بعد أن حقق المؤتمر غرضه وأنِسَ الحاضرون بقراره الكاذب نشط إبراهيم الإمام في الاتجاه الآخر ليواصل عمله بشكل مستقل عن أعضاء المؤتمر فأصدر عدّة قرارات سرية كعادته منها: أنه كتب إلى شيعته في الكوفة وخراسان:أني قد أمّرت أبا مسلم بأمري فاسمعوا له وأطيعوا ، قد أمّرته على خراسان وما غلب عليه. كان ذلك سنة ( 128 هـ ) وكان أبو مسلم لايتجاوز عمره التسعة عشر سنة ووصفوه بأنه كان يقظاً فاتكاً غادراً لا يعرف الرحمة ولا الرأفة، وكان ماهراً في حياكة الدسائس.
ودهش الجميع لتعيين أبي مسلم في هذا المنصب الخطير نظراً لحداثة سنه وقلة تجاربه، وأبى جمع من الدعاة طاعته والانصياع لأوامره إلاّ أنّ إبراهيم الإمام ألزمهم السمع والطاعة [1]
وأقدم أبو مسلم فيما بعد على إعدام جميع من عارض اختياره لقيادة هذه المنطقة .
أمّا ما هو الخط الذي سوف يتحرك بموجبه أبو مسلم لإعلان ثورته هناك ؟ فقد جاء هذا الخط في وصية إبراهيم الإمام له عندما قال : يا عبد الرحمن إنك منّا أهل البيت فاحفظ وصيتي ، انظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم ، وحل بين ظهرانيهم ، فإن الله لا يتم هذا الامر إلاّ بهم ، وانظر هذا الحي من ربيعه فاتهمهم في أمرهم ، وانظر هذا الحي من مضر فإنهم العدو القريب الدار ، فاقتل من شككت في أمره ومن وقع في نفسك منه شيء ، وإن شئت أن لا تدع بخراسان من يتكلم العربية فافعل ، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار فاقتله [2]
. وهذه الوصية تلخص السياسة العباسية مع المسلمين .
وقد أثّر أبو مسلم الخراساني في الناس لتعاطفه معهم حيث كان يتمتع بصفات تؤهّله لهذا الموقع، فهو خافض الصوت فصيح بالعربية والفارسية حلو المنطق راوية للشعر، لم يُر ضاحكاً ولا مازحاً إلاّ في وقته، ولا يكاد يُقَطّب في شيء من أحواله تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يُرى مكتئباً. وعندما سئل إبراهيم الإمام عن أهلية أبي مسلم قال : إني قد جرّبت هذا الاصبهاني ، وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حَجَر الارض [3]
.
وكان محبوباً حتى عند غير المسلمين حيث نجد دهاقين المجوس اندفعوا إلى إتباعه وأظهروا الإسلام على يديه، كما استجاب للدعوة الإسلامية عدد كبير من أهل الآراء الخارجة عن الإسلام ، كل ذلك للظلم والجور الذي لحق بهم من الولاة الاُمويين وبسبب ما شاهدوه من العطف من أبي مسلم الخراساني ، ولذا كان الكثير منهم يعتبرونه وحده الإمام ، واعتقدوا أنه أحد أعقاب زرادشت الذي ينتظر المجوس ظهوره ، حتى أنهم لم يعتقدوا بموت أبي مسلم بل كانوا ينتظرون رجعته [4]
.
ومن جانب آخر انه هو الذي أنزل جثمان يحيى بن زيد وصلّى عليه ودفنه ، وبعد أن تقلّد المنصب كقائد عام للعسكر توجّه من فوره لخراسان ليقود الجماهير التي تنتظر الأوامر منه وكانت متحمّسة قبل هذا الحين للحرب مع الاُمويين فخطب بالدعاة قائلا: أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها من أسباب الظفر ، وأكثروا من ذكر الضغائن ، فإنها تبعث على الاقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب [5]
.
وفجّر الثورة هناك، وكان يبذر الشقاق بين جنود الاُمويين ليحصل الانقسام بينهم . وقد استفاد بذلك ونجح في مهمّته ، وقد انجفل الناس من هرات والطالقان ومرو وبلخ وتوافروا جميعاً مسودين الثياب وأنصاف الخشب التي كانت معهم [6]
.
وباشر أبو مسلم إبادة الأبرياء فقتل ـ فيما ينقل المؤرخونـ ستمائة ألف عربي بالسيف صبراً عدا من قتل في الحرب [7]
.
وتقدّمت جيوش أبي مسلم ـ بعد أن هزمت ولاة الاُمويينفي خراسانـ نحو العراق وهي كالموج تخفق عليها الرايات السود فاحتلّت العراق بدون مقاومة تذكر. وبهذا اُعلن الحكم العباسي على يد أبي مسلم الخراساني في الكوفة سنة ( 132 هـ ) .
والجدير بالذكر أنه قبل أن يدخل أبو مسلم الخراساني الكوفة حدث هناك أمران ينبغي الالتفات اليهما :
الأمر الاول : في سنة ( 131 هـ ) بعد إعلان أبي مسلم الخراساني الثورة في خراسان وقبل دخوله الكوفة اُلقي القبض على ابراهيم الإمام ـ الرأس المدبّر للثورة ـ من قبل الخليفة الاُموي مروان وحبسه في حرّان ثم قتله بعد ذلك في نفس التاريخ وبهذا الحدث تعرضت الحركة العباسية لانتكاسة كبرى .
الأمر الثاني : خاف أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور وجماعة فهربوا الى الكوفة لوجود قاعدة من الدعاة العباسيين فيها وعلى رأسهم أبو سلمة الخلاّل الذي كان يضاهي أبا مسلم في الدهاء والنشاط وكان يُعرف بوزير آل محمد (صلى الله عليه وآله) فأخلى لهم داراً وتولى خدمتهم بنفسه وتكتّم على أمرهم .
ولعلّ أبا سلمة الخلاّل كان يريد من خلال هذا الإجراء صرف الخلافة لآل علي ولكنه غلب على أمره حتى فاجأته جيوش أبي مسلم الخراساني إلى الكوفة وظهر أمر بني العباس فأخرجوا السفاح إلى المسجد وبايعوه يوم الجمعة 12 ربيع الاول سنة ( 132 هـ ) .
واستقبلت الكوفة بيعة السفاح بكثير من القلق لأنها كانت تترقّب بفارغ الصبر حكومة العلويين حسب الشعارات المرفوعة ليبسطوا الأمن والرخاء.
أمّا الاوساط الواعية في الكوفة، بل في كل أنحاء العالم الإسلامي فقد شجبت البيعة للسفّاح وأفتى الفقهاء في يثرب بعدم شرعيّتها [8]
.
وبعد ذلك أخذوا به إلى المسجد لغرض الصلاة والخطبة لكنه حُصِر وخطب مكانه عمه داود ثمّ امتلك الجرأة فخطب وكان من جملة ما قاله في خطابه :
يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا ، ومنزل مودتنا ، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك ، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم ، حتى أدركتم زماننا ، وأتاكم الله بدولتنا ، فأنتم أسدّ الناس بنا ، وأكرمهم علينا ، وقد زدتكم في اعطياتكم مائة درهم ، فأنا السفاح المبيح ، والثائر المنيح [9]
ثمّ أرسل قوّاته بقيادة عبد الله بن علي لقتال مروان بن محمد بن مروان الحمار ولاحقته الجيوش العباسية من بلدة إلى اُخرى حتى حاصرته في مصر في قرية يقال لها ( بوصير ) وقتل هناك شرّ قتلة [10]
.
3 ـ موقف الإمام (عليه السلام) من الاحداث
3 ـ موقف الإمام (عليه السلام) من الاحداث
التزم الإمام الصادق (عليه السلام) إزاء المستجدّات السياسية في هذه المرحلة موقف الحياد. لكنه من جانب آخر واصل العمل في نهجه السابق وأخذ يتحرّك بقوة ويوسع من دائرة الافراد الصالحين في المجتمع تحقيقاً لهدفه الذي خطه قبل هذا الوقت وحفاظاً على جهده في بناء الانسان .
ومن هذا المنطلق أصدر جملة من التوصيات لشيعته التي كان من شأنها أن تجنّبهم الدخول في المعادلات السياسية المتغيرة التي تؤدي بنتيجتها إلى استنزاف الوجود الشيعي في نظر الإمام (عليه السلام) محذّراً من أساليب العنف والمواجهة كخيار لهذه المرحلة.
فعن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : «اتقوا الله وعليكم بالطاعة لأئمتكم ، قولوا ما يقولون ، واصمتوا عما صمتوا، فإنكم في سلطان من قال الله تعالى : (وان كان مكرهم لتزول منه الجبال ) [11]
يعني بذلك ولد العباس ، فاتقوا الله فأنكم في هدنة، صلّوا في عشائرهم واشهدوا جنائزهم ، وأدّوا الامانة إليهم» [12]
.
ويمكن بلورة سيرة الإمام (عليه السلام) ومنهجه السياسي ـ مع الاطراف الطامعة بالحكم ، أو العباسيين الّذين يرون في الإمام الصادق (عليه السلام) وخطه خطراً حقيقياً على سلطانهم ـ من خلال المواقف التالية :
موقف الإمام (عليه السلام) من عرض أبي سلمة الخلاّل
موقف الإمام (عليه السلام) من عرض أبي سلمة الخلاّل
لقد أدرك أبو سلمة الخلاّل ـ أحد الدعاة العباسيين النشطين في الكوفة والذي لعب دوراً متميزاً في نجاح الدعوة العباسية وتكثير أنصارها في الكوفة، وذلك لما امتاز به من لياقة وعلم ودهاء ، وثراء حيث أنفق من ماله الخاص على رجال الدعوة العباسية، وكانت له علاقة خاصة واتصالات مستمرة مع إبراهيم الإمام وأدرك بعد موت ابراهيم الإمام بأن الامور تسير على خلاف ما كان يطمح إليه أو لعلّه كان قد تغير هواه واستجد في نفسه شيء ولاحظ أنّ مستقبل الخلافة سيكون إلى أبي العباس أو المنصور وهما غير جديرين بالخلافة أو لطمعه بالسلطة ، نراه يكتب للعلويين وفي مقدمتهم الإمام الصادق (عليه السلام) بأنه يريد البيعة لهم.
لكننا لا نفهم من رسالة ـ أبي سلمة ـ للإمام (عليه السلام) بأنها رسالة ندم أو اعتراض على النهج العباسي وخديعتهم للعلويين أو إدانة أساليبهم في الاستيلاء على السلطة.
نعم إن الّذي نجده عند مشهور المؤرخين [13]
هو أنّ أبا سلمة الخلال أراد نقل الخلافة إلى العلويين ولم يوفق لذلك.
ونجد في جواب الإمام (عليه السلام) على رسالة أبي سلمة: أن الإمام (عليه السلام) قد رفض العرض لا بسبب كون الظروف قلقة وغير مؤاتية فحسب بل كان الرفض يشمل أبا سلمة نفسه حيث قال: «مالي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري» [14]
.
وأكد الإمام (عليه السلام) رفضه القاطع عند ما قام بحرق الرسالة التي بعثها له أبو سلمة جواباً لأبي سلمة:
قال المسعودي : كاتب أبو سلمة الخلاّل ثلاثة من أعيان العلويين وهم جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) وعمر الأشرف بن زين العابدين ، وعبد الله المحض، وأرسل الكتب مع رجل من مواليهم يسمى محمد بن عبد الرحمن ابن أسلم مولىً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وقال أبو سلمة للرسول: العجل العجل فلا تكونن كواقد عاد وقال له: اقصد أولا جعفر بن محمد الصادق فإن أجاب فأبطل الكتابين الآخرين وإن لم يجب فالق عبد الله المحض فإن أجاب فأبطل كتاب عمر وإن لم يجب فالق عمر .
فذهب الرسول إلى جعفر بن محمد أولا ، ودفع إليه كتاب أبي سلمة فقال الإمام (عليه السلام) : « مالي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري؟! . فقال له الرجل: اقرأ الكتاب ، فقال لخادمه: إدن السراج مني فأدناه ، فوضع الكتاب على النار حتى احترق، فقال الرسول: ألا تجبه ؟ قال (عليه السلام): قد رأيت الجواب. عرّف صاحبك بما رأيت » [15]
المصدر:سایت اسبطین
____________________________________________
[1]
الكامل في التاريخ : 4 / 195 ، وتاريخ ابن الساعي : 3 .
[2]
الكامل في التاريخ : 4 / 295 .
[3]
وفيات الأعيان: 3 / 145 .
[4]
الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : 2 / 311 .
[5]
حياة الإمام موسى بن جعفر : 1 / 326 .
[6]
حياة الحيوان، الدينوري : 360 .
[7]
حياة الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) : 1 / 326 .
[8]
تاريخ الامم والملوك : 9 / 124 ، وتاريخ ابن قتيبة : 128 ، والطقطقي : 127 .
[9]
الكامل في التاريخ : 5/413 .
[10]
اليعقوبي: 2/346 وابن جرير وابن الأثير في الكامل في التاريخ: 5/426 .
[11]
إبراهيم (14): 46 .
[12]
الكافي : 8 / 210 .
[13]
تاريخ الامم والملوك : 9 / 124 . وابن قتيبة : 128 ، والطقطقي : 127 .
[14]
مروج الذهب : 3 / 254 ، والآداب السلطانية : 137 .
[15]
مروج الذهب : 3 / 254.