هناك شهادات ضافية من الصحابة، وإفادات وافية من التابعين لهم بإحسان، تُنبئُك عن مدى فضيلة هذا البيت الرفيع، ومكانته السامية في افق العلم والمعرفة والكمال، بما جعلهم مراجع الامّة في كل أدوار تاريخ الاسلام المجيد.
هذا الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود وهو من أكبر الصحابة قدراً وأجلّهم شأناً، تراه يشهد شهادته العالية برفعة مقام كبير هذا البيت الامام امير المؤمنين(عليه السلام) وانه تتلمذ عليه فيما تلقّاه من العلوم والمعارف حتى في حياة الصادع بالرسالة الأمين، صلوات الله عليه.
أخرج أبو جعفر الطوسي في أماليه بإسناده الى ابن مسعود، قال: قرأت على النبيّ(صلى الله عليه وآله)سبعين سورة من القرآن أخذتها من فيه.. وقرأت سائرالقرآن على خير هذه الاُمّة وأقضاهم بعد نبيّهم علي بن أبي طالب صلوات الله عليه([33]).
وأخرج ابن عساكر في ترجمة الامام بإسناده الى عبيدة السلماني، قال: سمعت عبدالله بن مسعود يقول: لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه المطايا.. فقال له رجل: فأين أنت من عليّ؟ قال: به بدأت، انّي قرأت عليه..([34]).
وأخرج ابن زاذان عنه قال: قرأت على رسول الله(صلى الله عليه وآله) تسعين سورة وختمت القرآن على خير الناس بعده. قيل له: من هو؟ قال: علي بن أبى طالب([35])..
وهو القائل: ان القرآن اُنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلاّ له ظهر وبطن، وإنّ علي بن أبي طالب عنده منه علم الظاهر والباطن([36])..
وأخرج الحاكم الحسكاني باسناده الى علقمة عن عبدالله قال: كنت عند رسول الله(صلى الله عليه وآله) فسئل عن عليّ فقال: قُسّمت الحكمة عشرة أجزاء، فاُعطي عليّ تسعة أجزاء، واُعطي الناس جزءاً واحداً..([37]).
الى غيرها من شهادات راقية بشأن عَلَمِ هذا البيت وشاخصه الرفيع..
وبعده من ألمع الصحابة صفحاً وأشرقهم وجهاً عبدالله بن عباس ترجمان القرآن حبر هذه الاُمّة وبحرها الزاخر بالعلوم والمعارف، يرى أن كل ما أخذه في تفسير القرآن فهو عن علي بن أبي طالب ليس عن غيره..
وهو القائل: قسّم علم الناس خمسة أجزاء، فكان لعليّ منها أربعة أجزاء، ولسائر الناس جزء، وشاركهم عليّ في الجزء، فكان أعلم به منهم.. أخرجه ابن عساكر..([38]).
أخرج الحاكم الحسكاني بإسناده الى ابن عباس، قال: دعا عبدالرحمان بن عوف نفراً من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) فحضرت الصلاة، فقدّموا عليّ بن أبي طالب، لأنه كان أقرأهم..([39]).
وأخرج ابن طاووس عن طريق النقّاش بالاسناد الى ابن عباس قال: وما علمي وعلم أصحاب محمّد(صلى الله عليه وآله) في علم عليّ إلاّ كقطرة في سبعة أبحر..([40]).
ولنقتصر على شهادة هذه العلمين، وهما أعلم الصحابة بعد عليّ(عليه السلام)، وكفى بشهادتهما لجلاء الحق الصراح.
وأمّا إفادات التابعين فهي أكثر وأوسع من أن تستوعب، فلنذكر منها نماذج، فما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه:
أخرج ابن عساكر باسناده الى مسروق بن الأجدع قال: انتهى العلم الى ثلاثة: عالم بالمدينة، وعالم بالشام، وعالم بالعراق.. فعالم المدينة علي بن أبي طالب، وعالم الكوفة عبدالله بن مسعود، وعالم الشام أبو الدّرداء..
قال: فاذا التقوا، سأل عالمُ الشام وعالمُ العراق عالم المدينة، وهو لم يسألهم..([41]).
انظر الى هذا الوصف الجميل، كيف جعل المرجعيّة الكبرى في العالم الاسلامي ذلك اليوم، خاصّة بزعيم أهل البيت باب مدينة علم النبي الامام أمير المؤمنين(عليه السلام)!
وهو القائل: جالست أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله) فوجدتهم كالإخاذ - يعني: الغدير من الماء - فالإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم..([42]) يعني عليّاً(عليه السلام) الذي ينحدر عنه السيل ولا يرقى اليه الطير..
وأخرج ايضاً بإسناده الى عبيدة السلماني، قال: صحبت عبدالله بن مسعود سنةً، ثم صحبت عليّاً، فكان فضل ما بينهما في العلم كفضل المهاجر على الاعرابي..([43]).
وأخرج عن أبي عبد الرحمان السّلَمي، قال: ما رأيت أحداً أقرأ لكتاب الله من عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)..([44]) وهو الذي أقرأ عاصماً القراءة التي تلقّاها من علي(عليه السلام)وأقرأها عاصم حفصاً بالذات، وهي التي درج عليها المسلمون ولا يزالون.
وأخرجها ابن الجوزي أيضاً عنه، وزاد: وهو من الذين حفظوه أجمع بلا شكّ عندنا..([45]).
ويعجبني هنا أن أنقل وصفين جميلين عن دور أئمة أهل البيت في تفسير القرآن والعلم بتأويله، ذكرهما علمان لامعان من أعلام النقد والتحقيق في عالم الاسلام، هما: ابو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (467 - 548) صاحب الملل والنحل.. والآخر: ابن حجر احمد بن محمد الهيثمي (909 - 974) صاحب الصواعق:
قال الشهرستاني:
«وخصّ الكتاب بِحَمَلة من عترته الطاهرة ونَقَلة من أصحابه الزاكية الزاهرة، يتلونه حقّ تلاوته، ويدرسونه حقّ دراسته، فالقرآن تركته، وهم ورثته، وهم أحد الثقلين، وبهم مجمع البحرين، ولهم قاب قوسين، وعندهم علم الكونين.. والعالمون..
وكما كانت الملائكة(عليهم السلام) معقّبات له من بين يديه ومن خلفه تنزيلاً، كذلك كانت الائمة الهادية، والعلماء الصادقة معقّبات له من بين يديه ومن خلفه تفسيراً وتأويلاً. (انا نحن نزّلنا الذكر وانّا له لحافظون). فتنزيل الذكر بالملائكة المعقبّات، وحفظ الذكر بالعلماء الذين يعرفون تنزله وتأويله، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه، ومجمله ومفصّله، ومطلقه ومقيّده، ونصّه وظاهره، وظاهره وباطنه. ويحكمون فيه بحكم الله، من مفروغه ومستأنفه، وتقديره وتكليفه، وأوامره وزواجره، وواجباته ومحظوراته، وحلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه.. بالحق واليقين، لا بالظنّ والتخمين.. اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولو الالباب..
ولقد كان الصحابة متّفقين على انّ علم القرآن مخصوص بأهل البيت(عليهم السلام)اذ كانوا يسألون علي بن أبي طالب(رضي الله عنه) هل خُصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن؟ فكان يقول: لا والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إلاّ بما في قراب سيفي.
قال: «فاستثناء القرآن بالتخصيص، دليل على إجماعهم بأن القرآن وعلمه، تنزيله وتأويله مخصوص بهم..
ولقد كان حبر الاُمّة عبدالله بن عباس(رضي الله عنه) مصدر تفسير جميع المفسرين، وقد دعا له رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأن قال: اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل تتلمذ لعليّ(رضي الله عنه)حتى فقّهه في الدين وعلّمه التأويل..
قال: «ولقد كنت على حداثة سنّي أسمع تفسير القرآن من مشايخي سماعاً مجرّداً، حتى دُفقت فعلقته على اُستاذي ناصر السنّة أبي القاسم سلمان بن ناصر الأنصاري رضي الله عنهم تلقفاً. ثم أطلعتني مطالعاتُ كلمات شريفة عن أهل البيت وأوليائهم رضي الله عنهم على أسرار دفينة واُصول متينة في علم القرآن، وناداني من هو في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة الطيّبة: (يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) فطلبت الصادقين طلب العاشقين، فوجدت عبداً من عباد الله الصالحين، كما طلب موسى(عليه السلام) مع فتاه (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنا علماً). فتعلّمت منه مناهج الخلق والأمر، ومدارج التضادّ والترتيب، ووجهي العموم والخصوص، وحكمي المفروغ والمستأنف فشبعت من هذا المعاء الواحد دون الأمعاء التي هي مآكل الضُلاّل ومداخل الجهّال وارتويت من شرب التسليم بكأس كان مزاجه من تسنيم، فاهتديت الى لسان القرآن، نظمه وترتيبه وبلاغته وجزالته وفصاحته وبراعته..»([46])
وقال ابن حجر - في مقارنة لطيفة بين الكتاب والعترة والسبب في تسميتها ثقلين:
«سمّى رسول الله(صلى الله عليه وآله) القرآن وعترته ثقلين، لأنّ الثقل كل نفيس خطير مصون، وهذان كذلك، إذ كلّ منهما معدن للعلوم اللدنيّة، والأسرار والحكم العلّية، والأحكام الشرعيّة. ولذا حثّ(صلى الله عليه وآله) على الاقتداء والتمسّك بهم، والتعلّم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت.
«وقيل: سمّيا ثقلين، لثقل وجوب رعاية حقوقهما..
«ثم الذين وقع الحثّ عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله، اذ هم الذين لا يفارقون الكتاب الى الحوض. ويؤيّده الخبر السابق: «ولا تعلّموهم فإنهم اعلم منكم». وتميّزوا بذلك عن بقية العلماء، لأنّ الله أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة.. وقد مرّ بعضها.. وسيأتي الخبر الذي في قريش: «وتعلّموا منهم فإنهم أعلم منكم» فاذا ثبت هذا لعموم قريش، فأهل البيت أولى منهم بذلك، لأنهم امتازوا عنهم بخصوصيّات لا يشاركهم فيها بقيّة قريش.
«وفي أحاديث الحثّ على التمسّك بأهل البيت إشارة الى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسّك به الى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك..([47]) ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض - كما يأتي - ويشهد لذلك الخبر السابق: «في كل خَلَف من اُمّتي عدول من أهل بيتي..».
«ثم أحقّ من يتمسّك به منهم، إمامهم وعالمهم عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه لما قدّمنا من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته.. ومن ثمّ قال أبو بكر: عليّ عترة رسول الله(صلى الله عليه وآله) أي الذي كان قد حثّ على التمسّك بهم فخصّه..
«والمراد بالعيبة والكرش - في الخبر السابق - انهم موضع سرّه وامانته ومعادن نفائس معارفه وحضرته...»([48]).
ومن طريف ما يذكر هنا، ما شهد به مثل الحجاج بن يوسف الثقفي بشأن هذا البيت الرفيع، حسبما رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره أن أباه حدثه عن سليمان بن داود المنقري عن أبي حمزة الثمالي عن شهر بن حوشب قال: «قال لي الحجاج بن يوسف: آية في كتاب الله اعيتني فقلت: أيها الأمير، أية آية هي؟ فقال: قوله: (وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمننَّ به قبل موته)([49]). والله لآمر باليهودي والنصراني فيضرب عنقه، ثم ارمقه بعيني، فما أراه يحرك شفتيه حتى يخمد فقلت: اصلح الله الأمير، ليس على ما تأوّلت قال: كيف هو؟ قلت: إن عيسى بن مريم ينزل قبل يوم القيامة الى الدنيا، فلا يبقى أهل ملة يهودي ولا نصراني إلاّ آمن به قبل موته، ويصلي خلف المهدي. قال: ويحك أنى لك هذا، ومن أين جئت به؟! فقلت حدثني بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: جئت بها والله من عين صافية»([50]).
المصدر: سایت السبطین
________________________________________
([33]) أمالي الطوسي 2 / 219. واذ كانا نعرف انّ السّور المكّية لا تعدو ستاً وثمانين سورة تعرف مدى سابقة تعلّم ابن مسعود من عليّ(عليه السلام) في وقت مبكّر جداً..
([34]) تاريخ دمشق - ترجمة الامام 3 / 25 - 26 رقم 1409.
([35]) المصدر / 1051. وراجع سعد السعود لابن طاووس / 285. والبحار 89 / 105.
([36]) أخرجه ابن عساكر ايضا. المصدر / 1048.
([37]) شواهد التنزيل 1 / 105 رقم 146.
([38]) تاريخ دمشق - ترجمة الامام 3 / 45 - 46.
([39]) شواهد التنزيل 1 / 23 رقم 16.
([40]) سعد السعود / 285.
([41]) تاريخ دمشق - ترجمة الامام 3 / 51 رقم 1086.
([42]) التفسير والمفسرون للذهبي 1 / 36.
([43]) تاريخ دمشق - ترجمة الامام - 3 / 49 رقم 1081.
([44]) المصدر / 27 رقم 1052.
([45]) غاية النهاية 1 / 546 رقم 2234.
([46]) راجع مقدمته في التفسير الذي عنونه باسم «مفاتيح الأسرار ومصابيح الابرار» مخطوط.
([47]) في هذا التعبير وهذا التشبيه دقيقة لا تخفى على أهل الدقة والنظر!
([48]) راجع: الصواعق المحرقة، الطبعة الاولى: 90.
([49]) النساء: 159.
([50]) تفسير القمي 1: 158 ونقله الطبرسي في المجمع 3: 137. المقال مستل من بحث للعلامة الشيخ محمد هادي معرفة في مجلة رسالة الثقلين، بتصرف يسير.