حسن الحكيم
كان الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، الذي أستشهد عام 148هـ، من أوسع الناس علماً، وأكثرهم اطلاعاً، وقد قال فيه الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل): (انه ذو علم غزير في الدين، وأدب كامل في الوحدة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات)، وقد جعلته هذه الصفات مقدماً بين أعلام عصره، وفقهاء زمانه، فتتلمذ عليه فقيه العراق أبو حنيفة النعمان بن ثابت، المتوفى عام 150هـ، وفقيه الحجاز مالك بن أنس، المتوفى عام 179هـ، كما تتلمذ عليه شيخ المعتزلة واصل بن عطاء، ورائد الكيمياء جابر بن حيان، وشيوخ التفسير والحديث والفقه والأصول وغيرهم من علماء المعقول والمنقول، ويقول عمرو بن أبي المقدام: (كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت انه من سلالة النبيين). وهذا مما يثبته نسبه الشريف، فهو ابن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وابن فاطمة الزهراء البتول بنت رسول الإنسانية محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
وقد تتلمذ الإمام الصادق على أبيه محمد بن علي، الذي لقب بالباقر، وذلك لتبقره في العلم، وقد أخذ الإمام الصادق مقام أبيه العلمي بعد وفاته عام 114هـ، وتزعم مدرسة المدينة المنورة العلمية، وعند انتقاله إلى الكوفة أصبح رائد مدرستها، ومحور معاهدها، فيقول الحسن بن علي الوشاء: (أدركت في مسجد الكوفة تسع مئة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد)، وقد جمعت جوابات الإمام الصادق في أربع مئة كتاب سميت بالأصول، ويقول ابن حجر الهيتمي في كتابه (الصواعق المحرقة) (نقل الناس عن الإمام الصادق ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان)، ويقول الإمام مالك بن أنس: (ما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادة وورعا)، وقد كشف فقهاء المسلمين ومحدثوهم عن آرائهم في الإمام الصادق وأكدوا ريادته العلمية، وهذا ناتج عن واقعية علم الإمام، فقد تتلمذ عليه السفيانان (الثوري وابن عيينة) والفقيه شعبة وغيرهم، وأشار الإمام أبو حنيفة إلى تلمذته على الإمام الصادق بقوله: (لولا السنتان لهلك النعمان) وقد سئل: من أين جاء لك هذا الفقه؟ فقال: (كنت في معدن العلم، ولزمت شيخاً من شيوخه).
وقد تصدى الإمام الصادق (عليه السلام) للزنادقة، وأصحاب المذاهب الهدامة عن طريق الحجة والبرهان والدليل العقلي، وقد أملى على تلميذه المفضل بن عمر، أحاديث في العقائد، وقد ضم كتاب (التوحيد) أمالي الإمام الصادق، كما روى تلميذه هشام بن الحكم أحاديث الإمام في العقائد الإسلامية، وكان الإمام الصادق قد التقى بابن أبي العوجاء، وابن طالوت، ومجموعة من الزنادقة في المسجد الحرام، وجرت فيه مناظرات ومحاججات، دحض فيها الإمام الصادق آراء الزنادقة بالأدلة الدامغة دفاعاً عن الإسلام، ومبادئه السامية وكان يحث تلاميذه على قراءة القرآن الكريم وتفسيراته، والحديث الشريف وعلوم الدين، إضافة إلى العلوم الأخرى كالطب والفلك والهيئة وغيرها من العلوم التي شاعت في عصره، وقد ألفّ تلميذه جابر بن حيان كتاباً اشتمل على ألف ورقة تتضمن رسائل الإمام الصادق إليه، وروى هشام بن الحكم قول الإمام الصادق المأثور: (لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا). وهذا مما جعل طلاب العلم يتوافدون عليه من جميع الأقطار والأمصار، ويوجهون إليه أسئلة في القرآن والحديث والفقه وغيرها، وكان قد تصدى بعنف لكل من يضع في الحديث الشريف في محاولة لإيصاله للناس سليماً نقياً حتى انه لعن أمام الأشهاد المغيرة بن سعيد لأنه كان يدس في كتب أبيه الإمام محمد الباقر، لأن حديثه هو حديث أبيه الإمام علي بن الحسين، الذي هو حديث أبيه عن جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولذا دعا الإمام الصادق إلى تدوين الحديث كي لا يتسرب إليه الوضع من إضافة أو نقصان فيقول: (احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها) وسأل أحد تلاميذه: امعك شيء تكتب؟ قال: نعم، فقال: اكتب، وأخذ يملي عليه أصح الأحاديث وأوثقها، وقد استقى تلاميذه وصاياه ونصائحه، وأفكاره التربوية كقوله: (لا زاد أفضل من التقوى، ولا شيء أحسن من الصمت، ولا عدو أضر من الجهل، ولا داء أدوى من الكذب). ومن يقف على سيرة الإمام الصادق (عليه السلام) يجد فيها أصالة الفكر الإسلامي، وأفكاره الداعية إلى الوحدة والإخاء، في مدة الانتقال السياسي من السلطة الأموية إلى السلطة العباسية.
المصدر:سایت السبطین