إنّ الإمام الصادق(عليه السلام) في الوقت الذي كان يواجه هذه التيارات الالحادية الخطيرة على الاُمّة كان مشغولاً أيضاً بمواجهة التيّارات التي تتبنّى المناهج الفقهية التي تتنافى مع روح التشريع الاسلامي، والتي تكمن خطورتها في كونها تعرّض الدين الى المحق الداخلي والتغيير في محتواه، من هنا كان الإمام(عليه السلام) ينهى أصحابه عن العمل بها حتّى قال لأبان: «يا أبان! إنّ السُنة إذا قيست محق الدين» [1]
.
وكان للإمام نشاط واسع لإثبات بطلان هذه المناهج وبيان عدم شرعيتها .
لقد كان أبو حنيفة يتبنّى مذهب القياس ويعمل به كمصدر من مصادر التشريع في استنباط الاحكام ، لكنّ الإمام(عليه السلام) كان ينكر عليه ذلك ويبيّن له بطلان مذهبه.
وإليك بعض المحاورات التي جرت بينه وبين الإمام(عليه السلام) :
ذكروا أنه وفد ابن شبرمة مع أبي حنيفة على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال لابن شبرمة: «مَن هذا الذي معك؟»
فأجابه قائلاً : رجل له بصر، ونفاذ في أمر الدين.
فقال له (عليه السلام) : « لعله الذي يقيس أمر الدين برأيه؟» فأجابه: نعم.
والتفت الإمام (عليه السلام) الى أبي حنيفة قائلاً له: «ما اسمك ؟» فقال: النعمان.
فسأله (عليه السلام) : «يا نعمان ! هل قست رأسك ؟»
فأجابه : كيف أقيس رأسي؟.
فقال له (عليه السلام) : « ما أراك تحسن شيئاً. هل علمت ما الملوحة في العينين ؟ والمرارة في الاُذنين ، والبرودة في المنخرين والعذوبة في الشفتين؟
فبهر أبو حنيفة وأنكر معرفة ذلك ووجّه الإمام إليه السؤال التالي: « هل علمت كلمة أوّلها كفر، وآخرها إيمان ؟» فقال:لا .
والتمس أبو حنيفة من الإمام أن يوضّح له هذه الاُمور فقال له (عليه السلام) : «أخبرني أبي عن جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله تعالى بفضله ومنّه جعل لابن آدم الملوحة في العينين ليلتقطا ما يقع فيهما من القذى ، وجعل المرارة في الاذنين حجاباً من الدوابّ فإذا دخلت الرأس دابّة ، والتمست الى الدماغ ، فإن ذاقت المرارة التمست الخروج، وجعل الله البرودة في المنخرين يستنشق بهما الريح ولولا ذلك لانتن الدماغ ، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد لذة استطعام كل شيء».
والتفت أبو حنيفة الى الإمام (عليه السلام) قائلاً : أخبرني عن الكلمة التي أوّلها كفر وآخرها إيمان ؟
فقال له (عليه السلام) : «إن العبد إذا قال: لا إله فقد كفر فإذا قال إلاّ الله فهو الإيمان » .
وأقبل الإمام على أبي حنيفة ينهاه عن العمل بالقياس حيث قال له: « يا نعمان حدثني أبي عن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه قال : أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال له الله تعالى : اسجد لآدم فقال: ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) » [2]
.
والتقى أبو حنيفة مرّة اُخرى بالإمام الصادق (عليه السلام) فقال له الإمام : «ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي ؟».
فأجابه أبو حنيفة: ياابن رسول الله ما أعلم ما فيه.
فقال له (عليه السلام) : « ألا تعلم أن الظبي لا تكون له رباعية ، وهو ثني أبداً ؟!» [3]
.
ثم التقى أبو حنيفة مرّة ثالثة بالإمام الصادق ، وسأله الإمام (عليه السلام) عن بعض المسائل ، فلم يجبه عنها.
وكان من بين ما سأله الإمام هو : « أيّهما أعظم عند الله القتل أو الزنا ؟» فأجاب : بل القتل.
فقال (عليه السلام) : « كيف رضي في القتل بشاهدين، ولم يرضَ في الزنا إلاّ بأربعة ؟»
وهنا لم يمتلك أبو حنيفة جواباً حيث ردّ الإمام قياسه بشكل واضح.
ثم وجّه الإمام (عليه السلام) الى أبي حنيفة السؤال التالي : «الصلاة أفضل أم الصيام؟» فقال: بل الصلاة أفضل .
فقال الإمام (عليه السلام): « فيجب ـ على قياس قولك ـ على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله تعالى قضاء الصوم دون الصلاة؟!» .
وبهذا أراد الإمام أن يثبت لأبي حنيفة أن الدين لا يُدرك بالقياس والاستحسان. ثم أخذ الإمام يركّز على بطلان مسلكه القياسي فوجّه له سؤالاً آخر هو : « البول أقذر أم المني ؟» فقال له : البول أقذر .
فقال الإمام (عليه السلام) : « يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول; لأنه أقذر، دون المنيّ ، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول ».
ثم استأنف الإمام (عليه السلام) حديثه في الردّ عليه قائلاً: « ما ترى في رجل كان له عبد فتزوّج ، وزوّج عبده في ليلة واحدة فدخلا بأمراتيهما في ليلة واحدة، ثم سافرا وجعلا إمرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين فسقط البيت عليهم فقتلت المرأتان ، وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك ؟ وأيّهما المملوكوأيّهما الوارث ؟ وأيّهما الموروث ؟».
وهنا أيضاً صرح أبو حنيفة بعجزه قائلاً : إنما أنا صاحب حدود .
وهنا وجّه اليه الإمام السؤال التالي : « ما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح، وقطع يد رجل كيف يقام عليهما الحدّ ؟».
واعترف مرة اُخرى بعجزه فقال: أنا رجل عالم بمباعث الانبياء...
وهنا وجّه له الإمام السؤال التالي: « أخبرني عن قول الله لموسى وهارون حين بعثهما الى فرعون (لعلّه يتذكّر أو يخشى) [4]
ـ ولعلّ منك شكّ ؟) فقال: نعم. فقال له الإمام (عليه السلام) : « وكذلك من الله شكّ إذ قال : لعله ؟ ! » فقال : لا علم لي .
وأخذ الإمام باستفراغ كل ما في ذهن أبي حنيفة من القياس قائلاً له : « تزعم أنك تفتي بكتاب الله ، ولست ممّن ورثه ، وتزعم أنك صاحب قياس، وأوّل من قاس إبليس لعنه الله ولم يُبنَ دينُ الاسلام على القياس وتزعم أنك صاحب رأي، وكان الرأي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) صواباً ومن دونه خطأ، لأنّ الله تعالى قال: (فاحكم بينهم بما أراك الله)ولم يقل ذلك لغيره ، وتزعم أنك صاحب حدود، ومن أُنزلت عليه أولى بعلمها منك وتزعم أنك عالم بمباعث الانبياء، وخاتم الانبياء أعلم بمباعثهم منك .
لولا أن يقال دخل على إبن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يسأله عن شيء ماسألتك عن شيء. فقس إن كنت مقيساً.
وهنا قال أبو حنيفة للإمام (عليه السلام) : لا أتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس.
وأجابه الإمام (عليه السلام) : « كلاّ إنّ حبّ الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك » [5]
.
وهكذا وقف الإمام (عليه السلام) موقفاً لا هوادة فيه ضدّ هذه التوجّهات الخطيرة على الاسلام فكثّف من نشاطه حولها ولاحق العناصر التي كانت تتبنّى هذه الافكار الدخيلة ليغيّر من قناعاتها .
ونجد للإمام (عليه السلام) موقفاً مع ابن أبي ليلى وهو القاضي الرسمي للحكومة الاُموية وكان يفتي بالرأي قبل أبي حنيفة وقد قابل الإمام الصادق (عليه السلام) وكان معه سعيد بن أبي الخضيب فقال (عليه السلام) : « من هذا الذي معك ؟» قال سعيد : ابن أبي ليلى قاضي المسلمين .
فسأله الإمام (عليه السلام) قائلاً : «تأخذ مال هذا فتعطيه هذا وتفرّق بين المرء وزوجه ولا تخاف في هذا أحداً ؟!» قال:نعم .
قال : «بأيّ شيء تقضي ؟»قال: بما بلغني عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعن أبي بكر وعمر» .
قال: فبلغك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: « أقضاكم عليّ بعدي؟» قال : نعم قال: « كيف تقضي بغير قضاء علي ، وقد بلغك هذا ؟»
وهكذا عرف ابن أبي ليلى أنه قد جانب الحق فيما حكم وأفتى به.
ثم قال له الإمام (عليه السلام) : « التمس مثلاً لنفسك ، فوالله لا اكلّمك من رأسي كلمة أبداً» [6]
.
وقال نوح بن درّاج [7]
لابن أبي ليلى : أكنت تاركاً قولاً قلته أو قضاء قضيته لقول أحد ؟ قال: لا ، إلاّ رجل واحد ، قلت : مَنْ هو ؟ قال: جعفر بن محمد (عليه السلام) [8]
المصدر: سایت السبطین
____________________________________
[1]
بحار الأنوار : 104/405 عن المحاسن للبرقي .
[2]
اُصول الكافي: 1/58 ح 20 وعنه في بحار الأنوار : 47/226 ح 16 .
[3]
مرآة الجنان : 1 / 304 ، ونزهة الجليس : 2 / 57 .
[4]
طه (20) : 44 .
[5]
الاحتجاج للطبرسي : 2 / 110 ـ 117 .
[6]
الاحتجاج : 2 / 102 .
[7]
نوح بن درّاج من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) / تنقيح المقال : 3 / 275 وابن أبي ليلى هو محمد بن عبدالرحمن مفتي الكوفة وقاضيها ، راجع سير اعلام النبلاء : 6 / 310 .
[8]
حلية الاولياء : 3 / 193 .