إسمها قصيدة الاشباه، يقول الحموي ياقوت:
وله قصيدة ذات الاشباه سمّيت بذات الاشباه لقصده فيما ذكره: الخبر الذي رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في محفل من أصحابه: «إن تنظروا إلى آدم في علمه، ونوح في فهمه، وإبراهيم في خلّته، وموسى في مناجاته، وعيسى في سننه، ومحمّد في هديه وحلمه، فانظروا إلى هذا المقبل»، فتطاول الناس فإذا هو علي بن أبي طالب، فأورد المفجع ذلك في قصيدته وفيها أي في هذه القصيدة مناقب كثيرة.
ياقوت الحموي معروف بأنّه من المنحرفين عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا مذكور بترجمته، لاحظوا كتاب وفيات الاعيان، لاحظوا شذرات الذهب وغيرهما من المصادر، وقد ذكروا أنّه تكلّم في سنة 613 هـ في دمشق بكلام في علي، فثار
الناس عليه وكادوا يقتلونه، فانهزم من دمشق، ذكر هذا ابن خلّكان ونصّ على أنّه كان متعصّباً على علي.
وأمّا عبد الرزاق بن همّام، فهذا كما أشرنا وذكرنا وفي الجلسات السابقة أيضاً ذكرناه، هذا شيخ البخاري وصاحب المصنّف ومن رجال الصحاح كلّها، ولم يتكلّم أحد في عبد الرزاق ابن همّام بجرح أبداً، حتّى قيل بترجمته: ما رحل الناس إلى أحد بعد رسول الله مثل ما رحلوا إليه، توفي سنة 211 هـ.
معمر بن راشد، من رجال الصحاح الستّة، توفي سنة 153هـ.
الزهري هو الامام الفقيه المحدّث الكبير، من رجال الصحاح الستّة، وقد تجرّأ ابن تيميّة وادّعى بأنّ هذا الرجل أفضل من الامام الباقر (عليه السلام).
وأمّا سعيد بن المسيّب، فكذلك هو من رجال الصحاح الستّة، توفي بعد سنة 90 هـ، وهذا الشخص يروي هذا الحديث عن أبي هريرة.
وأبو هريرة عندهم من الصحابة الثقات والموثوقين، الذين لا يتكلّم فيهم بشكل من الاشكال.
فهذا السند صحيح إلى هنا.
وسند آخر، وهو ما ذكره الحافظ ابن شهرآشوب المازندراني
في كتابه مناقب آل أبي طالب، المتوفى سنة 588 هـ، هذا من علمائنا، لكنْ يترجمون له في كتبهم في كتب التراجم، ويثنون عليه الثناء الجميل، وينصّون على أنّه كان صادق اللهجة، وسأقرأ لكم عبارة ابن شهرآشوب يقول:
روى أحمد بن حنبل، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة. وأيضاً روى ابن بطّة في الابانة بإسناده عن ابن عباس، كلاهما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى موسى في مناجاته، وإلى عيسى في سمته، وإلى محمّد في تمامه وكماله وجماله، فلينظر إلى هذا الرجل المقبل»، قال: فتطاول الناس بأعناقهم فإذا هم بعلي كأنّما في صبب وينحل عن جبل.
وتابعهما أنس، أنس بن مالك أيضاً من رواة هذا الحديث إلاّ أنّه قال: «وإلى إبراهيم في خلّته، وإلى يحيى في زهده، وإلى موسى في بطشته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب»(13) .
وهذا السند نفس السند، إلاّ أنّ الراوي عن عبدالرزاق هو أحمد بن حنبل، وأحمد بن حنبل لا يحتاج إلى توثيق.
وأمّا ابن شهرآشوب، فهو أحد كبار علماء طائفتنا، إلاّ أنّ أهل السنّة أيضاً يحترمونه ويثنون عليه، ويترجمون له، فلاحظوا الوافي بالوفيات للصفدي، لاحظوا بغية الوعاة للسيوطي، ولاحظوا غير هذين الكتابين، يقولون هناك بترجمته: وكان بهي المنظر، حسن الوجه والشيبة، صدوق اللَّهجة، مليح المحاورة، واسع العلم، كثير الخشوع والعبادة والتهجّد(14) .
وأمّا دلالة حديث التشبيه، فهذا الحديث يدلّ على أفضليّة أمير المؤمنين من الانبياء السابقين، بلحاظ أنّه قد اجتمعت فيه ما تفرّق في أولئك من الصفات الحميدة، ومن اجتمعت فيه الصفات المتفرّقة في جماعة، يكون هذا الشخص الذي اجتمعت فيه تلك الصفات أفضل من تلك الجماعة، وهذا الاستدلال واضح تماماً، ومقبول عند الطائفتين، وسأقرأ لكم بعض العبارات:
يقول ابن روزبهان في الجواب عن هذا الحديث: أثر الوضع على هذا الحديث ظاهر، ولا شكّ أنّه منكر، لانّه يوهم أنّ علي بن أبي طالب أفضل من هؤلاء الانبياء، وهذا باطل، فإنّ غير النبي لا يكون أفضل من النبي، وأمّا أنّه موهم هذا المعنى فلانّه جمع فيه من
الفضائل ما تفرّق في الانبياء، والجامع للفضائل أفضل من الذين تفرّق فيهم الفضائل، وأمثال هذا من الموضوعات.
فيضطرّ ابن روزبهان بعد أن يرى تماميّة دلالة الحديث على مدّعانا، يضطرّ إلى رمي الحديث بالوضع(15) .
وقد أثبتنا نحن صحّة الحديث، وأثبتنا أنّه حديث متّفق عليه بين الفريقين، وذكرنا عدّة من أعيان رواة هذا الحديث من أهل السنّة.
ويقول ابن تيميّة: هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله بلا ريب عند أهل العلم بالحديث(16) .
وكأنّ عبد الرزاق، وأحمد، وأبا حاتم الرازي، وغير هؤلاء ليسوا من أهل العلم بالحديث، لكن الظاهر أنّه يقصد من أهل العلم بالحديث نفسه وبعض من في خدمته من أصحابه المختصّين به !!
وممّا يدلّ على تماميّة الاستدلال بهذا الحديث سنداً ودلالة: إذعان كبار علماء الكلام بهذا الاستدلال، لاحظوا المواقف في علم الكلام وشرح المواقف(17) وشرح المقاصد(18) ، فالقاضي الايجي
والشريف الجرجاني والسعد التفتازاني يذكرون هذا الاستدلال، ولا يناقشون لا في السند ولا في الدلالة، وإنّما يجيب التفتازاني بأنّ هذا الحديث وأمثاله مخصّصة بالشيخين، لانّ الشيخين أفضل من عليّ، للادلّة القائمة عندهم على أفضليّة الشيخين، فحينئذ لابدّ من التخصيص، ودائماً التخصيص فرع الحجيّة، لابدّ وأن يكون الحديث صحيحاً سنداً، ولابدّ أن تكون دلالته تامّة، فحينئذ يدّعى أنّ هناك أدلة أيضاً صحيحة قائمة على أفضليّة زيد وعمرو من علي، فتلك الادلّة القائمة على أفضليّة زيد وعمرو تلك الادلّة تكون مخصّصة لهذا الحديث، وترفع اليد عن هذا الحديث بمقدار ما قام الدليل على التخصيص.
لاحظوا عبارة هؤلاء، عندما يذكر صاحب المواقف، وأيضاً شارح المواقف، يذكران أدلّة أفضليّة علي يقول: الثاني عشر قوله (صلى الله عليه وسلم): «من أراد أن ينظر إلى آدم...» إلى آخر الحديث، وجه الاستدلال: قد ساواه النبي بالانبياء المذكورين ـ أي في هذا الحديث ـ وهم أفضل من سائر الصحابة إجماعاً، وإذا كان الانبياء المذكورون في هذا الحديث أفضل من الصحابة، فيكون من ساوى
الانبياء أفضل من الصحابة إجماعاً.
ثم أجابوا لا بالمناقشة في السند ولا في المناقشة في الدلالة، بل بأنّه تشبيه، ولا يدلّ على المساواة، وإلاّ كان علي أفضل من الانبياء المذكورين، لمشاركته ومساواته حينئذ لكلٍّ منهم في فضيلته واختصاصه بفضيلة الاخرين، والاجماع منعقد على أنّ الانبياء أفضل من الاولياء.
هذه عبارة المواقف وشرحها.
وفي شرح المقاصد يذكر التخصيص فيقول: لا خفاء في أنّ من ساوى هؤلاء الانبياء في هذه الكمالات كان أفضل.
ثمّ ناقش في ذلك بقوله: يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر منه، عملاً بأدلّة أفضليّتهما.
إذن، لا مناقشة لا في السند ولا في الدلالة، وإنّما المناقشة بأمرين:
الاوّل:
الاجماع القائم على أنّ غير النبي لا يكون أفضل من النبي.
وقد أثبتنا أنْ لا إجماع.
الامر الثاني:
تخصيص هذا الحديث بما دلّ على أفضليّة الشيخين.
ولكن هذا أوّل الكلام.
وتلخّص: إنّ هذا الحديث يدلّ على أفضليّة أمير المؤمنين، والمناقشات، أمّا في سنده فمردودة، إذ رمى ابن تيميّة وابن روزبهان هذا الحديث بالوضع، وقد ظهر أنّه ليس بموضوع، بل إنّه صحيح ومقبول عند الطرفين، وأمّا المناقشة بالدلالة، فهي إمّا عن طريق الاجماع المذكور، وإمّا عن طريق التخصيص، يقول السعد التفتازاني: يحتمل تخصيص هذا الحديث. وقد ذكره على نحو الاحتمال.
ومن جملة ما يستدلّ به لافضليّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الانبياء السابقين قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كَلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلى صِرَاط مُسْتَقِيم ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرُ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا
بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(19) .
محلّ الاستدلال كما ذكر الرازي وغيره من المفسّرين: إنّ هذه الايات المباركة تدلّ على أفضليّة نبيّنا من سائر الانبياء، لانّ قوله تعالى: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) دليل على أنّه قد اجتمع فيه الخصال المحمودة المتفرّقة فيهم، كالشكر في داود وسليمان، والصبر في أيّوب، والزهد في زكريّا وعيسى ويحيى، والصدق في إسماعيل، والتضرّع في يونس، والمعجزات الباهرة في موسى وهارون، فيكون منصبه ـ منصب نبيّنا ـ أجل من منصبهم، ومقامه أفضل من مقامهم.
وهذا نفس الاستدلال الذي نستدلّ به على ضوء حديث التشبيه بأنّ عليّاً قد جمع ما تفرّق في أُولئك الانبياء، نفس الاستدلال في هذه الاية، بحسب ما ذكره المفسّرون.
وإذا كان نفس الاستدلال، فحينئذ يتمّ استدلالنا بحديث التشبيه هذا أوّلاً.
وثانياً: إذا كان بهذه الايات رسول الله أفضل من الانبياء السابقين، فعلي ساوى رسول الله، فهو أيضاً أفضل من الانبياء
السابقين.
لاحظوا التفاسير في ذيل هذه الاية، كتفسير الفخر الرازي(20) ، وتفسير النيسابوري(21) ، وتفسير الخطيب الشربيني(22) ، ولربّما تفاسير أُخرى أيضاً يتعرّضون لهذا الاستدلال.
عليّ (عليه السلام) أحبّ الخلق إلى الله
وهذا ما دلّ عليه حديث الطير: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر».
وقد ذكرنا سند هذا الحديث ودلالته في ليلة خاصة، ودرسنا ما يتعلَّق بهذا الحديث بنحو الاجمال، وإذا كان علي (عليه السلام) أفضل الخلق إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون أفضل من الانبياء، كما هو واضح.
ولا يقال إنّ المراد من أفضل الخلق إلى الله، أي في زمانه، أي في ذلك العصر، لا يقال هذا، لعدم مساعدة ألفاظ الحديث على هذا الاحتمال، مضافاً إلى أنّ بعض ألفاظه يشتمل على الجملة التالية: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك من الاوّلين والاخرين»، فيندفع هذا الاحتمال.
صلاة عيسى (عليه السلام) خلف المهدي (عليه السلام)
ومن الادلّة على أفضليّة الائمّة (عليهم السلام) من الانبياء السابقين، قضيّة صلاة عيسى خلف المهدي، وهذا أيضاً ممّا ناقش فيه بعضهم كالسعد التفتازاني من حيث أنّ عيسى نبي، وكيف يمكن أن يقتدي بمن ليس بنبي، وعليه فإنّ هذه الاحاديث باطلة.
لاحظوا عبارته يقول: فما يقال إنّ عيسى يقتدي بالمهدي شيء لا مستند له فلا ينبغي أن يعوّل عليه، نعم هو وإن كان حينئذ من أتباع النبي، فليس منعزلاً عن النبوّة، فلا محالة يكون أفضل من الامام، إذ غاية علماء الاُمّة الشبه بأنبياء بني إسرائيل(23) .
هذه عبارة سعد الدين التفتازاني.
ونحن نكتفي في جوابه بما ذكره الحافظ السيوطي، فإنّه
أدرى بالاحاديث من السعد التفتازاني، يقول الحافظ السيوطي في الحاوي للفتاوي: هذا من أعجب العجب، فإنّ صلاة عيسى خلف المهدي ثابتة في عدّة أحاديث صحيحة بإخبار رسول الله، وهو الصادق المصدّق الذي لا يخلف خبره(24) .
وفي الصواعق لابن حجر دعوى تواتر الاحاديث في صلاة عيسى خلف المهدي سلام الله عليه(25) .
إذن، أثبتنا أفضلية أئمّتنا من الانبياء السابقين بأربعة وجوه، على ضوء الكتاب والسنّة المقبولة عند الفريقين.
ولمّا كان هذا القول غريباً في نظر أهل السنّة ولا يتمكّنون من أن يقبلوا مثل هذا الرأي أو هذه العقيدة، أخذوا يناقشون في بعض الاحاديث، أو يناقشون في الاستدلال ببعض الايات، وقد وجدتم الاستدلالات، وقرأت لكم عمدة ما قالوا، وما يمكن أن يقال في هذا المجال، وظهر اندفاع تلك المناقشات كلّها.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
المصدر: سایت الابحاث العقائدیة
(1) سورة آل عمران: 61.
(2) تفسير الرازي 8 / 81.
(3) البحر المحيط في تفسير القرآن 2/480.
(4) تفسير النيسابوري ـ هامش الطبري 3/214.
(5) صحيح البخاري 6/223.
(6) المستدرك على الصحيحين 4/573.
(7) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 9/116.
(8) صحيح مسلم، كتاب الفضائل باب تفضيل نبيّنا على جميع الخلائق.
(9) سنن الترمذي 2 / 195.
(10) مسند أحمد 1/5.
(11) المستدرك 3/124.
(12) مجمع الزوائد 10: 376.
(13) مناقب آل أبي طالب 3 / 264، ط طهران.
(14) الوافي بالوفيات 4 / 164، بغية الوعاة: 77، البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة: 240، طبقات المفسرين 2 / 199.
(15) إبطال الباطل، انظر: دلائل الصدق 2 / 518.
(16) منهاج السنة 5 / 510.
(17) شرح المواقف 8 / 369.
(18) شرح المقاصد 5 / 299.
(19) سورة الانعام: 84 ـ 90.
(20) تفسير الرازي 13 / 69 ـ 71.
(21) تفسير النيسابوري (هامش الطبري) 7 / 185.
(22) تفسير الخطيب الشربيني = السراج المنير 1 / 435.
(23) شرح المقاصد 5 / 313.
(24) الحاوي للفتاوي 2 / 167.
(25) الصواعق المحرقة: 99.