يوافق السابع من شهر صفر ذكرى استشهاد الإمام الحسن السبط عليه السلام، وبهذه المناسبة الأليمة نسلط الضوء على بعض مواقفه المشرفة التي تكشف عن شجاعته وبسالته.
فيما يلي نذكر بعضاً من مواقف الإمام ( عليه السلام ) مع سلطة معاوية ، التي كانت تهزُّ عرشه ، وتُلهم معارضيه أسلوب مقاومته:
الموقف الأول :
في الشام حيث رَكَّز معاوية سلطته خلال عشرات السنين ، ولفَّقَ أكاذيب على الإسلام حتى كاد يخلق للناس ديناً جديداً .
وقف الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) يعارض نظامه الفاسد ، ويبيِّن أنه ( عليه السلام ) وخَطُّه أولى بالقيادة .
ويقصُّ علينا التاريخ الحادثة التالية :
رُوي أنَّ عمرو بن العاص قال لمعاوية : إنَّ الحسن بن علي رجل عَيِيٌّ ، وإنه إذا صعد المنبر ورَمَقوه بأبصارهم خَجَل وانقطع ، لو أذنتَ له .
فقال معاوية : يا أبا محمَّد ، لو صعدت المنبر ووعظتنا .
فقام ( عليه السلام ) ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال : ( مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن عليٍّ ، وابن سيدة النِّساء فاطمة ( عليها السلام ) ، بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
أنا ابن رسول الله ، أنا ابن نبيِّ الله ، أنا ابن السراج المنير ، أنا ابن البشير النَّذير ، أنا ابن من بُعث رحمة للعالمين ، أنا ابن من بُعث إلى الجنِّ والإنس .
أنا ابن خير خلق الله بعد رسول الله ، أنا ابن صاحب الفضائل ، أنا ابن صاحب المعجزات والدَّلائل .
أنا ابن أمير المؤمنين ، أنا المدفوع عن حَقِّي ، أنا واحدُ سَيِّدَي شباب أهل الجنَّة ، أنا ابن الُّركن والمقام ، أنا ابن مَكَّة ومنى ، أنا ابن المشعر وعرفات ) .
فاغتاظ معاوية وقال : خُذْ في نعت الرُطب ودعْ ذا .
فقال ( عليه السلام ) : ( الرِّيح تنفخه ، والحرُّ يُنضجُه ، وبرد اللَّيل يطيِّبُه ) .
ثمَّ عاد ( عليه السلام ) فقال : ( أنَا ابنُ الشفيع المُطاع ، أنا ابن من قَاتَل معه الملائكة ، أنا ابن مَنْ خَضَعت له قريش ، أنا ابن إمام الخَلقِ ، وابن مُحمَّد رسول الله ) .
فخشي معاوية أن يفتتن به الناس ، فقال : يا أبا محمَّد انزل ، فقد كفى ما جرى .
فنزل فقال له معاوية : ظننتَ أن ستكون خليفة ، وما أنت وذاك ؟!
فقال الحسن ( عليه السلام ) : ( إنَّما الخليفة من سار بكتاب الله ، وسُنَّة رسول الله ، ليس الخليفة من سار بالجور ، وعطَّل السُنَّة ، واتَّخذ الدُّنيا أباً وأُمّاً ، ملك ملكاً مُتِّع به قليلاً ، ثمَّ تنقطع لذَّته ، وتبقى تَبِعَتُه ) .
وحضر المحفل رجل من بني أُمية ، وكان شاباً ، فأغلظ للحسن ( عليه السلام ) كلامه ، وتجاوز الحدَّ في السبِّ والشتم له ولأبيه ( عليهما السلام ) .
فقال الحسن ( عليه السلام ) : ( اللَّهمَّ غَيِّر ما به من النِّعمة ، واجعله أُنثى ليُعتبر به ) .
فنظر الأمويُّ في نفسه وقد صار امرأة ، قد بدَّل الله له فرجه بفرج النساء ، وسقطت لحيته .
فقال الحسن ( عليه السلام ) : ( أُعْزُبي ، مالكِ ومحفل الرِّجال ؟!! ، فإنّكِ امرأة ) .
ثمَّ إنَّ الحسن ( عليه السلام ) سكت ساعة ، ثمَّ نفض ثوبه ونهض ليخرج ، فقال ابن العاص : اجلس فانّي أسألك مسائل .
فقال ( عليه السلام ) : ( سَلْ عَمَّا بدا لك ) .
قال عمرو : أخبرني عن الكَرَم والنجدة والمُروءة .
فقال ( عليه السلام ) : ( أمَّا الكرم فالتبرُّع بالمعروف والإعطاء قبل السؤال .
وأما النجدة فالذَّبُّ عن المحارم ، والصَّبر في المواطن عند المكاره .
وأما المروءة فَحِفْظ الرجل دينه ، وإحرازه نفسه من الدَّنَس ، وقيامه بأداء الحقوق ، وإفشاء السَّلام ) .
فخرج الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، فعذل معاوية عمرو ، فقال : أفسدت أهل الشام .
فقال عمرو : إليك عنِّي ، إن أهل الشام لم يُحبُّوك مَحبَّة إيمان ودين ، إنَّما أحبوك للدنيا ينالونها منك ، والسيف والمال بيدك ، فما يغني عن الحسن كلامه .
ثم شاع أمر الشاب الأموي ، وأتت زوجته إلى الإمام الحسن ( عليه السلام ) فجعلت تبكي وتتضرع ، فَرَقَّ ( عليه السلام ) لها ودعا ، فجعله الله كما كان .
الموقف الثاني :
بُعَيْدَ المصالحة التي تمَّت بين الإمام ( عليه السلام ) ومعاوية ، صَعَد معاوية المنبر ، وجمع الناس ، فخطبهم وقال : إن الحسن بن علي رآني للخلافة أهلاً ، ولم يَر نفسه لها أهلاً .
وكان الإمام الحسن ( عليه السلام ) أسفل منه بمرقاة [ يعني : بينهما درجة ، ويقصد بذلك كان قريباً منه ] .
فلمَّا فرغ من كلامه قام الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، فحمد الله تعالى بما هو أهله ، ثمَّ ذكر المباهلة ، فقال : ( فَجَاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الأنفس بأبي ، ومن الأبناء بي وبأخي ، ومن النساء بأمِّي ، وكُنَّا أهله ، ونحن آله ، وهو مِنَّا ونحن منه .
ولمَّا نزلت آية التطهير جمعنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في كِسَاء لأُمِّ سَلَمة خيبري ، ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) :
اللَّهُمَّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي ، فَأذهِبْ عنهم الرِّجسَ وطَهِّرهم تطهيراً .
فلم يكن أحد في الكساء غيري ، وأخي ، وأبي ، وأُمِّي ، ولم يكن أحد تصيبه جنابة في المسجد ويولد فيه إلاَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأبي ، تَكرُمَةً من الله لنا ، وتفضيلاً منه لنا ، وقد رأيتم مكان منزلتنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وأمَرَ بسدِّ الأبواب فسدَّها وترك بابنا ، فقيل له في ذلك فقال : أَمَا إنّي لم أسدَّها وأفتح بابه ، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ أمرني أن أسدَّها وأفتح بابه .
وإنَّ معاوية زعم لكم أنِّي رأيته للخلافة أهلاً ، ولم أرَ نفسي لها أهلاً ، فكذب معاوية .
نحن أولى بالناس في كتاب الله عزَّ وجلَّ ، وعلى لسان نبيه ( صلى الله عليه وآله ) .
وَلَمْ نَزَلْ أهل البيت مظلومين ، منذ قبض الله نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ، فالله بيننا وبين من ظَلَمنا حقّنا ، وتوثّب على رقابنا ، وحمل الناس علينا ، ومنعنا سهمنا من الفيء ، ومنع أُمَّنا ما جعل لها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وأُقسم بالله لو أنَّ الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأعطَتْهم السماء قطرها ، والأرض بركتها ، وما طمِعتَ فيها يا معاوية .
فلمّا خرجتْ من معدنها تنازعتها قريش بينها ، فطمعتْ فيها الطُّلَقاء ، وأبناء الطُّلَقاء ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
ما ولَّت أُمَّة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه ، إلاَّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا .
فقد تركَتْ بنو إسرائيل هارون وهم يعلمون أنَّه خليفة موسى فيهم ، واتَّبعوا السامريَّ .
وقد تركت هذه الأُمَّة أبي وبايعوا غيره ، وقد سمعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : أنتَ مِنِّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ النبوَّة ، وقد رأَوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نَصَّبَ أبي يوم غدير خم ، وأمرهم أن يبلِّغ الشاهد منهم الغائب .
وقد هرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من قومه ، وهو يدعوهم إلى الله تعالى حتَّى دخل الغار ، ولو وجد أعواناً ما هرب ، وقد كفَّ أبي يده حين ناشدهم ، واستغاث فلم يُغَثْ ، فجعل الله هارون في سِعَة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه .
وجعل الله النبيَّ ( صلى الله عليه وآله ) في سِعَة حين دخل الغار ، ولم يجد أعواناً ، وكذلك أبي وأنا في سعة من الله حين خَذَلَتْنا هذه الأمة ، وبايعوك يا معاوية ، وإنما هي السنن والأمثال يَتَّبِع بعضها بعضاً .
أيها الناس : إنكم لو التَمَسْتُم فيما بين المشرق والمغرب ، أن تجدوا رجلاً ولده نبيٌّ غيري وأخي لم تجدوا ، وإنِّي قد بايعتُ هذا وإن أدري لعلَّه فتنةٌ لكم ومتاع إلى حين ) .
الموقف الثالث :
وفي مَرَّة صعد معاوية المنبر ، ونال من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فتحدَّاه الإمام الحسن ( عليه السلام ) بما فضحه أمام الملأ .
تقول الرواية : بعد أن تَمَّت المصالحة ، سار معاوية حتَّى دخل الكوفة ، فأقام بها أيَّاماً .
فلمَّا اسْتَتَمَّت البيعة له من أهلها صعد المنبر ، فخطب الناس وذكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ونال منه ، ونال من الحسن ( عليه السلام ) ما نال ، وكان الحسن و الحسين ( عليهما السلام ) حاضرَين .
فقام الحسين ( عليه السلام ) ليردَّ عليه ، فأخذ بيده الحسن ( عليه السلام ) فأجلسه ، ثمَّ قام فقال : ( أيَّها الذاكر عليّاً ، أنا الحسن وأبي عليٌّ ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأُمي فاطمة وأُمّك هند ، وجدِّي رسول الله وجدُّك حرب ، وجدَّتي خديجة وجدَّتك قتيلة .
فلعن الله أخمَلُنَا ذكراً ، وألأَمنا حَسَباً ، وَشَرّنا قَدماً ، وأقدَمَنا كفراً ونفاقاً ) .
فقالت طَوائِف من أهل المسجد : آمين ، آمين .
المصدر: وكالة أنباء الحوزة