يوافق الخامس من شهر شعبان المعظم الذكرى العطرة لولادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، وبهذه المناسبة الميمونة نقدم لكم مقالا حول الأبعاد الثقافية والسياسية والاجتماعية لحياته مباركة.
يتلخّص منهج السياسة الأمويّة في تمكين آل أميّة من فرض سلطانها على العالم الإسلاميّ، ومكافحة كلّ حالات
الإعتراض المسلّحة والسياسيّة … في كلمتين: الإرهاب والإفساد.
وواضع هذه السياسة هو معاويّة بن أبي سفيان مؤسّس هذه السلسلة، وورث يزيد بن معاويّة هذه السياسة المزدوجة في تمكين بني أميّة من الحكم من أبيه، وبالغ في إستخدام العنف والإفساد، وكان من أبرز حالات العنف والإرهاب في فترة ولايته- رغم قصرها- فاجعة كربلاء، ثمّ مأساة الحرّة، ثمّ إحراق الكعبة المشرّفة في ثلاث سنوات متواليات، تولّى فيها الحكم من بعد أبيه.
وأمعن في الإفساد والفساد، وممارسة المجون والخلاعة، والشرب، وانتهاك حرمات الله حتى ضجّ منه الوفد الذي قصده من أبناء الصحابة من المدينة إلى قصره في الشام.
ورغم بشاعة الجرائم التي ارتكبها يزيد بن معاويّة بعد أبيه من العنف والإرهاب والفساد والإفساد في الشام والعراق والحجاز … حتى آل الأمر إلى شهادة الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأنصاره بتلك الصورة المفجعة، وانتهاك حرمة مدينة رسول الله (ص)، ومصرع الصحابة وأبناء الصحابة والتابعين بجوار الحرم النبويّ، ورغم تظاهر الخبيث بانتهاكه حدود الله وحرماته في قصره أمام المسلمين، ولمّا يمرّ على وفاة رسول الله (ص) صاحب الرسالة، غير خمسين عاماً فقط.
أقول: رغم ذلك كلّه لم يحدّثنا التاريخ بثورات وانتفاضات شعبيّة واسعة تجاه السياسة الأمويّة في الإرهاب والإفساد اللّذين تمّا تم على عهد معاويّة وابنه يزيد .. لم يحدث شي ء من هذا القبيل يومئذ في الحجاز والعراق والشام، غير حركة الإعتراض المسلّحة التي قادها المختار الثقفيّ (رحمه الله) بعد هلاك يزيد في الكوفة، والثورة المسلّحة المحدودة التي قادها التوّابون في العراق.. وأمّا فاجعة الحرّة وما ارتكب يزيد بن معاويّة فيها من الجرائم، فلا نعرف لها صدى وردود فعل واسعة في الأوساط الإسلاميّة يومئذ في العراق والشام والحجاز ومصر وغير ذلك من الأقاليم الإسلاميّة، غير اعتراضاتمحدودة جداً في العراق والحجاز.
ويحار الإنسان في تفسير هذا السكوت المطلق من قبل المسلمين عن جرائم بني أميّة يومئذٍ..
ولا تشير المدوّنات التاريخيّة التي أرّخت هذه الفترة إلى تفسير هذا السكوت والقعود عن الإعتراض تجاه سياسة بني أميّة.
كما لا نجد في المؤرّخين المحدّثين الذين يؤرخون هذه الفترة المعتمّة من التاريخ الإسلاميّ من يحاول أن يفسّر هذا السكوت المطلق للمسلمين عن الإعتراض على بني أميّة والقعود عن مقاومتهم.. رغم أنَّ التحليل والتفسير والنقد العلمي تُعدُّ جزءاً أساسياً من مسؤوليّات المؤرِّخ اليوم، رغم ذلك لم نقرأ في الأبحاث التاريخيّة المعاصرة تفسيراً لهذه الظاهرة الملفتة للنظر في تلك الفترة من تاريخ المسلمين.
نحن نعتقد- في تحليل هذه الظاهرة- أن السياسة الأمويّة في الإرهاب والإفساد حقّقت نجاحاً واضحاً منذ ولايّة معاوية، في ترويض العالم الإسلامي يومئذ على السكوت عن الإعتراض على سياسات بني أميّة، وإيثار العافيّة على مواجهة عمّال بني أميّة.
ولقد كان بنو أميّة يتوقّعون الإعتراضات المسلّحة والسياسيّة من الحرمين الشريفين في الحجاز، حيث يعيش أبناء الصحابة والتابعون، كما حدث ذلك في المدينة المنوّرة، بعد شهادة الإمام الحسين (ع) وأنصاره (رضوان الله عليهم).
ويَعْجَبُ الإنسان عندما يقرأ منهج بني أميّة في تطويع الحرمين الشريفين في مكّة والمدينة للسياسة الأمويّة بالعنف والإفساد، فلقد بلغ العنف والقمع والإرهاب والذبح في الصحابة وأبنائهم والتابعين في المدينة على يد مسلم (مسرف) بن عقبة حدّاً لم يكن يتصوّره أحد.
وبلغ الأمر في القضاء على حركة عبد الله بن الزبير الذي أراد أن ينتزع السلطة من آل أميّة وينقلها إلى آل الزبير، أنّ الجيش الذي كان يحاصر الحرم المكّيّ الشريف أحرق الكعبة الشريفة بالمنجنيق.
وبلغت سياسة الإفساد في الحرمين الشريفين أنَّ آل أميّة أدخلوا الغناء والطرب إلى الحرمين الشريفين وأشاعوا اللهو والفساد والطرب والغناء فيهما بشكل واسع، وطلبوا لهما المغنّين والمغنّيات والمطربين والمطربات من شتى أقاليم العالم الإسلاميّ بمبالغ باهظة من بيت المال، وكانت ليالي البيض في (منى) حيث يجتمع الحجّاج من أطراف العالم إسلاميّ، ليشهدوا منافع لهم.. ندوات ساهرة عامرة بالغناء واللهو .. وتكفي قراءة بعض ما ذكره أبو الفرج الأصبهانيّ في (الأغاني( وغيره من الذين أرّخوا هذه الفترة، لنعرف عمق المأساة التي حلّت بالمسلمين يومئذٍ على يد آل أميّة في إشاعة اللهو والفساد في الحرمين الشريفين، ليأمنوا جانبهما في الإعتراض على سلطان بني أميّة وولايتهم على المسلمين.
يقول ابو الفرج الأصبهانيّ في الأغاني (إنّ الغناء في المدينة، لا ينكره عالمهم، ولا يدفعه عابدهم) .
ونقرأ في (الأغاني) أيضاً: أنّ فقهاء كباراً في المدينة كانوا يغنون ولهم أصوات يذكرها أبو الفرج في الأغاني لا نسمّيهم إكراماً لهم، لكن بوسعك أن تقرأ أخبارهم في (الأغاني لأبي الفرج) .
وبلغ الأمر أنّ أهل الحجاز عامّة كانوا يجيزون الغناء .
واتّخذ عروة بن الزبير قصراً بالعقيق (وادي على مقربة من المدينة) فقال له الناس قد جفرت عن مسجد رسول الله (ص) قال إنّي رأيت مساجدهم لاهيّة وأسواقهم لاغيّة والفاحشة في فجاجهم عالية .
وقال أبو يوسف لبعض أهل المدينة ما اعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني: ما منكم شريف ولا دني ء يتحاشى عنها .
وكان إذا سال العقيق لا يبقى في المدينة مخبأة (مخدّرة) ولا شابّ ولا شابّة ولا كهل إلا خرج إلى العقيق ليسمع الغناء .
وأصبحت المدينة المنوّرة مركزاً متميزاً لتعليم الجواري الغناء .
ولم يحدث هذا التركيز على إشاعة الغناء والطرب في الحرمين الشريفين إلا بتخطيط وسعي من بني أميّة لإفساد الناس في الحرمين الشريفين وإسقاطهما في نظر عامّة المسلمين.
وإذا كان الحرمان الشريفان بهذه المثابة فما بالك بسائر أقطار العالم الإسلاميّ من مصر والعراق وإيران والشام؟
هذه السياسة المزدوجة من(الإرهاب) و (الإفساد) آتت ثمارها التي كان يسعى إليها آل أميّة في تمكينهم من السلطان في العالم الإسلاميّ الواسع يومئذ..
المعارضة الشيعيّة:
وكانت المعارضة الوحيدة التي صمدت بوجه بني أميّة في هذه الفترة هي المعارضة الشيعيّة .. فلم يتمكّن بنو أميّة أن يروّضوا هذه المعارضة لسياساتهم.
ورغم كلّ الوسائل التي استخدمها بنو أميّة في تذليل هذه العقبة وتطويع شيعة أهل البيت (عليهم السلام) من خلال الإرهاب والإفساد، لم يتمكنوا من القضاء على هذه المعارضة.
أمّا المعارضة الخارجيّة (الخوارج)، فلم تقاوم الإرهاب الأمويّ طويلًا، فقد كانت حركة الخوارج حركة انتحاريّة انفعاليّة، شعاريّة، غير عقلانيّة، ولا تملك خطّة مدروسة لمواجهة بطش بني أميّة، وسلطانهم، وإفسادهم.
ولذلك لم يتمكّن الخوارج مِن أن يقاوموا بني أميّة طويلًا، وسرعان ما انتهت هذه الحركة، ويكاد أنّ يختفي دورهم في التاريخ الإسلاميّ، بعد البطش الذي مارسه الحجّاج ضدّهم.
أمّا حركة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم فكانت حركة متميّزة بالعقلانيّة والحزم والسريّة والكتمان الشديد والتقيّد وتجنّب الانفعال والطيش.
وقد كان الإمام زين العابدين (ع) يطلب من شيعته أن يتجنّبوا حالة الطيش والنزق وقلّة الكتمان، التي كان يعرفها عند بعض الناشئين من شيعته، فيقول (ع): وددت والله أنّي افتَديت خصلتين في الشيعة ببعض لحم ساعدي: النزق، وقلّة الكتمان .
لقد كان أهل البيت (عليهم السلام)، يؤكّدون لشيعتهم دائماً ضرورة ضبط النفس، والكتمان والتقية، والتعقل، والتروي، والتخطيط المرحلي لمواجهة طيش بني أمية.. في الوقت الذي كانوا يحرصون على إعلان المقاطعة لهم، ورفض التعاون مع الظلمة، والبراءة منهم وتحريم دعمهم والتعاون معهم بأي شكل من الأشكال.
هذه السياسة الحازمة العقلانيّة في معارضة الحكم الأموي حفظت شيعة أهل البيت على خط المعارضة. وإن لم نقل أنّها كانت هي المعارضة الوحيدة في الساحة السياسيّة يومذاك، فقد كانت هي المعارضة الأقوى والأشد على النظام الأموي.. منذ أيّام الإمام الحسن (ع) في عهد معاويّة إلى نهايّة العهد الأموي.
ولهذا السبب فقد أمعن بنو أميّة في محاربة شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وملاحقتهم، واستئصالهم، والتضييق عليهم، وسجنهم، وقتلهم، وقطع أرزاقهم.
وكانت هذه الفترة من حكم بني أميّة من أشق فترات التاريخ على أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم.
يقول ابن أبي الحديد، وهو ممن أرّخ هذه الفترة:
(ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين (ع)، وولي عبد الملك بن مروان، فاشتدّ على الشيعة، وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب إليه حتى المتظاهرين بالنسك والصلاح والدين ببغض عليّ وموالاة أعدائه وموالاة من يدّعي من الناس أنهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا من الروايّة في فضيلتهم (أي بني أمية) وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من البغض من علي (ع) وعيبه والطعن فيه، والشنآن له).
لقد بالغ بنو أميّة في ملاحقة شيعة أهل البيت (عليهم السلام) وتصفيتهم ونشر الرعب فيهم، وبشكل خاص في العراق، فقد كان العراق معروفاً بكثرة الشيعة.
وقد عاش الإمام الباقر (ع) هذه الفترة الصعبة من اضطهاد شيعته، والتضييق عليهم واستئصالهم.. يقول (ع)، كما يروي ذلك عنه ابن أبي الحديد، في شرح النهج:
(ثمّ لم نزل أهل البيت، نُستذلِ ونستضام، ونُنقَص ونُمتَهن، ونُحْرَم، ونُقتل، ولا نأمن على دمائنا ودماء موالينا، ووَجد الكاذبون الجاحدون، لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم، وقضاة السوء، وعمّال السوء، في كلّ بلدة، فحدَّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله، وما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس. وكان عظم ذلك وكبره زمن معاويّة بعد موت الحسن (ع)، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يُذَكّر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (ع)، ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة، وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى أنّ الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعة عليّ).
يقول ابن الأعثم (المتوفّى سنة 1 ه) في كتابه الفتوح، فيما ارتكبه زياد بن أبيه أيّام معاويّة من قتل الشيعة وملاحقتهم واستئصالهم:
وجعل زياد يتتبع شيعة عليّ بن أبي طالب، فيقتلهم تحت كلّ حجر ومدر، حتى قتل منهم خلقاً كثيراً، وجعل يقطع أيديهم وأرجلهم، ويسمل أعينهم، وجعل أيضاً يغري بهم معاوية، فقتل منهم معاويّة جماعة، وفيمن قتل حجر بن عدي الكنديّ وأصحابه، وبلغ ذلك الحسن بن علي (ع) فقال: اللهم خُذْ لنا ولشيعتنا من زياد بن أبيه، وأرنا فيه نكالًا عاجلًا .
ويقول المدائني في هذه الفترة وعن ولايّة زياد بن أبيه عامل معاويّة على الكوفة:
(وكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي (ع)، فاستعمل معاويّة عليهم زياد بن سمية، وضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة، وهو بهم عارف، لأنه كان منهم أيّام علي (ع)، فقتلهم تحت كلّ حجر).
ويروي الطبريّ القصة التاليّة عن اسلوب زياد في استئصال الشيعة في الكوفة.
وخلاصة هذه القصة: ( إن زياداً لما مات المغيرة وأنيطت به ولايّة الكوفة جاء إلى الكوفة، وصعد المنبر، وخطب في الناس، فَحُصِبَ وهو على المنبر.. يقول الطبري: فجلس حتى أمسكوا، ثمّ دعا قوماً من خاصته، وأمرهم فأخذ أبواب المسجد، ثمّ قال ليأخذ كلّ رجل منكم جليسه، ولا يقولن لا أدري من جليسي.
ثم أمر بكرسي فوضع له باب المسجد فدعاهم أربعة أربعة يحلفون بالله ما منا من حصبك، فمن حلف خلّاه، ومن لم يحلف حبسه وعزله، حتى صار إلى ثلاثين، ويقال بل كانوا ثمانين، فقطع أيديهم على المكان).
الكاتب: آية الله محمد مهدي الآصفي