خِطابان نارِيَّان أَدلت بهِما عقيلةُ الهاشميِّين زينب (ع) بعدَ عاشُوراء واحدٌ في الكوفةِ والثَّاني في الشَّام.
الأَوَّل كانَ جماهيريّاً عنَت بهِ النَّاس [المُجتمع] والثَّاني كانَ نُخبويّاً عنَت بهِ السَّاسة والزُّعماء [السُّلطة].
الأَوَّل عنيفٌ جدّاً وشديد والثَّاني أَعنف منهُ وأَشد. الأَوَّل نتناساهُ والثَّاني نحفظهُ عن ظهرِ قلب!
في الكوفةِ قرَّعت العقيلةُ (ع) المُجتمع وفضحت تقصيرهُ وحمَّلتهُ مسؤوليَّة الخُذلان، أَمَّا في الشَّام فقد قرَّعت النِّظام السِّياسي وفضحتهُ وعرَّتهُ.
١/ كما أَنَّ السُّلطةَ الفاسِدة مسؤُولةٌ، كذلكَ فإِنَّ المُجتمع الفاسِد مسؤُولٌ هوَ الآخر، فإِذا ارتكبت السُّلطةُ جريمةً ما فلا تبحث عن مسؤُوليَّتها فقط وإِنَّما فتِّش كذلك عن مسؤُوليَّة المُجتمع، فالسُّلطة لوحدِها لا يمكنُها أَن ترتكبَ جريمةً ومِن أَيِّ نوعٍ كانت إِذا لم تجِد الأَرضيَّة الإِجتماعيَّة التي تُهيِّئ لها وتُشجِّعها على ذلكَ وتحُثَّها أَو على الأَقل تسكُت عنها، والسُّكوت الإِجتماعي عن جريمةِ السُّلطة من أَعظم سُبل التَّحريض عليها.
ولذلكَ وردَ في زيارةِ عاشوراء قَول المعصوم (ع) {فـَلَعـَنَ اللهُ اُمَةً قَتـَلَتـكَ وَلَعَنَ اللهُ اُمَةً ظَلَمَتكَ وَلَعَنَ اللهُ اُمَةً سَمِعت بـِذلك فَرَضِيَت بـه} وقولهُ (ع) {فــَلَعَنَ اللهُ اُمـةً أَسرجَت و َاَلجمـَتْ وَتـَهَيَأت و تنـقـبـت لِقـِتالِك}.
٢/ عندما ترتكبُ السُّلطةُ جريمةً ما فلا تُبرِّر للمُجتمع، ولا تُطبطب على ظهرهِ أَو تمسح فَوق رأسهِ، وإِنَّما واجههُ بالتَّقريع والتَّوبيخ بحجمِ الجريمةِ فلا تكتفي بلسانِ اللَومِ حتَّى ينتبهَ لنفسهِ فيتراجعَ عن سكوتهِ أَوَّلاً ثمَّ ينتفِض لتصحيحِ آثار الجريمةِ وذلكَ أَضعفُ الإِيمان.
أُنظرُوا إِلى لُغةِ التَّقريعِ التي يستخدمها القُرآن الكريم مع المُجتمعِ [الفِئاتِ الإِجتماعيَّةِ] التي تظلِم نفسَها فيستضعِفها الطَّاغوت لأَيِّ سببٍ كانَ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
يظُنُّونَ أَنَّ الله تعالى سيقبلُ منهُم ذرائعهُم وحِججهُم!.
إِنَّ التَّعاطف فقط معَ ضحايا الجريمة التي ترتكبها السُّلطة لا يكفي للتَّكفيرِ عن الذَّنب والتَّقصيرِ وإِنَّما ينبغي مواجهة الظَّالم بالكشفِ عن هويَّتهِ والإِصحار باسمهِ وفضحِ دَورِ كلِّ واحدٍ من المُجرمينَ الذين تعاونُوا لارتكابِها مِن دونِ تستُّرٍ على أَحدٍ أَو غضِّ الطَّرف عن آخر أَو البحث عن كبشِ فداءٍ لرمي الجريمةِ عليهِ وتبرئةِ الفاعل الحقيقي، يقولُ تعالى {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيٓـَٔةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِۦ بَرِيٓـًٔا فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}.
كُن شديداً مع المُجتمع وقت ارتكابِ السُّلطةِ للجريمةِ، فلقد رمَت العقيلةُ المُجتمعَ بحِممٍ من نارٍ بخطابِها قائلةً {أَمَّا بعدُ؛ يا أَهلَ الكُوفةِ يا أَهلَ الختلِ والغدرِ أَتبكون؟! فلا رقأَت الدَّمعة ولا هدأَت الرَّنَّة، إِنَّما مثلكُم كمثلِ التي نقضَت غزلَها مِن بعدِ قُوَّةً أَنكاثاً، تتَّخذُونَ إِيمانِكُم دَخَلاً بَينَكُم أَلا؛ وهل فيكُم إِلَّا الصَّلِف النَّطِف والصَّدرِ الشَّنِف وملَقِ الإِماءِ وغمزِ الأَعداءِ، أَو كمرعى على دِمنَةٍ أَو كفِضَّةٍ على ملحُودَةٍ، أَلا ساءَ ما قدَّمت لكُم أَنفُسكُم أَن سخِطَ الله عليكُم وفي العَذابِ أَنتُم خالدُونَ}.
يجب مواجهةِ المُجتمعِ بالحقيقةِ مهما كانت مُرَّةً، فذلك هو الدَّواءُ النَّاجِعُ للمُجتمعِ الخانعِ السَّاكتِ عن الظُّلمِ والقهرِ والذُّلِّ والعبُوديَّةِ لِتهتزَّ مشاعِرهُ من الأَعماقِ لتُحرِّضهُ على تحمُّل مسؤُوليَّتهِ الدِّينيَّةِ والأَخلاقيَّةِ والسياسيَّةِ والوَطنيَّةِ.
٣/ إِذا تبنَّى المُجتمعُ شِعاراً ثمَّ ناقضهُ بسلُوكهِ أَو تعهَّد ثُمَّ أَخلفَ أَو تواصى على شَيْءٍ ولم يفِ أَو وعدَ بشيءٍ ثمَّ انقلبَ عليهِ، كلُّ ذلكَ بمثابةِ جرائِم تُعاقب عليها سُننُ الله تعالى وقوانِين العَدل الإِلهي ومُعادلات السَّماء الغيبيَّة، خاصةً إِذا كانت نتيجتها دمٌ مُسالٌ وعِرضٌ مُنتهَك وحُرمَةٌ يُتجاوَزُ عليها وأَيتامٌ تضيعُ وأَراملُ تتيهُ.
هُو بغيٌ والله تعالى يقُولُ {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُم ۖ}.
نزار حيدر
المصدر: شفقنا