حركة الامام الصادق(ع) الرسالية، جاءت بعد تحكم الجهل والعصبيات، نتيجة ما عصف بالأمة من رياح عاتية، ابعدت الحق عن نصابه، وأسقطت مواثيق وبنود الصلح، ولحقن الدماء ولتاكيد حرمة دم المسلم على المسلم، وأن يعاد الحق الى اهله، وكانت كربلاء ثورة على الظلم والطغيان، ولكن الأمة في حينها قد حكمها الخوف والجشع، وكانت القلوب مع الحق والسيوف عليه، إزدواجية في المعايير والشخصية، جهل لا يورث إلا عماً وانحرافاً".
ومن مباديء مدرسة الامام الصادق التي نومن بها، نرى أن الوحدة الاسلامية هي الاساس، وما احوجنا الى هذه الجامعة وفكرها ونهجها العلمي، بكل أبعادها لنجسد بذلك التعاليم الاسلام وروحه العلمية الوحدوية، للنهوض بالمجتمع البشري، نحو سعادته وكماله، التي توحد صفوف الامة الاسلامية .
و قد إحتضنت فترة الامام الصادق ومن قبله فترة أبيه الباقر عليهما االسلام كثيراً من الحوارات والمناقشات الفقهية والكلامية بنسبة ملحوظة من الانفتاح الفكري والثقافي، ووضع الامام الصادق(ع) الأساس التجريبي للكثير من العلوم الرياضية والطبيعة، ووسع من أفق التفكير في علوم الكلام والفقه على الأساس النظري، حتى تأسست مذاهب على أفكار بعض من تتلمذ على يديه فترة من الزمن كالامام أبي حنيفة النعمان.
فتلاميذ الامام الصادق لم يكونوا من مذهب معين بحد ذاته بل أغلب علماء الاسلام تتلمذوا على يديه، ويفتخرون بهذه التلمذة كما ينقل متواتراً عن الامام ابي حنيفة قوله: لولا السنتان لهلك النعمان، لما كانت لهاتين السنتين الدراسيتين من أثر بالغ في حياته العلمية وإكتمال وعيه لشريعة السماء. وهذا إن دلَّ على شيئ فإنما يدل على الروح الوحدوية التي كانت تعيش بين جنبات الامام جعفر الصادق(ع) وتربيته لطلابه على أساس العلم والتقوى والحياة من أجل الاسلام ومصالح المسلمين.
سعى الامام الصادق(ع) الى فتح آفاق الاجتهاد لدى تلامذته في المفاهيم الاسلامية، محاولا تصحيح الطرق الإجتهادية التي كانت متداولة لدى البعض من الفقهاء ليجعل من ذلك قاعدة أساسية في إستنباط الأحكام الشرعية من أدلة وحدوية ترتكز على الكتاب والسنة الصحيحة يلتزم بها الفقهاء في حياتهم العلمية.
وكأن الامام الصادق(ع) كان يدرك أنَّ فتح باب صحيح للاجتهاد يعطي حركة تطورية للعلم من شأنه أن يساعد في تقريب وجهات النظر المختلفة، وذلك من خلال إعادة أي حوار في أي مسألة الى قاعدته الأصلية التي هي الكتاب والسنة، وأسس الامام الصادق(ع) طرق التعلُّم واساليبه العلمية ليبقى التلميذ متواصلاً مع العلم طول حياته، لذلك نقرأ ما ورد عنه(ع) قوله: "اطلبوا العلم، فإنه السبب بينكم وبين الله"، وقوله(ع): "اكتبوا، فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا"، هذا التأكيد على الجانب التجريبي والبحث العلمي المستمر، مكّنَ تلامذة الإمام الصادق من استيعاب الفكر اليوناني دون الإخلال بمرتكزات الفكر الإسلامي. فواجه الإمام الصادق المشاكل المطروحة في عصره حول الجبر والاختيار، والقضاء والقدر، بانفتاح وحرية لا زالت رمزاً لكل من طلب الانعتاق من الاغلال.
يقول أنور الجندي: أن الإمام الصادق علم تلامذته الأخذ بالدليل الاستقرائي لتحصيل المعرفة الإنسانية والكونية، معتبرا القرآن مصدراً إلهياً للمعرفة الدينية الموجهة للمعرفة الإنسانية وليست البديلة عنه. فجابر بن حيان هو القائل في حق الإمام الصادق: "وحق سيدي، لولا أن هذه الكتب باسم سيدي صلوات الله عليه لما وصلتُ إلى حرف من ذلك إلى الأبد". ويقول جابر مسترشداً بتعاليم الإمام الصادق: "اتعب أولاً تعباً واحداً، واعلم. ثم أكمل، فإنك لا تصلُ أولاً ثم تصلُ إلى ما تريد". ويقول أيضا: "من كان دُرَّباً مجرباً، كان عالماً حقاً، ومن لم يكن دُرَّباً لم يكن عالما، وحسبك بالدربة في جميع الصنائع، لأن الصانع الدُرَّب يحذق، وغير الدُّرَّبْ يَعْطِلْ”. ويقول جابر “عملته بيدي وبعقلي، وبحثته حتى صح، وامتحنته حتى كذب".
اما الحوار: إيمان وإلتزام الامام الصادق بالحوار كان كبيرا لإيصال المفهوم الاسلامي الصحيح للآخرين أياً كانوا، ولذلك كان عليه السلام يتحدث بطول نفس مع الزنادقة الذين لم يؤمنوا بالإسلام، ولا يغضب عندما يسأله أحد الزنادقة "كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟"، ويجيبه الإمام "رأته القلوب بنور الإيمان وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصر العلماء على ما رأوه من عظمته دون رؤيته" (الامام الصادق، أنور الجندي/1977).
أن الفكر الحواري في مدرسة الامام الصادق لم يتوقف معه(ع) بل سار الأئمة الباقون على نهجه في ترسيخ العلم في حياة المسلمين بالحوار والمناقشة العلمية الجادة بينهم وبين غيرهم حتى من أتباع الديانات الأخرى.
اما الوحدة الاسلاميه : لا يمكن أن تتحقق الوحدة بين المسلمين مع تعند كل جهة دون الاعتراف باسلام الآخر ما دام يشهد بالشهادتين ويلتزم بأحكام الاسلام، وهذا ما كان يراه الامام جعفر الصادق(ع) وكان يؤمن به ويعلم تلاميذه على أن كل من إتصف بتلك الصفات له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ولا يجوز سبه ولعنه كما ورد عن جده الامام علي عليه السلام (لا تكونوا سبابين ولا شتامين، وإني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبهم إياكم: اللهم إحقن دمائنا ودمائهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به).
و كذالك نهى الامام الصادق عليه السلام عن التعصّب لأنه أحد أهم أسباب وعوامل التشاجر والتناحر والاختلاف والفرقة بين المسلمين لأنه يمنع من اللقاء والاجتماع في النقاط المشتركة وفي الآفاق العليا.
قال عليه السلام: "من تعصّب أو تعصِّب له، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه".
وقال عليه السلام: "من تعصّب عصّبه الله بعصابة من نار".
ودعى الإمام الصادق عليه السلام إلى اصلاح العلاقات بين الناس والتقريب بينهم، ليكونوا أخوة متآزرين متعاونين فقال:"صدقة يحبها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا".
ووجّه الانظار إلى الموازين السليمة في التقويم والتقديم، والقائمة على أساس القرب من الله تعالى، وهي أهم ميزان للعلاقات. وفي هذا الصدد قال عليه السلام:" من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في الله وتبغض في الله وتعطي في الله، وتمنع في الله".
فقد قدّم عليه السلام، الحبّ في الله والبغض في الله على جميع الوان ومجالات الحب والبغض القائمة على أساس الانتماء والولاء للعشيرة أو اللغة أو المذهب، لأنها انتماءات وولاءات ثانوية، لا تصح ان تكون بذاتها محببة بل بدرجة تأثيرها الايجابي الواقع ضمن "قاعدة الحب في الله والبغض في الله".
وكانت علاقاته مع أئمة المذاهب قائمة على المحبة والمودة والاحترام المتبادل، وفي ذلك قال مالك بن أنس: كنت ادخل إلى الصادق جعفر بن محمد، فيقدّم لي مخدّة، ويعرف لي قدراً، ويقول: يا مالك انّي احبّك، فكنت اسرّ بذلك وأحمد الله عليه. -بحار الانوار ج47 ص16-.
ان هذه الرواية تنسجم مع أخلاق الإمام جعفر الصادق (ع) في علاقاته مع الآخرين، وفي تحركه نحو تقريب القلوب.
وكان الفقهاء وأئمة المذاهب الأخرى يتوجهون لزيارته واللقاء به وأخذ العلم عنه.
فقد كان سفيان الثوري يقول: "حدّثني جعفر بن محمد" و سمعت جعفراً يقول. وكان يقول له: "لا أقوم حتى تحدثني" .
وكان الامام ابو حنيفة يقول: "لولا السنتان لهلك النعمان. وورد في كتاب حلية الاولياء عن عمرو بن المقدام بن معد يكرب انه قال: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين.
وبهذه الأخلاق الفاضلة المؤمنة بالحوار كأساس لبناء الصرح الاسلامي تمكن الامام جعفر الصادق عليه السلام، من تربية آلاف العلماء وما بقي إرثاً للمسلمين من خلفه كله من آثار ذلك الايمان بالحوار والتسامح الذي إتصف بهما وعلَّمها لتلاميذه وأصحابه، وأوصى المسلمين بالالتزام بمبدأ الحوار البناء لا الحوار الهدام لوحدة المسلمين بزرع التفرقة بينهم.
ويؤدب الإمام الصادق عليه السلام أتباعه ، بالدعاء حتى لخصومهم وأعدائهم بأن يهديهم الى طريق الحق والصواب، لأن المؤمن الحقيقي هو من يكظم غيضه ولا يشفيه بالانتقام من عدوه، كما كان يقول رسول الله (ص): (اللهم إهد قومي فإنهم لا يعلمون)، فأين نحن من أدب وأخلاق رسول الله والامام جعفر الصادق(ع) إمام المذاهب الاسلامية جميعاً.
وورد في كتاب حلية الاولياء عن عمرو بن المقدام بن معد يكرب انه قال: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين.
وبهذه الأخلاق الفاضلة المؤمنة بالحوار كأساس لبناء الصرح الاسلامي تمكن الامام جعفر الصادق(ع) من تربية آلاف العلماء وما بقي إرثاً للمسلمين من خلفه كله من آثار ذلك الايمان بالحوار والتسامح الذي إتصف بهما وعلَّمها لتلاميذه وأصحابه، وأوصى المسلمين بالالتزام بمبدأ الحوار البناء لا الحوار الهدام لوحدة المسلمين بزرع التفرقة بينهم.
و إلتزم فقهاء مدرسة الامام الصادق بهذا النوع من الحوار فكراً وسلوكاً في حياتهم العلمية والعملية ولا سيما في إستنباط الأحكام الشرعية وتقرير المفاهيم الاسلامية، ولم يترددوا في الأخذ بالروايات الصحيحة من كتب الآخرين دون المذاهب الأخرى، وهذا ما يدلُّ على سعة الأفق العلمي وإحترام الرأي الآخر وعدم حصر أبواب العلم والمعرفة بمصدر واحد، ومما يؤسف أن الكثير من فقهاء المسلمين في العالم اليوم غير مطلعين على ما تركه الامام الصادق عليه السلام من إرث علمي كبير، وقد تتحول الحالة لدى البعض الآخر بحالة شبه عصبية تمنعه من الاطلاع على مثل هذا الارث الاسلامي العظيم.
فنشأة المذاهب وتأسيس الاجتهاد وبناء أسس للحوار والمناقشة العلمية بعيداً عن اي نوع من أنواع العصبية، بل على اساس إحترام الرأي الآخر، ومن دون تكفير الاخر وإصدار فتاوى بسفك الدماء، أدَّت الى حدوث تطور ملحوظ في تبيين المفاهيم الاسلامية، ولكن مما يؤسف عليه فإن غلق باب الاجتهاد لدى بعض المدارس الاسلامية من ناحية، وسير بعض مدعي الفقاهة والعلم بركب السلاطين، وتابعية المدارس العلمية بالسلطة، واستعمال دوائر ومؤسسات إعلامية شعار الاسلام للمصالح الذاتية، كلها عوامل تؤثر سلباً على وحدة الساحة الاسلامية وتزيد من تفكك المسلمين والصراعات فيما بينهم.
وعلى عقلاء الأمة من فقهائها ومفكريها الملتزمين واجب السير قدماً نحو تأصيل الفكر الاسلامي الصحيح، والسعي بجد وإخلاص الى بناء وحدة بشكل ملحوظ بين أتباع المذاهب الاسلامية تقوم على اساس الاحترام المتبادل لحفظ مصالح المسلمين العامة بعيداً عن كل أشكال الصراع السياسي او المذهبي لدرء كل الفتن التي تعصم بدولها وشعوبها التي بدأت تتمزق من جديد.
واليوم ما أحوجنا الى مفكرين مصلحين وفقهاء بعيدين عن بلاط الحكام والسلاطين يقرأون ما ورثه الامام جعفر الصادق(ع) للبشرية من علوم ليعيدوا للفكر الاسلامي رونقه الحقيقي عن طريق حوار بناء بينهم قد يعين المسلمين وليتوحدوا ويبنوا مجدهم من جديد.
السلام عليك ياصادقا مصدّقا في القول والفعل ورحمة الله وبركاته
المصدر: ابنا