نشأ حبيب في بيت توارث البطولة والشجاعة والكرم والوفاء وغيرها من صفات الفضيلة فكانت هذه الصفات هي التي جعلته محل اعتماد إمامه الحسين (عليه السلام) وثقته.
قام الإمام الحسين (عليه السلام) بثورته العظيمة مع فئة قليلة من أصحابه، فئة وقفت معه حتى آخر رمق وذبت عنه بكل بسالة وشجاعة حتى سقط الواحد منهم تلو الآخر مضرجين بدم الشهادة ...
لقد مثل هؤلاء الابطال في وقفتهم تلك ذروة الكمال الإنساني وجسدوا أعلى القيم الإنسانية، فقد آمنوا بالحسين وانظموا تحت لوائه واقتفوا أثر مبادئه السامية فلم يقاتلوا من أجل سلطان أو حكم أو غنائم بل خرجوا مع الحسين وهدفهم هو هدفه ألا وهو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد تصدوا لجيش البغي الجرار رغم قلة عددهم متدرِّعين بأيمانهم الخالص بالله وحبهم وولائهم لأهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله) وبقي هؤلاء الأصحاب الأوفياء رمزاً للعطاء وعنواناً للفداء في كل زمان ومكان، وتدلنا كلمة الإمام الحسين (عليه السلام) بحقهم على مدى أيمانهم ورسوخ عقيدتهم وولائهم حينما قال (ع): (أني ما رأيت أصحاباً خير وأفضل من أصحابي).
ويأتي في طليعة هؤلاء الأصحاب المخلصين الصحابي الشهيد حبيب بن مظاهر الأسدي (رضوان الله عليه) حامل راية الأنصار وقائدهم وقدوتهم ...
لقد كان لهذا البطل مواقف مشرفة كثيرة، جسدت رسوخ أيمانه بالله وعميق حبه لأهل البيت (عليهم السلام) وتفانيه في التضحية في سبيل أعلاء كلمة الله حتى ختم هذه المواقف المشرفة بأشرفها وهي الشهادة في سبيل الله بين يدي سيده الإمام الحسين.
نشأ حبيب في بيت توارث البطولة والشجاعة والكرم والوفاء وغيرها من صفات الفضيلة فكانت هذه الصفات هي التي جعلته محل اعتماد إمامه الحسين (عليه السلام) وثقته، فقد زخر هذا البيت بالأسماء اللامعة التي حملت من الصفات ما ندر حملها في الرجال.
نسبه
هو حبيب بن مظاهر بن رئاب بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. وهذا النسب الرفيع كان محل فخر واعتزاز حيث برز منه الأبطال والأشراف، فكان منه فقعس الذي كان يعد من الأبطال المعدودين، ومعبد بن نضلة بن الأشتر الفقعسي الذي كان من أشراف الجاهلية وأبطالها ويذكر له التاريخ منافرة مع خالد الصيداوي أيام النعمان بن المنذر دلت على علو الهمة والوفاء والكرم وعزة النفس لبني فقعس قبيلة حبيب وفي ذلك اليوم قال شاعرهم مفتخراً:
وإنا لنقري الضيفَ في ليلةِ الشتا عظيمَ الجفانِ فوقهنَّ الحوائرُ
كما كان لحبيب وأهل بيته الشرف الأكبر في صحبتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) وولائهم لأهل بيته (عليهم السلام) فقد ذكر أبن حجر العسقلاني:(أن حبيباً أدرك النبي وعُمِّر وقتل مع الحسين (عليه السلام) مع أبن عمه ربيعة بن خوط بن رئاب وربيعة هذا شاعر مخضرم حضر يوم "ذي قار" ثم نزل الكوفة) (1)
حبيب وأخواه
وذكر أبو محنف: أنه كان لحبيب أخوان استشهدا مع الحسين (عليه السلام) إضافة إلى حبيب هما يزيد وعلي إبنا مظاهر(2)، وقد عزز العلامة الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر هذا الرأي فقال: (وبناءً على ما نختاره من رواية الطبري عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في عدد الشهداء مع الحسين (عليه السلام) أنهم مئة وخمسة وأربعين رجلاً وعلى هذه الرواية المعتبرة فأن ما قيل قريب لأن المعروفة أسماؤهم لا يبلغون هذا العدد). (3)
وهناك رواية أخرى تدل على ذلك، فقد ذكر الشيخ محمد مهدي الحائري: (أن الحسين (عليه السلام) قال لأصحابه: (ألا ومن كان في رحله أمرأة فلينصرف بها إلى أهلها) ..
فقام علي بن مظاهر الاسدي وقال: ولماذا يا سيدي ؟
فقال (عليه السلام): أن نسائي ستسبى بعد قتلي وأخاف على نسائكم من السبي.
فمضى علي إلى خيمته وأخبر زوجته بذلك فقالت له: وما تريد أن تصنع ؟ قال: قومي حتى ألحقك بأهلك فقالت له: لا والله أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء فرجع علي وهو يقول للحسين (ع): أبت الاسدية إلا مواساتكم فجزاهم الحسين (ع) خيراً. (4)
علم المنايا والبلايا
لقد غمر حب الحسين جميع أهل هذا البيت الأسدي الطاهر وعلى رأسهم حبيب، وقد أمتاز حبيب بمزايا قل نظيرها عند غيره من الرجال، فالوفاء والبصيرة واليقين والحلم والكرم والعلم والشرف وكرم الأصل والنفس والعفة والشجاعة والزهد وغيرها من الصفات العظيمة، التي أمتاز بها حبيب هي التي جعلته محل ثقة مولاه أمير المؤمنين (عليه السلام) فخصّه بعلم خاص لم يخصّه سوى الصفوة المختارة من أصحابه وهو علم المغيبات.
فقد روى الكشي: (عن فضيل بن الزبير ــ وهو من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) قال: مرَّ ميثم التمار على فرس له فأستقبله حبيب بن مظاهر الأسدي عند مجلس بني أسد فتحادثا حتى اختلفت عنقا فرسيهما ثم قال حبيب: لكأني بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق قد صلب في حب أهل البيت نبيه فتبقر بطنه على الخشبة فقال ميثم: وأني لأعرف رجلاً أحمر له ضفيرتان يخرج لنصرة أبن بنت نبيه فيقتل ويُجال برأسه في الكوفة ثم افترقا فقال أهل المجلس: ما رأينا أكذب من هذين قال - أي فضيل بن الزبير - فلم يقترف المجلس حتى أقبل رشيد الهجري فطلبهما فقالوا: افترقا وسمعناهما يقولان كذا وكذا فقال رشيد: رحم الله ميثماً نسي ويزداد في عطاء الذي يجيء بالرأس مئة درهم، ثم أدبر فقال القوم: هذا والله أكذبهم قال: فما ذهبت الأيام والليالي حتى رأينا ميثماً مصلوباً على باب دار عمرو بن حريث وجيء برأس حبيب وقد قتل مع الحسين (عليه السلام) ورأينا كما قالوا ...) (5)
ويبدو أن الكثير من الناس يشاركون القوم استغرابهم من هذا الحديث في الوقت الحاضر ولكن هذا ليس بغريب على من لازموا أمير المؤمنين (عليه السلام) في حله وترحاله وأخذوا منه وتخرّجوا من مدرسته وهو القائل: علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي من كل باب ألف باب وقال في حقه رسول الله: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها.
وقد أجمع أهل السير أن حبيباً صحب علياً (عليه السلام) في حروبه كلها الجمل وصفين والنهروان وكان من خاصته وحملة علومه وهذا العلم ــ المغيبات ــ لا يطلعه أمير المؤمنين (عليه السلام) ألا على خاصته أمثال حبيب ورشيد وميثم فهو لا يحمله إلا قلب مفعم بالأيمان.
كتاب الوفاء
كان من الكتب التي وصلت إلى الإمام الحسين (عليه السلام) في القدوم لمبايعته ونصرته، كتاب حبيب مع باقي أمثاله من الشيعة المخلصين وقد اجتمعوا في دار كبير الشيعة الشهيد سليملان بن صرد الخزاعي وكان نص الكتاب:
(من سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.. أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأُمة، فابتزها أمرها، واغتصبها فيأها، وتآمر عليها بغير رضاً منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعُدت ثمود. إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام، إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته).
كان هذا الكتاب نابعاً عن الولاء الخالص والعقيدة الصافية التي يحملها هؤلاء تجاه القضية الحسينية وأهل البيت (ع)، وليس ككتب النفاق التي كتبت بمداد الغدر التي أرسلها النفعيون والوصوليون فيما بعد، وكان الحسين (ع) يعرف من حبيب وأصحابه هذا الوفاء والولاء الخالص.
راية حبيب
ورد أن الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيره إلى الكوفة خيَّم في وادٍ وعقد أثني عشر راية ثم أمر جمعاً من أصحابه أن يحمل كل واحد منهم راية وبقيت واحدة فقال له بعضهم: يا سيدي تفضّل عليَّ بحملها فجزاه خيراً وقال له: سيأتي إليها صاحبها. فلما جاء حبيب أعطاه إياها.
ولا يخفى ما لهذا العمل من دلالة واضحة على فضل حبيب ومكانته عند الحسين (عليه السلام) وذكر أهل السير أنه لما ورد مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة ونزل دار المختار وأخذت الشيعة تختلف إليه قام فيهم جماعة من الخطباء تقدمهم عابس الشاكري فخطب خطبة أعلن فيها ولاءه ومبايعته للأمام الحسين (عليه السلام) والذب عنه بروحه وثناه حبيب فقام وقال لعابس بعد فراغه من خطبته رحمك الله لقد قضيت ما في نفسك بواجز من القول وانا والله الذي لا إله الا هو لعلى مثل ما أنت عليه فكان حبيب مع ابن عمه مسلم بن عوسجة يأخذان البيعة للأمام الحسين (ع) في الكوفة.
إلى كربلاء
روى السيد ابن طاووس: أن عبيد الله بن زياد لما دخل الكوفة وخذل أهلها عن مسلم وفرّ أنصاره حبس حبيب ومسلم بن عوسجة ولم يطلقهما ألا بعد مقتل مسلم بن عقيل فلمّا ورد الحسين كربلاء خرجا إليه متخفيين يسيران الليل ويكمنان النهار حتى وصلا إليه وكان وصولهما قبل معركة الطف بأيام (6)...
وكان وجود حبيب في معسكر الحسين يضفي هيبة، ويزرع رهبة في قلوب الأعداء، وكانت لحبيب محاولة لتعزيز معسكر الحسين (عليه السلام) بأكثر عدد من الأنصار فكان قد أستأذن الإمام الحسين (عليه السلام)، قبل المعركة في أن يأتي قومه من بني أسد الذين كانوا قريبين من موقع المعركة فيدعوهم إلى نصرة الحسين.
استنفار بني أسد
فقد روى الخوارزمي (7) المجلسي (8): (إن حبيباً لما وصل إلى الحسين ورأى قلة أنصاره وكثرة محاربيه قال للحسين (عليه السلام): إن ها هنا حياً من بني أسد فلو أذنت لي لسرت إليهم ودعوتهم إلى نصرتك لعل الله أن يهديهم ويدفع بهم عنك. فأذن له الحسين فسار إليهم حتى وافاهم. فجلس في ناديهم ووعظهم وقال في كلامه:
يا بني أسد قد جئتكم بخير ما أتى به رائد قومه، هذا الحسين بن علي أمير المؤمنين وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين وقد أطافت به أعداؤه ليقتلوه فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول الله فيه فو الله لئن نصرتموه ليعطينكم الله شرف الدنيا والآخرة وقد خصصتكم بهذه المكرمة لأنكم قومي وبنو أبي وأقرب الناس مني رحماً فقام عبد الله بن بشير الأسدي وقال:
شكر الله سعيك يا أبا القاسم فو الله لجئتنا بمعركة يستأثر بها المرء الأحب فالأحب، أما أنا فأول من أجاب.
وأجاب جماعة بنحو جوابه فأستجاب لدعوة حبيب تسعون مقاتلاً جاءوا معه يريدون الانضمام إلى معسكر الحسين، ولكن عمر بن سعد علم بذلك فوجه إليهم قوة من أربعمائة فارس بقيادة الأزرق بن الحرث، وكان بين بني أسد وبين معسكر الحسين اليسير فتناوش الفريقان واقتتلوا فصاح حبيب بالأزرق: مالك ولنا انصرف عنا فأبى الأزرق وعلمت بنو أسد ألا طاقة لهم بخيل ابن سعد فانهزموا راجعين إلى حيِّهم ثم غادروا منازلهم في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يباغتهم ورجع حبيب إلى الحسين فأخبره بما كان فقال (ع): وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كانت هذه المحاولة من حبيب حرصاً على حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ووقاية له بأهله وقومه وبني عمه، ولم تكن هذه المحاولة الوحيدة فقد كان يعظ كل من يعرفه ومن لا يعرفه ويحاول أن يستميله إلى طريق الحق والانضمام إلى معسكر الحسين.
فقد ذكر الطبري: أن عمر بن سعد لما أرسل إلى الحسين كثير بن عبد الله الشعبي وعرفه أبو تمامة الصائدي فأعاده أرسل بعده قرة بن قيس الحنظلي فلما رآه الحسين (ع) مقبلاً قال: أتعرفون هذا؟ فقال حبيب: نعم هذا رجل تميمي من حنظلة وهو ابن أختنا فلما جاء وسلم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد قال له حبيب:
ويحك يا قرة أين ترجع ؟
إلى القوم الظالمين ؟
أنصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة وإيانا معك ؟ (9)
وكان لحبيب كلام بين الصفين يعظ به جيش ابن سعد الذين طبع الله على قلوبهم وأنساهم ذكره لكن ذلك لم يمنع حبيب من تنبيههم وتذكيرهم بالضلال الذي هم عليه فمما قاله حبيب يومئذ:
معاشر القوم إنه والله لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون على الله وقد قتلوا ذرية نبيه وعترته وأهل بيته وعباد أهل هذا المصير المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً...
الشهادة
كان حبيب على ميسرة الحسين فكان خفيف الإجابة لدعوة قتال البغي والضلال فحينما أذن له الحسين (عليه الحسين) بالبراز أخذ يقاتل القوم قتالاً شديداً وهو يقول:
أنا حـبـيبٌ وأبـي مـظـهـرُ فارسُ هيجاءٍ وحربٍ تسعرُ
أنـتـمْ أعـــدّ عــدةً وأكـثـرُ ونـحـنُ أوفـى مـنكمُ وأصبرُ
ونحنُ أعلى حجةً وأظهرُ حـقـاً وأتـقـى مـنـكـمُ وأطهرُ
فقتل على كبر سنه أثنين وستين رجلاً وهو يواصل حملاته ويرتجز بقوله:
أقسمتُ لو كنَّا لكم أعدادا أو شطركمْ وليتمُ الأكتادا
يـا شـرَّ قـومٍ حـسـباً وآدا وشـرَّهـمْ قـد علموا أنداداً
وبينما هو يقاتل إذ حمل عليه رجل من بني تميم يقال له بديل بن صريم فضربه بسيفه وحمل عليه آخر من تميم أيضاً فطعنه برمحه فوقع فأراد أن يقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فسقط فنزل إليه التميمي واحتز رأسه.
قال أهل المقاتل والسير انه لما قتل حبيب بن مظاهر الاسدي هد مقتله الحسين واسترجع كثيراً وقال: عند الله احتسب نفسي وحماة أصحابي
رافق حبيب أصحابه الشهداء الذين تبوأوا أسمى مراتب الأبرار والصديقين.
محمد طاهر الصفار
............................................................
1 ــ الإصابة / القسم الثالث ممن له أدراك ج 1 ص 373
2 ــ مقتل أبي مخنف ص 112
3 ــ البطل الاسدي ص 82
4 ــ معالي السبطين في أحوال الحسن والحسين (عليهما السلام) ج 1 ص 311
5 ــ منتهى المقال في أحوال الرجال ج 2 ص 328
6 ــ اللهوف في قتلى الطفوف ص 108
7 ــ مقتل الخوارزمي ج 1 ص 243
8 ــ بحار الأنوار ج 44 ص 386
9 ــ تاريخ الطبري ج 3 ص 311
قام الإمام الحسين (عليه السلام) بثورته العظيمة مع فئة قليلة من أصحابه، فئة وقفت معه حتى آخر رمق وذبت عنه بكل بسالة وشجاعة حتى سقط الواحد منهم تلو الآخر مضرجين بدم الشهادة ...
لقد مثل هؤلاء الابطال في وقفتهم تلك ذروة الكمال الإنساني وجسدوا أعلى القيم الإنسانية، فقد آمنوا بالحسين وانظموا تحت لوائه واقتفوا أثر مبادئه السامية فلم يقاتلوا من أجل سلطان أو حكم أو غنائم بل خرجوا مع الحسين وهدفهم هو هدفه ألا وهو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد تصدوا لجيش البغي الجرار رغم قلة عددهم متدرِّعين بأيمانهم الخالص بالله وحبهم وولائهم لأهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله) وبقي هؤلاء الأصحاب الأوفياء رمزاً للعطاء وعنواناً للفداء في كل زمان ومكان، وتدلنا كلمة الإمام الحسين (عليه السلام) بحقهم على مدى أيمانهم ورسوخ عقيدتهم وولائهم حينما قال (ع): (أني ما رأيت أصحاباً خير وأفضل من أصحابي).
ويأتي في طليعة هؤلاء الأصحاب المخلصين الصحابي الشهيد حبيب بن مظاهر الأسدي (رضوان الله عليه) حامل راية الأنصار وقائدهم وقدوتهم ...
لقد كان لهذا البطل مواقف مشرفة كثيرة، جسدت رسوخ أيمانه بالله وعميق حبه لأهل البيت (عليهم السلام) وتفانيه في التضحية في سبيل أعلاء كلمة الله حتى ختم هذه المواقف المشرفة بأشرفها وهي الشهادة في سبيل الله بين يدي سيده الإمام الحسين.
نشأ حبيب في بيت توارث البطولة والشجاعة والكرم والوفاء وغيرها من صفات الفضيلة فكانت هذه الصفات هي التي جعلته محل اعتماد إمامه الحسين (عليه السلام) وثقته، فقد زخر هذا البيت بالأسماء اللامعة التي حملت من الصفات ما ندر حملها في الرجال.
نسبه
هو حبيب بن مظاهر بن رئاب بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. وهذا النسب الرفيع كان محل فخر واعتزاز حيث برز منه الأبطال والأشراف، فكان منه فقعس الذي كان يعد من الأبطال المعدودين، ومعبد بن نضلة بن الأشتر الفقعسي الذي كان من أشراف الجاهلية وأبطالها ويذكر له التاريخ منافرة مع خالد الصيداوي أيام النعمان بن المنذر دلت على علو الهمة والوفاء والكرم وعزة النفس لبني فقعس قبيلة حبيب وفي ذلك اليوم قال شاعرهم مفتخراً:
وإنا لنقري الضيفَ في ليلةِ الشتا عظيمَ الجفانِ فوقهنَّ الحوائرُ
كما كان لحبيب وأهل بيته الشرف الأكبر في صحبتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) وولائهم لأهل بيته (عليهم السلام) فقد ذكر أبن حجر العسقلاني:(أن حبيباً أدرك النبي وعُمِّر وقتل مع الحسين (عليه السلام) مع أبن عمه ربيعة بن خوط بن رئاب وربيعة هذا شاعر مخضرم حضر يوم "ذي قار" ثم نزل الكوفة) (1)
حبيب وأخواه
وذكر أبو محنف: أنه كان لحبيب أخوان استشهدا مع الحسين (عليه السلام) إضافة إلى حبيب هما يزيد وعلي إبنا مظاهر(2)، وقد عزز العلامة الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر هذا الرأي فقال: (وبناءً على ما نختاره من رواية الطبري عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في عدد الشهداء مع الحسين (عليه السلام) أنهم مئة وخمسة وأربعين رجلاً وعلى هذه الرواية المعتبرة فأن ما قيل قريب لأن المعروفة أسماؤهم لا يبلغون هذا العدد). (3)
وهناك رواية أخرى تدل على ذلك، فقد ذكر الشيخ محمد مهدي الحائري: (أن الحسين (عليه السلام) قال لأصحابه: (ألا ومن كان في رحله أمرأة فلينصرف بها إلى أهلها) ..
فقام علي بن مظاهر الاسدي وقال: ولماذا يا سيدي ؟
فقال (عليه السلام): أن نسائي ستسبى بعد قتلي وأخاف على نسائكم من السبي.
فمضى علي إلى خيمته وأخبر زوجته بذلك فقالت له: وما تريد أن تصنع ؟ قال: قومي حتى ألحقك بأهلك فقالت له: لا والله أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء فرجع علي وهو يقول للحسين (ع): أبت الاسدية إلا مواساتكم فجزاهم الحسين (ع) خيراً. (4)
علم المنايا والبلايا
لقد غمر حب الحسين جميع أهل هذا البيت الأسدي الطاهر وعلى رأسهم حبيب، وقد أمتاز حبيب بمزايا قل نظيرها عند غيره من الرجال، فالوفاء والبصيرة واليقين والحلم والكرم والعلم والشرف وكرم الأصل والنفس والعفة والشجاعة والزهد وغيرها من الصفات العظيمة، التي أمتاز بها حبيب هي التي جعلته محل ثقة مولاه أمير المؤمنين (عليه السلام) فخصّه بعلم خاص لم يخصّه سوى الصفوة المختارة من أصحابه وهو علم المغيبات.
فقد روى الكشي: (عن فضيل بن الزبير ــ وهو من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) قال: مرَّ ميثم التمار على فرس له فأستقبله حبيب بن مظاهر الأسدي عند مجلس بني أسد فتحادثا حتى اختلفت عنقا فرسيهما ثم قال حبيب: لكأني بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق قد صلب في حب أهل البيت نبيه فتبقر بطنه على الخشبة فقال ميثم: وأني لأعرف رجلاً أحمر له ضفيرتان يخرج لنصرة أبن بنت نبيه فيقتل ويُجال برأسه في الكوفة ثم افترقا فقال أهل المجلس: ما رأينا أكذب من هذين قال - أي فضيل بن الزبير - فلم يقترف المجلس حتى أقبل رشيد الهجري فطلبهما فقالوا: افترقا وسمعناهما يقولان كذا وكذا فقال رشيد: رحم الله ميثماً نسي ويزداد في عطاء الذي يجيء بالرأس مئة درهم، ثم أدبر فقال القوم: هذا والله أكذبهم قال: فما ذهبت الأيام والليالي حتى رأينا ميثماً مصلوباً على باب دار عمرو بن حريث وجيء برأس حبيب وقد قتل مع الحسين (عليه السلام) ورأينا كما قالوا ...) (5)
ويبدو أن الكثير من الناس يشاركون القوم استغرابهم من هذا الحديث في الوقت الحاضر ولكن هذا ليس بغريب على من لازموا أمير المؤمنين (عليه السلام) في حله وترحاله وأخذوا منه وتخرّجوا من مدرسته وهو القائل: علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي من كل باب ألف باب وقال في حقه رسول الله: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها.
وقد أجمع أهل السير أن حبيباً صحب علياً (عليه السلام) في حروبه كلها الجمل وصفين والنهروان وكان من خاصته وحملة علومه وهذا العلم ــ المغيبات ــ لا يطلعه أمير المؤمنين (عليه السلام) ألا على خاصته أمثال حبيب ورشيد وميثم فهو لا يحمله إلا قلب مفعم بالأيمان.
كتاب الوفاء
كان من الكتب التي وصلت إلى الإمام الحسين (عليه السلام) في القدوم لمبايعته ونصرته، كتاب حبيب مع باقي أمثاله من الشيعة المخلصين وقد اجتمعوا في دار كبير الشيعة الشهيد سليملان بن صرد الخزاعي وكان نص الكتاب:
(من سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.. أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأُمة، فابتزها أمرها، واغتصبها فيأها، وتآمر عليها بغير رضاً منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعُدت ثمود. إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام، إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته).
كان هذا الكتاب نابعاً عن الولاء الخالص والعقيدة الصافية التي يحملها هؤلاء تجاه القضية الحسينية وأهل البيت (ع)، وليس ككتب النفاق التي كتبت بمداد الغدر التي أرسلها النفعيون والوصوليون فيما بعد، وكان الحسين (ع) يعرف من حبيب وأصحابه هذا الوفاء والولاء الخالص.
راية حبيب
ورد أن الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيره إلى الكوفة خيَّم في وادٍ وعقد أثني عشر راية ثم أمر جمعاً من أصحابه أن يحمل كل واحد منهم راية وبقيت واحدة فقال له بعضهم: يا سيدي تفضّل عليَّ بحملها فجزاه خيراً وقال له: سيأتي إليها صاحبها. فلما جاء حبيب أعطاه إياها.
ولا يخفى ما لهذا العمل من دلالة واضحة على فضل حبيب ومكانته عند الحسين (عليه السلام) وذكر أهل السير أنه لما ورد مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة ونزل دار المختار وأخذت الشيعة تختلف إليه قام فيهم جماعة من الخطباء تقدمهم عابس الشاكري فخطب خطبة أعلن فيها ولاءه ومبايعته للأمام الحسين (عليه السلام) والذب عنه بروحه وثناه حبيب فقام وقال لعابس بعد فراغه من خطبته رحمك الله لقد قضيت ما في نفسك بواجز من القول وانا والله الذي لا إله الا هو لعلى مثل ما أنت عليه فكان حبيب مع ابن عمه مسلم بن عوسجة يأخذان البيعة للأمام الحسين (ع) في الكوفة.
إلى كربلاء
روى السيد ابن طاووس: أن عبيد الله بن زياد لما دخل الكوفة وخذل أهلها عن مسلم وفرّ أنصاره حبس حبيب ومسلم بن عوسجة ولم يطلقهما ألا بعد مقتل مسلم بن عقيل فلمّا ورد الحسين كربلاء خرجا إليه متخفيين يسيران الليل ويكمنان النهار حتى وصلا إليه وكان وصولهما قبل معركة الطف بأيام (6)...
وكان وجود حبيب في معسكر الحسين يضفي هيبة، ويزرع رهبة في قلوب الأعداء، وكانت لحبيب محاولة لتعزيز معسكر الحسين (عليه السلام) بأكثر عدد من الأنصار فكان قد أستأذن الإمام الحسين (عليه السلام)، قبل المعركة في أن يأتي قومه من بني أسد الذين كانوا قريبين من موقع المعركة فيدعوهم إلى نصرة الحسين.
استنفار بني أسد
فقد روى الخوارزمي (7) المجلسي (8): (إن حبيباً لما وصل إلى الحسين ورأى قلة أنصاره وكثرة محاربيه قال للحسين (عليه السلام): إن ها هنا حياً من بني أسد فلو أذنت لي لسرت إليهم ودعوتهم إلى نصرتك لعل الله أن يهديهم ويدفع بهم عنك. فأذن له الحسين فسار إليهم حتى وافاهم. فجلس في ناديهم ووعظهم وقال في كلامه:
يا بني أسد قد جئتكم بخير ما أتى به رائد قومه، هذا الحسين بن علي أمير المؤمنين وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين وقد أطافت به أعداؤه ليقتلوه فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول الله فيه فو الله لئن نصرتموه ليعطينكم الله شرف الدنيا والآخرة وقد خصصتكم بهذه المكرمة لأنكم قومي وبنو أبي وأقرب الناس مني رحماً فقام عبد الله بن بشير الأسدي وقال:
شكر الله سعيك يا أبا القاسم فو الله لجئتنا بمعركة يستأثر بها المرء الأحب فالأحب، أما أنا فأول من أجاب.
وأجاب جماعة بنحو جوابه فأستجاب لدعوة حبيب تسعون مقاتلاً جاءوا معه يريدون الانضمام إلى معسكر الحسين، ولكن عمر بن سعد علم بذلك فوجه إليهم قوة من أربعمائة فارس بقيادة الأزرق بن الحرث، وكان بين بني أسد وبين معسكر الحسين اليسير فتناوش الفريقان واقتتلوا فصاح حبيب بالأزرق: مالك ولنا انصرف عنا فأبى الأزرق وعلمت بنو أسد ألا طاقة لهم بخيل ابن سعد فانهزموا راجعين إلى حيِّهم ثم غادروا منازلهم في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يباغتهم ورجع حبيب إلى الحسين فأخبره بما كان فقال (ع): وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كانت هذه المحاولة من حبيب حرصاً على حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ووقاية له بأهله وقومه وبني عمه، ولم تكن هذه المحاولة الوحيدة فقد كان يعظ كل من يعرفه ومن لا يعرفه ويحاول أن يستميله إلى طريق الحق والانضمام إلى معسكر الحسين.
فقد ذكر الطبري: أن عمر بن سعد لما أرسل إلى الحسين كثير بن عبد الله الشعبي وعرفه أبو تمامة الصائدي فأعاده أرسل بعده قرة بن قيس الحنظلي فلما رآه الحسين (ع) مقبلاً قال: أتعرفون هذا؟ فقال حبيب: نعم هذا رجل تميمي من حنظلة وهو ابن أختنا فلما جاء وسلم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد قال له حبيب:
ويحك يا قرة أين ترجع ؟
إلى القوم الظالمين ؟
أنصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة وإيانا معك ؟ (9)
وكان لحبيب كلام بين الصفين يعظ به جيش ابن سعد الذين طبع الله على قلوبهم وأنساهم ذكره لكن ذلك لم يمنع حبيب من تنبيههم وتذكيرهم بالضلال الذي هم عليه فمما قاله حبيب يومئذ:
معاشر القوم إنه والله لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون على الله وقد قتلوا ذرية نبيه وعترته وأهل بيته وعباد أهل هذا المصير المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً...
الشهادة
كان حبيب على ميسرة الحسين فكان خفيف الإجابة لدعوة قتال البغي والضلال فحينما أذن له الحسين (عليه الحسين) بالبراز أخذ يقاتل القوم قتالاً شديداً وهو يقول:
أنا حـبـيبٌ وأبـي مـظـهـرُ فارسُ هيجاءٍ وحربٍ تسعرُ
أنـتـمْ أعـــدّ عــدةً وأكـثـرُ ونـحـنُ أوفـى مـنكمُ وأصبرُ
ونحنُ أعلى حجةً وأظهرُ حـقـاً وأتـقـى مـنـكـمُ وأطهرُ
فقتل على كبر سنه أثنين وستين رجلاً وهو يواصل حملاته ويرتجز بقوله:
أقسمتُ لو كنَّا لكم أعدادا أو شطركمْ وليتمُ الأكتادا
يـا شـرَّ قـومٍ حـسـباً وآدا وشـرَّهـمْ قـد علموا أنداداً
وبينما هو يقاتل إذ حمل عليه رجل من بني تميم يقال له بديل بن صريم فضربه بسيفه وحمل عليه آخر من تميم أيضاً فطعنه برمحه فوقع فأراد أن يقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فسقط فنزل إليه التميمي واحتز رأسه.
قال أهل المقاتل والسير انه لما قتل حبيب بن مظاهر الاسدي هد مقتله الحسين واسترجع كثيراً وقال: عند الله احتسب نفسي وحماة أصحابي
رافق حبيب أصحابه الشهداء الذين تبوأوا أسمى مراتب الأبرار والصديقين.
محمد طاهر الصفار
............................................................
1 ــ الإصابة / القسم الثالث ممن له أدراك ج 1 ص 373
2 ــ مقتل أبي مخنف ص 112
3 ــ البطل الاسدي ص 82
4 ــ معالي السبطين في أحوال الحسن والحسين (عليهما السلام) ج 1 ص 311
5 ــ منتهى المقال في أحوال الرجال ج 2 ص 328
6 ــ اللهوف في قتلى الطفوف ص 108
7 ــ مقتل الخوارزمي ج 1 ص 243
8 ــ بحار الأنوار ج 44 ص 386
9 ــ تاريخ الطبري ج 3 ص 311
قام الإمام الحسين (عليه السلام) بثورته العظيمة مع فئة قليلة من أصحابه، فئة وقفت معه حتى آخر رمق وذبت عنه بكل بسالة وشجاعة حتى سقط الواحد منهم تلو الآخر مضرجين بدم الشهادة ...
لقد مثل هؤلاء الابطال في وقفتهم تلك ذروة الكمال الإنساني وجسدوا أعلى القيم الإنسانية، فقد آمنوا بالحسين وانظموا تحت لوائه واقتفوا أثر مبادئه السامية فلم يقاتلوا من أجل سلطان أو حكم أو غنائم بل خرجوا مع الحسين وهدفهم هو هدفه ألا وهو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد تصدوا لجيش البغي الجرار رغم قلة عددهم متدرِّعين بأيمانهم الخالص بالله وحبهم وولائهم لأهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله) وبقي هؤلاء الأصحاب الأوفياء رمزاً للعطاء وعنواناً للفداء في كل زمان ومكان، وتدلنا كلمة الإمام الحسين (عليه السلام) بحقهم على مدى أيمانهم ورسوخ عقيدتهم وولائهم حينما قال (ع): (أني ما رأيت أصحاباً خير وأفضل من أصحابي).
ويأتي في طليعة هؤلاء الأصحاب المخلصين الصحابي الشهيد حبيب بن مظاهر الأسدي (رضوان الله عليه) حامل راية الأنصار وقائدهم وقدوتهم ...
لقد كان لهذا البطل مواقف مشرفة كثيرة، جسدت رسوخ أيمانه بالله وعميق حبه لأهل البيت (عليهم السلام) وتفانيه في التضحية في سبيل أعلاء كلمة الله حتى ختم هذه المواقف المشرفة بأشرفها وهي الشهادة في سبيل الله بين يدي سيده الإمام الحسين.
نشأ حبيب في بيت توارث البطولة والشجاعة والكرم والوفاء وغيرها من صفات الفضيلة فكانت هذه الصفات هي التي جعلته محل اعتماد إمامه الحسين (عليه السلام) وثقته، فقد زخر هذا البيت بالأسماء اللامعة التي حملت من الصفات ما ندر حملها في الرجال.
نسبه
هو حبيب بن مظاهر بن رئاب بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. وهذا النسب الرفيع كان محل فخر واعتزاز حيث برز منه الأبطال والأشراف، فكان منه فقعس الذي كان يعد من الأبطال المعدودين، ومعبد بن نضلة بن الأشتر الفقعسي الذي كان من أشراف الجاهلية وأبطالها ويذكر له التاريخ منافرة مع خالد الصيداوي أيام النعمان بن المنذر دلت على علو الهمة والوفاء والكرم وعزة النفس لبني فقعس قبيلة حبيب وفي ذلك اليوم قال شاعرهم مفتخراً:
وإنا لنقري الضيفَ في ليلةِ الشتا عظيمَ الجفانِ فوقهنَّ الحوائرُ
كما كان لحبيب وأهل بيته الشرف الأكبر في صحبتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) وولائهم لأهل بيته (عليهم السلام) فقد ذكر أبن حجر العسقلاني:(أن حبيباً أدرك النبي وعُمِّر وقتل مع الحسين (عليه السلام) مع أبن عمه ربيعة بن خوط بن رئاب وربيعة هذا شاعر مخضرم حضر يوم "ذي قار" ثم نزل الكوفة) (1)
حبيب وأخواه
وذكر أبو محنف: أنه كان لحبيب أخوان استشهدا مع الحسين (عليه السلام) إضافة إلى حبيب هما يزيد وعلي إبنا مظاهر(2)، وقد عزز العلامة الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر هذا الرأي فقال: (وبناءً على ما نختاره من رواية الطبري عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في عدد الشهداء مع الحسين (عليه السلام) أنهم مئة وخمسة وأربعين رجلاً وعلى هذه الرواية المعتبرة فأن ما قيل قريب لأن المعروفة أسماؤهم لا يبلغون هذا العدد). (3)
وهناك رواية أخرى تدل على ذلك، فقد ذكر الشيخ محمد مهدي الحائري: (أن الحسين (عليه السلام) قال لأصحابه: (ألا ومن كان في رحله أمرأة فلينصرف بها إلى أهلها) ..
فقام علي بن مظاهر الاسدي وقال: ولماذا يا سيدي ؟
فقال (عليه السلام): أن نسائي ستسبى بعد قتلي وأخاف على نسائكم من السبي.
فمضى علي إلى خيمته وأخبر زوجته بذلك فقالت له: وما تريد أن تصنع ؟ قال: قومي حتى ألحقك بأهلك فقالت له: لا والله أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء فرجع علي وهو يقول للحسين (ع): أبت الاسدية إلا مواساتكم فجزاهم الحسين (ع) خيراً. (4)
علم المنايا والبلايا
لقد غمر حب الحسين جميع أهل هذا البيت الأسدي الطاهر وعلى رأسهم حبيب، وقد أمتاز حبيب بمزايا قل نظيرها عند غيره من الرجال، فالوفاء والبصيرة واليقين والحلم والكرم والعلم والشرف وكرم الأصل والنفس والعفة والشجاعة والزهد وغيرها من الصفات العظيمة، التي أمتاز بها حبيب هي التي جعلته محل ثقة مولاه أمير المؤمنين (عليه السلام) فخصّه بعلم خاص لم يخصّه سوى الصفوة المختارة من أصحابه وهو علم المغيبات.
فقد روى الكشي: (عن فضيل بن الزبير ــ وهو من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) قال: مرَّ ميثم التمار على فرس له فأستقبله حبيب بن مظاهر الأسدي عند مجلس بني أسد فتحادثا حتى اختلفت عنقا فرسيهما ثم قال حبيب: لكأني بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق قد صلب في حب أهل البيت نبيه فتبقر بطنه على الخشبة فقال ميثم: وأني لأعرف رجلاً أحمر له ضفيرتان يخرج لنصرة أبن بنت نبيه فيقتل ويُجال برأسه في الكوفة ثم افترقا فقال أهل المجلس: ما رأينا أكذب من هذين قال - أي فضيل بن الزبير - فلم يقترف المجلس حتى أقبل رشيد الهجري فطلبهما فقالوا: افترقا وسمعناهما يقولان كذا وكذا فقال رشيد: رحم الله ميثماً نسي ويزداد في عطاء الذي يجيء بالرأس مئة درهم، ثم أدبر فقال القوم: هذا والله أكذبهم قال: فما ذهبت الأيام والليالي حتى رأينا ميثماً مصلوباً على باب دار عمرو بن حريث وجيء برأس حبيب وقد قتل مع الحسين (عليه السلام) ورأينا كما قالوا ...) (5)
ويبدو أن الكثير من الناس يشاركون القوم استغرابهم من هذا الحديث في الوقت الحاضر ولكن هذا ليس بغريب على من لازموا أمير المؤمنين (عليه السلام) في حله وترحاله وأخذوا منه وتخرّجوا من مدرسته وهو القائل: علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي من كل باب ألف باب وقال في حقه رسول الله: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها.
وقد أجمع أهل السير أن حبيباً صحب علياً (عليه السلام) في حروبه كلها الجمل وصفين والنهروان وكان من خاصته وحملة علومه وهذا العلم ــ المغيبات ــ لا يطلعه أمير المؤمنين (عليه السلام) ألا على خاصته أمثال حبيب ورشيد وميثم فهو لا يحمله إلا قلب مفعم بالأيمان.
كتاب الوفاء
كان من الكتب التي وصلت إلى الإمام الحسين (عليه السلام) في القدوم لمبايعته ونصرته، كتاب حبيب مع باقي أمثاله من الشيعة المخلصين وقد اجتمعوا في دار كبير الشيعة الشهيد سليملان بن صرد الخزاعي وكان نص الكتاب:
(من سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.. أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأُمة، فابتزها أمرها، واغتصبها فيأها، وتآمر عليها بغير رضاً منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعُدت ثمود. إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام، إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته).
كان هذا الكتاب نابعاً عن الولاء الخالص والعقيدة الصافية التي يحملها هؤلاء تجاه القضية الحسينية وأهل البيت (ع)، وليس ككتب النفاق التي كتبت بمداد الغدر التي أرسلها النفعيون والوصوليون فيما بعد، وكان الحسين (ع) يعرف من حبيب وأصحابه هذا الوفاء والولاء الخالص.
راية حبيب
ورد أن الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيره إلى الكوفة خيَّم في وادٍ وعقد أثني عشر راية ثم أمر جمعاً من أصحابه أن يحمل كل واحد منهم راية وبقيت واحدة فقال له بعضهم: يا سيدي تفضّل عليَّ بحملها فجزاه خيراً وقال له: سيأتي إليها صاحبها. فلما جاء حبيب أعطاه إياها.
ولا يخفى ما لهذا العمل من دلالة واضحة على فضل حبيب ومكانته عند الحسين (عليه السلام) وذكر أهل السير أنه لما ورد مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة ونزل دار المختار وأخذت الشيعة تختلف إليه قام فيهم جماعة من الخطباء تقدمهم عابس الشاكري فخطب خطبة أعلن فيها ولاءه ومبايعته للأمام الحسين (عليه السلام) والذب عنه بروحه وثناه حبيب فقام وقال لعابس بعد فراغه من خطبته رحمك الله لقد قضيت ما في نفسك بواجز من القول وانا والله الذي لا إله الا هو لعلى مثل ما أنت عليه فكان حبيب مع ابن عمه مسلم بن عوسجة يأخذان البيعة للأمام الحسين (ع) في الكوفة.
إلى كربلاء
روى السيد ابن طاووس: أن عبيد الله بن زياد لما دخل الكوفة وخذل أهلها عن مسلم وفرّ أنصاره حبس حبيب ومسلم بن عوسجة ولم يطلقهما ألا بعد مقتل مسلم بن عقيل فلمّا ورد الحسين كربلاء خرجا إليه متخفيين يسيران الليل ويكمنان النهار حتى وصلا إليه وكان وصولهما قبل معركة الطف بأيام (6)...
وكان وجود حبيب في معسكر الحسين يضفي هيبة، ويزرع رهبة في قلوب الأعداء، وكانت لحبيب محاولة لتعزيز معسكر الحسين (عليه السلام) بأكثر عدد من الأنصار فكان قد أستأذن الإمام الحسين (عليه السلام)، قبل المعركة في أن يأتي قومه من بني أسد الذين كانوا قريبين من موقع المعركة فيدعوهم إلى نصرة الحسين.
استنفار بني أسد
فقد روى الخوارزمي (7) المجلسي (8): (إن حبيباً لما وصل إلى الحسين ورأى قلة أنصاره وكثرة محاربيه قال للحسين (عليه السلام): إن ها هنا حياً من بني أسد فلو أذنت لي لسرت إليهم ودعوتهم إلى نصرتك لعل الله أن يهديهم ويدفع بهم عنك. فأذن له الحسين فسار إليهم حتى وافاهم. فجلس في ناديهم ووعظهم وقال في كلامه:
يا بني أسد قد جئتكم بخير ما أتى به رائد قومه، هذا الحسين بن علي أمير المؤمنين وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين وقد أطافت به أعداؤه ليقتلوه فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول الله فيه فو الله لئن نصرتموه ليعطينكم الله شرف الدنيا والآخرة وقد خصصتكم بهذه المكرمة لأنكم قومي وبنو أبي وأقرب الناس مني رحماً فقام عبد الله بن بشير الأسدي وقال:
شكر الله سعيك يا أبا القاسم فو الله لجئتنا بمعركة يستأثر بها المرء الأحب فالأحب، أما أنا فأول من أجاب.
وأجاب جماعة بنحو جوابه فأستجاب لدعوة حبيب تسعون مقاتلاً جاءوا معه يريدون الانضمام إلى معسكر الحسين، ولكن عمر بن سعد علم بذلك فوجه إليهم قوة من أربعمائة فارس بقيادة الأزرق بن الحرث، وكان بين بني أسد وبين معسكر الحسين اليسير فتناوش الفريقان واقتتلوا فصاح حبيب بالأزرق: مالك ولنا انصرف عنا فأبى الأزرق وعلمت بنو أسد ألا طاقة لهم بخيل ابن سعد فانهزموا راجعين إلى حيِّهم ثم غادروا منازلهم في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يباغتهم ورجع حبيب إلى الحسين فأخبره بما كان فقال (ع): وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كانت هذه المحاولة من حبيب حرصاً على حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ووقاية له بأهله وقومه وبني عمه، ولم تكن هذه المحاولة الوحيدة فقد كان يعظ كل من يعرفه ومن لا يعرفه ويحاول أن يستميله إلى طريق الحق والانضمام إلى معسكر الحسين.
فقد ذكر الطبري: أن عمر بن سعد لما أرسل إلى الحسين كثير بن عبد الله الشعبي وعرفه أبو تمامة الصائدي فأعاده أرسل بعده قرة بن قيس الحنظلي فلما رآه الحسين (ع) مقبلاً قال: أتعرفون هذا؟ فقال حبيب: نعم هذا رجل تميمي من حنظلة وهو ابن أختنا فلما جاء وسلم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد قال له حبيب:
ويحك يا قرة أين ترجع ؟
إلى القوم الظالمين ؟
أنصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة وإيانا معك ؟ (9)
وكان لحبيب كلام بين الصفين يعظ به جيش ابن سعد الذين طبع الله على قلوبهم وأنساهم ذكره لكن ذلك لم يمنع حبيب من تنبيههم وتذكيرهم بالضلال الذي هم عليه فمما قاله حبيب يومئذ:
معاشر القوم إنه والله لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون على الله وقد قتلوا ذرية نبيه وعترته وأهل بيته وعباد أهل هذا المصير المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً...
الشهادة
كان حبيب على ميسرة الحسين فكان خفيف الإجابة لدعوة قتال البغي والضلال فحينما أذن له الحسين (عليه الحسين) بالبراز أخذ يقاتل القوم قتالاً شديداً وهو يقول:
أنا حـبـيبٌ وأبـي مـظـهـرُ فارسُ هيجاءٍ وحربٍ تسعرُ
أنـتـمْ أعـــدّ عــدةً وأكـثـرُ ونـحـنُ أوفـى مـنكمُ وأصبرُ
ونحنُ أعلى حجةً وأظهرُ حـقـاً وأتـقـى مـنـكـمُ وأطهرُ
فقتل على كبر سنه أثنين وستين رجلاً وهو يواصل حملاته ويرتجز بقوله:
أقسمتُ لو كنَّا لكم أعدادا أو شطركمْ وليتمُ الأكتادا
يـا شـرَّ قـومٍ حـسـباً وآدا وشـرَّهـمْ قـد علموا أنداداً
وبينما هو يقاتل إذ حمل عليه رجل من بني تميم يقال له بديل بن صريم فضربه بسيفه وحمل عليه آخر من تميم أيضاً فطعنه برمحه فوقع فأراد أن يقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فسقط فنزل إليه التميمي واحتز رأسه.
قال أهل المقاتل والسير انه لما قتل حبيب بن مظاهر الاسدي هد مقتله الحسين واسترجع كثيراً وقال: عند الله احتسب نفسي وحماة أصحابي
رافق حبيب أصحابه الشهداء الذين تبوأوا أسمى مراتب الأبرار والصديقين.
محمد طاهر الصفار
............................................................
1 ــ الإصابة / القسم الثالث ممن له أدراك ج 1 ص 373
2 ــ مقتل أبي مخنف ص 112
3 ــ البطل الاسدي ص 82
4 ــ معالي السبطين في أحوال الحسن والحسين (عليهما السلام) ج 1 ص 311
5 ــ منتهى المقال في أحوال الرجال ج 2 ص 328
6 ــ اللهوف في قتلى الطفوف ص 108
7 ــ مقتل الخوارزمي ج 1 ص 243
8 ــ بحار الأنوار ج 44 ص 386
9 ــ تاريخ الطبري ج 3 ص 311
قام الإمام الحسين (عليه السلام) بثورته العظيمة مع فئة قليلة من أصحابه، فئة وقفت معه حتى آخر رمق وذبت عنه بكل بسالة وشجاعة حتى سقط الواحد منهم تلو الآخر مضرجين بدم الشهادة ...
لقد مثل هؤلاء الابطال في وقفتهم تلك ذروة الكمال الإنساني وجسدوا أعلى القيم الإنسانية، فقد آمنوا بالحسين وانظموا تحت لوائه واقتفوا أثر مبادئه السامية فلم يقاتلوا من أجل سلطان أو حكم أو غنائم بل خرجوا مع الحسين وهدفهم هو هدفه ألا وهو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد تصدوا لجيش البغي الجرار رغم قلة عددهم متدرِّعين بأيمانهم الخالص بالله وحبهم وولائهم لأهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله) وبقي هؤلاء الأصحاب الأوفياء رمزاً للعطاء وعنواناً للفداء في كل زمان ومكان، وتدلنا كلمة الإمام الحسين (عليه السلام) بحقهم على مدى أيمانهم ورسوخ عقيدتهم وولائهم حينما قال (ع): (أني ما رأيت أصحاباً خير وأفضل من أصحابي).
ويأتي في طليعة هؤلاء الأصحاب المخلصين الصحابي الشهيد حبيب بن مظاهر الأسدي (رضوان الله عليه) حامل راية الأنصار وقائدهم وقدوتهم ...
لقد كان لهذا البطل مواقف مشرفة كثيرة، جسدت رسوخ أيمانه بالله وعميق حبه لأهل البيت (عليهم السلام) وتفانيه في التضحية في سبيل أعلاء كلمة الله حتى ختم هذه المواقف المشرفة بأشرفها وهي الشهادة في سبيل الله بين يدي سيده الإمام الحسين.
نشأ حبيب في بيت توارث البطولة والشجاعة والكرم والوفاء وغيرها من صفات الفضيلة فكانت هذه الصفات هي التي جعلته محل اعتماد إمامه الحسين (عليه السلام) وثقته، فقد زخر هذا البيت بالأسماء اللامعة التي حملت من الصفات ما ندر حملها في الرجال.
نسبه
هو حبيب بن مظاهر بن رئاب بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. وهذا النسب الرفيع كان محل فخر واعتزاز حيث برز منه الأبطال والأشراف، فكان منه فقعس الذي كان يعد من الأبطال المعدودين، ومعبد بن نضلة بن الأشتر الفقعسي الذي كان من أشراف الجاهلية وأبطالها ويذكر له التاريخ منافرة مع خالد الصيداوي أيام النعمان بن المنذر دلت على علو الهمة والوفاء والكرم وعزة النفس لبني فقعس قبيلة حبيب وفي ذلك اليوم قال شاعرهم مفتخراً:
وإنا لنقري الضيفَ في ليلةِ الشتا عظيمَ الجفانِ فوقهنَّ الحوائرُ
كما كان لحبيب وأهل بيته الشرف الأكبر في صحبتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) وولائهم لأهل بيته (عليهم السلام) فقد ذكر أبن حجر العسقلاني:(أن حبيباً أدرك النبي وعُمِّر وقتل مع الحسين (عليه السلام) مع أبن عمه ربيعة بن خوط بن رئاب وربيعة هذا شاعر مخضرم حضر يوم "ذي قار" ثم نزل الكوفة) (1)
حبيب وأخواه
وذكر أبو محنف: أنه كان لحبيب أخوان استشهدا مع الحسين (عليه السلام) إضافة إلى حبيب هما يزيد وعلي إبنا مظاهر(2)، وقد عزز العلامة الكبير الشيخ عبد الواحد المظفر هذا الرأي فقال: (وبناءً على ما نختاره من رواية الطبري عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في عدد الشهداء مع الحسين (عليه السلام) أنهم مئة وخمسة وأربعين رجلاً وعلى هذه الرواية المعتبرة فأن ما قيل قريب لأن المعروفة أسماؤهم لا يبلغون هذا العدد). (3)
وهناك رواية أخرى تدل على ذلك، فقد ذكر الشيخ محمد مهدي الحائري: (أن الحسين (عليه السلام) قال لأصحابه: (ألا ومن كان في رحله أمرأة فلينصرف بها إلى أهلها) ..
فقام علي بن مظاهر الاسدي وقال: ولماذا يا سيدي ؟
فقال (عليه السلام): أن نسائي ستسبى بعد قتلي وأخاف على نسائكم من السبي.
فمضى علي إلى خيمته وأخبر زوجته بذلك فقالت له: وما تريد أن تصنع ؟ قال: قومي حتى ألحقك بأهلك فقالت له: لا والله أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء فرجع علي وهو يقول للحسين (ع): أبت الاسدية إلا مواساتكم فجزاهم الحسين (ع) خيراً. (4)
علم المنايا والبلايا
لقد غمر حب الحسين جميع أهل هذا البيت الأسدي الطاهر وعلى رأسهم حبيب، وقد أمتاز حبيب بمزايا قل نظيرها عند غيره من الرجال، فالوفاء والبصيرة واليقين والحلم والكرم والعلم والشرف وكرم الأصل والنفس والعفة والشجاعة والزهد وغيرها من الصفات العظيمة، التي أمتاز بها حبيب هي التي جعلته محل ثقة مولاه أمير المؤمنين (عليه السلام) فخصّه بعلم خاص لم يخصّه سوى الصفوة المختارة من أصحابه وهو علم المغيبات.
فقد روى الكشي: (عن فضيل بن الزبير ــ وهو من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) قال: مرَّ ميثم التمار على فرس له فأستقبله حبيب بن مظاهر الأسدي عند مجلس بني أسد فتحادثا حتى اختلفت عنقا فرسيهما ثم قال حبيب: لكأني بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق قد صلب في حب أهل البيت نبيه فتبقر بطنه على الخشبة فقال ميثم: وأني لأعرف رجلاً أحمر له ضفيرتان يخرج لنصرة أبن بنت نبيه فيقتل ويُجال برأسه في الكوفة ثم افترقا فقال أهل المجلس: ما رأينا أكذب من هذين قال - أي فضيل بن الزبير - فلم يقترف المجلس حتى أقبل رشيد الهجري فطلبهما فقالوا: افترقا وسمعناهما يقولان كذا وكذا فقال رشيد: رحم الله ميثماً نسي ويزداد في عطاء الذي يجيء بالرأس مئة درهم، ثم أدبر فقال القوم: هذا والله أكذبهم قال: فما ذهبت الأيام والليالي حتى رأينا ميثماً مصلوباً على باب دار عمرو بن حريث وجيء برأس حبيب وقد قتل مع الحسين (عليه السلام) ورأينا كما قالوا ...) (5)
ويبدو أن الكثير من الناس يشاركون القوم استغرابهم من هذا الحديث في الوقت الحاضر ولكن هذا ليس بغريب على من لازموا أمير المؤمنين (عليه السلام) في حله وترحاله وأخذوا منه وتخرّجوا من مدرسته وهو القائل: علّمني رسول الله ألف باب من العلم فتح لي من كل باب ألف باب وقال في حقه رسول الله: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها.
وقد أجمع أهل السير أن حبيباً صحب علياً (عليه السلام) في حروبه كلها الجمل وصفين والنهروان وكان من خاصته وحملة علومه وهذا العلم ــ المغيبات ــ لا يطلعه أمير المؤمنين (عليه السلام) ألا على خاصته أمثال حبيب ورشيد وميثم فهو لا يحمله إلا قلب مفعم بالأيمان.
كتاب الوفاء
كان من الكتب التي وصلت إلى الإمام الحسين (عليه السلام) في القدوم لمبايعته ونصرته، كتاب حبيب مع باقي أمثاله من الشيعة المخلصين وقد اجتمعوا في دار كبير الشيعة الشهيد سليملان بن صرد الخزاعي وكان نص الكتاب:
(من سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.. أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأُمة، فابتزها أمرها، واغتصبها فيأها، وتآمر عليها بغير رضاً منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعُدت ثمود. إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام، إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته).
كان هذا الكتاب نابعاً عن الولاء الخالص والعقيدة الصافية التي يحملها هؤلاء تجاه القضية الحسينية وأهل البيت (ع)، وليس ككتب النفاق التي كتبت بمداد الغدر التي أرسلها النفعيون والوصوليون فيما بعد، وكان الحسين (ع) يعرف من حبيب وأصحابه هذا الوفاء والولاء الخالص.
راية حبيب
ورد أن الإمام الحسين (عليه السلام) في مسيره إلى الكوفة خيَّم في وادٍ وعقد أثني عشر راية ثم أمر جمعاً من أصحابه أن يحمل كل واحد منهم راية وبقيت واحدة فقال له بعضهم: يا سيدي تفضّل عليَّ بحملها فجزاه خيراً وقال له: سيأتي إليها صاحبها. فلما جاء حبيب أعطاه إياها.
ولا يخفى ما لهذا العمل من دلالة واضحة على فضل حبيب ومكانته عند الحسين (عليه السلام) وذكر أهل السير أنه لما ورد مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة ونزل دار المختار وأخذت الشيعة تختلف إليه قام فيهم جماعة من الخطباء تقدمهم عابس الشاكري فخطب خطبة أعلن فيها ولاءه ومبايعته للأمام الحسين (عليه السلام) والذب عنه بروحه وثناه حبيب فقام وقال لعابس بعد فراغه من خطبته رحمك الله لقد قضيت ما في نفسك بواجز من القول وانا والله الذي لا إله الا هو لعلى مثل ما أنت عليه فكان حبيب مع ابن عمه مسلم بن عوسجة يأخذان البيعة للأمام الحسين (ع) في الكوفة.
إلى كربلاء
روى السيد ابن طاووس: أن عبيد الله بن زياد لما دخل الكوفة وخذل أهلها عن مسلم وفرّ أنصاره حبس حبيب ومسلم بن عوسجة ولم يطلقهما ألا بعد مقتل مسلم بن عقيل فلمّا ورد الحسين كربلاء خرجا إليه متخفيين يسيران الليل ويكمنان النهار حتى وصلا إليه وكان وصولهما قبل معركة الطف بأيام (6)...
وكان وجود حبيب في معسكر الحسين يضفي هيبة، ويزرع رهبة في قلوب الأعداء، وكانت لحبيب محاولة لتعزيز معسكر الحسين (عليه السلام) بأكثر عدد من الأنصار فكان قد أستأذن الإمام الحسين (عليه السلام)، قبل المعركة في أن يأتي قومه من بني أسد الذين كانوا قريبين من موقع المعركة فيدعوهم إلى نصرة الحسين.
استنفار بني أسد
فقد روى الخوارزمي (7) المجلسي (8): (إن حبيباً لما وصل إلى الحسين ورأى قلة أنصاره وكثرة محاربيه قال للحسين (عليه السلام): إن ها هنا حياً من بني أسد فلو أذنت لي لسرت إليهم ودعوتهم إلى نصرتك لعل الله أن يهديهم ويدفع بهم عنك. فأذن له الحسين فسار إليهم حتى وافاهم. فجلس في ناديهم ووعظهم وقال في كلامه:
يا بني أسد قد جئتكم بخير ما أتى به رائد قومه، هذا الحسين بن علي أمير المؤمنين وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين وقد أطافت به أعداؤه ليقتلوه فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول الله فيه فو الله لئن نصرتموه ليعطينكم الله شرف الدنيا والآخرة وقد خصصتكم بهذه المكرمة لأنكم قومي وبنو أبي وأقرب الناس مني رحماً فقام عبد الله بن بشير الأسدي وقال:
شكر الله سعيك يا أبا القاسم فو الله لجئتنا بمعركة يستأثر بها المرء الأحب فالأحب، أما أنا فأول من أجاب.
وأجاب جماعة بنحو جوابه فأستجاب لدعوة حبيب تسعون مقاتلاً جاءوا معه يريدون الانضمام إلى معسكر الحسين، ولكن عمر بن سعد علم بذلك فوجه إليهم قوة من أربعمائة فارس بقيادة الأزرق بن الحرث، وكان بين بني أسد وبين معسكر الحسين اليسير فتناوش الفريقان واقتتلوا فصاح حبيب بالأزرق: مالك ولنا انصرف عنا فأبى الأزرق وعلمت بنو أسد ألا طاقة لهم بخيل ابن سعد فانهزموا راجعين إلى حيِّهم ثم غادروا منازلهم في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يباغتهم ورجع حبيب إلى الحسين فأخبره بما كان فقال (ع): وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كانت هذه المحاولة من حبيب حرصاً على حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ووقاية له بأهله وقومه وبني عمه، ولم تكن هذه المحاولة الوحيدة فقد كان يعظ كل من يعرفه ومن لا يعرفه ويحاول أن يستميله إلى طريق الحق والانضمام إلى معسكر الحسين.
فقد ذكر الطبري: أن عمر بن سعد لما أرسل إلى الحسين كثير بن عبد الله الشعبي وعرفه أبو تمامة الصائدي فأعاده أرسل بعده قرة بن قيس الحنظلي فلما رآه الحسين (ع) مقبلاً قال: أتعرفون هذا؟ فقال حبيب: نعم هذا رجل تميمي من حنظلة وهو ابن أختنا فلما جاء وسلم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد قال له حبيب:
ويحك يا قرة أين ترجع ؟
إلى القوم الظالمين ؟
أنصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة وإيانا معك ؟ (9)
وكان لحبيب كلام بين الصفين يعظ به جيش ابن سعد الذين طبع الله على قلوبهم وأنساهم ذكره لكن ذلك لم يمنع حبيب من تنبيههم وتذكيرهم بالضلال الذي هم عليه فمما قاله حبيب يومئذ:
معاشر القوم إنه والله لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون على الله وقد قتلوا ذرية نبيه وعترته وأهل بيته وعباد أهل هذا المصير المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً...
الشهادة
كان حبيب على ميسرة الحسين فكان خفيف الإجابة لدعوة قتال البغي والضلال فحينما أذن له الحسين (عليه الحسين) بالبراز أخذ يقاتل القوم قتالاً شديداً وهو يقول:
أنا حـبـيبٌ وأبـي مـظـهـرُ فارسُ هيجاءٍ وحربٍ تسعرُ
أنـتـمْ أعـــدّ عــدةً وأكـثـرُ ونـحـنُ أوفـى مـنكمُ وأصبرُ
ونحنُ أعلى حجةً وأظهرُ حـقـاً وأتـقـى مـنـكـمُ وأطهرُ
فقتل على كبر سنه أثنين وستين رجلاً وهو يواصل حملاته ويرتجز بقوله:
أقسمتُ لو كنَّا لكم أعدادا أو شطركمْ وليتمُ الأكتادا
يـا شـرَّ قـومٍ حـسـباً وآدا وشـرَّهـمْ قـد علموا أنداداً
وبينما هو يقاتل إذ حمل عليه رجل من بني تميم يقال له بديل بن صريم فضربه بسيفه وحمل عليه آخر من تميم أيضاً فطعنه برمحه فوقع فأراد أن يقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فسقط فنزل إليه التميمي واحتز رأسه.
قال أهل المقاتل والسير انه لما قتل حبيب بن مظاهر الاسدي هد مقتله الحسين واسترجع كثيراً وقال: عند الله احتسب نفسي وحماة أصحابي
رافق حبيب أصحابه الشهداء الذين تبوأوا أسمى مراتب الأبرار والصديقين.
محمد طاهر الصفار
............................................................
1 ــ الإصابة / القسم الثالث ممن له أدراك ج 1 ص 373
2 ــ مقتل أبي مخنف ص 112
3 ــ البطل الاسدي ص 82
4 ــ معالي السبطين في أحوال الحسن والحسين (عليهما السلام) ج 1 ص 311
5 ــ منتهى المقال في أحوال الرجال ج 2 ص 328
6 ــ اللهوف في قتلى الطفوف ص 108
7 ــ مقتل الخوارزمي ج 1 ص 243
8 ــ بحار الأنوار ج 44 ص 386
9 ــ تاريخ الطبري ج 3 ص 311