لعلّ شبهة التجسيم جاءت من قبل بعض الزنادقة فدخلت في بعض معتقدات أهل الآراء والمذاهب من المسلمين، الذين يجمدون في الدين على الظواهر، فإن أهل الزندقة لما خابوا في الدعوة الى التعطيل والإلحاد أفلحوا في دسّ هذه الشبهة، لأنّا نجد الكلام عنها كثيراً في ذلك العصر، ونقرأ الكثير عنها في الأسئلة التي توجّه الى الإمام، فمن ذلك قوله في الجواب عن هذه الشبهة:
إِن الجسم محدود متناه، والصورة محدودة متناهية، فاذا احتمل الحدّ احتمل الزيادة والنقصان، واذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقاً.
قال السائل: فما أقول ؟ قال عليه السّلام: لا جسم ولا صورة وهو مجسّم الأجسام، ومصوّر الصور، لم يتجزّأ ولم يتناه، ولم يتزايد ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق، ولا بين المنشئ والمنشأ، لكن هو المنشئ فرّق بين جسمه وصوره وأنشأه، إِذ لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئاً(1).
أقول: كاد أن يسيل هذا البيان رقّة ولطفاً مع قوّة الحجّة ومتانة التركيب وقد أغنى بوضوحه عن ايضاحه.
وقال مرّة اُخرى: فمن زعم أن اللّه في شيء أو على شيء أو يحول من شيء الى شيء أو يخلو منه شيء أو يشتغل به شيء فقد وصفه بصفة المخلوقين واللّه خالق كلّ شيء لا يقاس بالقياس، ولا يشبّه بالناس، لا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان، قريب في بُعده بعيد في قربه، ذلك اللّه ربّنا لا إِله غيره(2).
أقول: ما أبدع هذا الوصف منه عليه السّلام، وما أدقّ معنى قوله «قريب في بُعده بعيد في قربه» ويحتاج إِدراكه الى لطف فريحة وفطرة ثانية.
وما اكثر ما جاء عنه عليه السّلام في هذا المعنى ونجتزي عنه بهذا القدر. وممّا يجب أن يعلم أن نفي الجسم والصورة عنه - تقدّست ذاته - ممّا يقتضيه حكم العقل، وقد استوفت البيان عن كتب الكلام، وأن النبي وأهل بيته عليهم السّلام جميعاً أجمعوا على هذا التنزيه إِرشاداً الى حكم العقل، وما اكثر ما جاء عن سيّد الرسل صلّى اللّه عليه وآله من البيان عن هذا التنزيه، ومن التأويل لما جاء ظاهراً في التجسيم من التنزيل، أمثال قوله تعالى: «على العرش استوى» وقوله «يد اللّه فوق أيديهم» وقوله: «فثم وجه اللّه» وغيرها، ولولا أن نخرج عن الصدد لوافيناك ببعض كلامه، بيد أننا نذكر كلمة واحدة فحسب وهو ما يروى عن ابن عباس، قال: قدم يهودي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقال له نعثل فقال: يا محمّد إني أسألك عن أشياء تلجلج في صدري مند حين، فإن أنت أجبتني عنها أسلمت على يدك، قال: سل يا أبا عمارة، فقال: يا محمّد صف لي ربّك، فقال صلّى اللّه عليه وآله: إِن الخالق لا يوصف إِلا بما وصف به نفسه، وكيف يوصف الخالق الذي تعجز الحواسّ أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الاحاطة به جلّ عمّا يصفه الواصفون، نأى في قربه، وقرب في نأيه، كيّف الكيفيّة فلا يقال له كيف، وأيّن الأين فلا يقال له أين، فهو الأحد الصمد، كما وصف نفسه، والواصفون لا يبلغون نعته، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
قال: صدقت يا محمّد، أخبرني عن قولك: أنه واحد لا شبيه له، أليس اللّه واحداً والانسان واحداً، فوحدانيّته أشبهت وحدانيّة الانسان، فقال صلّى اللّه عليه وآله: اللّه واحد واحديّ المعنى، والانسان ثنويّ المعنى، جسم وعرض وبدن وروح، فإنما التشبيه في المعاني لا غير، قال: صدقت يا محمّد(3).
أقول: فهذه الكلمة من الرسول صلّى اللّه عليه وآله صريحة في تنزيهه تعالى عمّا يشابه الخليقة في الذات والصفات، والقرآن ينادي بفصيحه في ذلك التنزيه بأمثال قوله تعالى: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار»(4) فليت شعري أما يكفي في تأويل هاتيك الآيات الظاهرة مثل هذه الآيات الصريحة، ومثل كلام الرسول السالف، ومثل ما جاء عنه وعن آله في تفسير تلك الظواهر، ومن ورائها جميعاً حكم العقل بنزاهته تعالى عن مشابهة الحوادث ومجانسة الممكنات.
ولا أدري كيف نفث ذلك السحر فأعمى بعض الأبصار والبصائر، فجعل ناساً من الأوائل يخبطون خبط عشواء في التوحيد ؟
______________________________
(1) الكافي: باب النهي عن الجسم والصورة، وتوحيد الصدوق: باب أنه ليس بجسم ولا صورة.
(2) بحار الأنوار: 3/287/2.
(3) بحار الأنوار: 3/303/40.
(4) الأنعام: 103.
المصدر:سایت السبطین