الصحيفة السجادية كتاب يشتمل على 54 دعاء ومناجاة للأمام السجاد(عليه السلام) رابع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ،ويأتي بالمرتبة الثالثة بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة ويعرف "زبور آل محمد" و" انجيل أهل البيت" .
إن سيرة الائمة الاثني عشر من أهل البيت(عليهم السلام) تمثل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول (صلى الله عليه واله)،وخاصة حياة الامام السجاد (عليه السلام) لأنها تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الاسلام الاصيل الذي اخذ يشق طريقه الى اعماق الامة بعد ان اخذت طاقاته تتضائل بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه واله)، لذا برز دور السجاد كمدافع عن حقوق الامة ومنهم اهل الذمة الذي اختصينا بدراسته، جرى العرف الاسلامي على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باسم "أهل الذمة" او "الذميين".
والصحيفة السجادية كتاب يشتمل على 54 دعاء ومناجاة للأمام السجاد(عليه السلام) رابع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ،ويأتي بالمرتبة الثالثة بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة ويعرف "زبور آل محمد" و" انجيل أهل البيت" .
يتكون البحث من ثلاثة محاور تضمن المحور الاول (الولادة والنشأة) اي اسمه ،ونسبه ،وامه ،والقابه ،وصفاته ، بينما تطرقنا في المحور الثاني الصحيفة السجادية قراءة وعرض إذ تناول من حيث قراءه وعرض وتاريخ تدوينها وطبعاتها ومواضيعها ، اما المحور الثالث شمل على حقوق اهل الذمة في الصحيفة السجادية أذ تضمن الحقوق التي منحها الاسلام من خلال القران الكريم وترجمها اهل العلم .
اعتمدنا في كتابة البحث على مجموعة من المصادر التاريخية وغيرها ومنها على سبيل المثال كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشاء للقلقشندي , وكتاب البداية والنهاية لابن كثير, وكتاب الطهراني، الذريعة الى تصانيف الشيعة وغيرها من المصادر التي اغنت البحث بالمعلومات العلمية القيمة. وفي الختام أتمنى إن أكون قد وفقت في اعداد هذه الدراسة لتكون حافزاً لي في إكمال مشواري العلمي ...ومن الله التوفيق
نسبه واسمه ولقبه
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب (1)ولد بالمدينة المنورة في اليوم الخامس من شعبان سنة 38هـ/659م(2)وقيل ولد في اليوم التاسع من شعبان من نفس السنة(3). أمه هي شاه زنان بنت يزدجر وقيل شهربانويه ،وهي ابنة يزدجر بن شهريار، فتزوجها الحسين (عليه السلام)(4).
لقب بعدة القاب منها زين العابدين لكثرة عبادته(5)، وسيد العابدين لما ظهر عليه من الطاعة متشبه بجده الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)(6)، ولقب(ذو الثفنات) وذلك لكثرة سجوده (أعضاء سجوده اشبه بثفنات البعير) (7) أن الإمام الباقر قال :" كان لابي في موضع سجوده آثار ثابتة وكان يقطعها في السنة مرتين، في كل مرة خمس ثفنات، فسمي ذا الثفنات لذلك"(8)، والسجاد فعرف عنه ما مر به من حادثه او وقعه الا وسجد لله تعالى(9) ،ولقب الزكي لان الله زكاه وطهره(10) بالإضافة الى لقب الامين، ومنار القانتين (11). أن هذه الالقاب قد منحها الناس للإمام عندما وجدوه التجسيد الحي لها، والمصداق الكامل :"وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هوناً واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً"(12).
وكان يكنى (عليه السلام) بأبي الحسين ،وأبي محمد ,وأبي عبد الله(13).مدة امامته 35 عاماً من 61 إلى 95هـ. توفي بالمدينة سنة خمس وتسعين من الهجرة. وله يومئذ سبع وخمسون سنة ودفن مع عمه الامام الحسن (عليه السلام)، وذلك في البقيع المستوى بالأرض(14).
نشأته
نشأ الأمام زين العابدين في بيت النبوة والامامة، في كنف جده أمير المؤمنين(عليه السلام) لسنتين ،وبعد استشهاد جده امير المؤمنين (عليه السلام )تولى تربيته عمه الحسن المجتبى(عليه السلام) اثنتي عشرة سنة ، سيد شباب اهل الجنة وريحانة رسول الله(صلى الله عليه واله) وسبطه الاول، إذ كان يغدق عليه من عطفه وحنانه ويغرس في نفسه مثله العظيمة وخصاله السامية وبعدها تولى والده الإمام الحسين (عليه السلام) لثلاثة عشرة سنة ، الذي رأى في ولده زين العابدين امتداداً ذاتياً ومشرقاً لروحانية النبوة ومثل الإمامة، فأولاه المزيد من رعايته وعنايته، وقدمه على بقية أبنائه، وصاحبه في أكثر أوقاته(15).
واقام بعد أبيه خمساً وثلاثين سنة ،وعرف عنه بانه ابر الناس في اهل بيته ،وكان يبكر في خروجه صبحاً لطلب الرزق لعياله، فقيل له إلى اين تذهب؟ فقال :" أتصدق لعيالي من طلب الحلال ،فإنه من الله صدقة عليهم"(16).
عاش الامام زين العابدين في المدينة المنورة حاضرة الاسلام الاولى، ومهد العلوم والعلماء وفيها ثلث علماء الصحابة مع كبار علماء التابعين فكان بشهادة اكبر أبناء طبقته والتابعين لهم، الاعلم والأفقة والاوثق فقد كان الزهري يقول :"ما كان اكثر مجالسي مع علي بن الحسين، وما رأيت أحداً كان أفقه منه"(17) روى عن الصحابي جابر بن عبد الله الانصاري أنه قال: كنت جالساً عند رسول الله (صلى الله عليه واله) والحسين في حجره وهو يلاعبه فقال(صلى الله عليه واله):"يا جابر ، يولد له مولودً اسمه علي ،إذا كانت يوم القيامة نادى مناد ليقم (سيد العابدين) فيقوم ولده، ثم يولد له ولد اسمه محمد، فأن أنت أدركته يا جابر فاقرأهُ مني السلام(18). واشتهر علي ابن الحسين (عليه السلام) بالورع والطاعة والتقوى وكان عابداً زاهداً. وفي يوم كربلاء مع والده الحسين وله من العمر ثلاث وعشرون سنة، وكان يومئذ موعوكاً فلم يقاتل، ولم يتعرضوا له، بل احضروه مع اهله الى دمشق(19) .
وحدث عن جده وعن عمه الحسن وعن عبد الله بن عباس وأم سلمة وصفية ام المؤمنين وزينب بنت ابي سلمة وعمرو بن عثمان بن عفان (20). وحدث عنه أولاده ابو جعفر محمد وعمر، وزيد، وعبد الله، وعمرو بن دينار، وزيد بن ابي سلمة، وعاصم بن عمرو بن قتادة ، وهشام بن عروة، وأبو الزبير المكي، ومحمد بن الفرات التميمي بالإضافة الى أبو سلمة ، وطاووس وهما من طبقته(21).
اما صفاته فقد ذكر المؤرخون انه كان أسمر قصيراً، نحيفاً، ورقيقاً، وكان كلما تقدمت به السن ازداد ضعفاُ وذبولاً، وذلك لكثرة عبادته ، وقد اغرقته في الاحزان والالام مذبحة كربلاء، فقد ظلت أهوالها تلاحقه حتى وفاته(23). ان الامام علي بن الحسين (عليه السلام) اهتم بطبقة العبيد، فقد كان يسعى لرفع منزلتهم فقد أعتق إحدى إمائه، فعابه عبد الملك بن مروان على ذلك ، وقال له : ما الذي دفعك لمثل هذا العمل؟ فأجابه الإمام السجاد(عليه السلام) محتجا بالآية الشريفة " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"(24) .
وكان من عادته انه لا يستخدم خادماً فوق سنة، ففي اي وقت من السنة كان اذا ملك عبد يعتقه ليلة عيد الفطر، واستبدل سواهم في الحول الثاني ثم أعتق، كذلك كان يفعل حتى لحق بالله تعالى ،وذكر بانه لم يضرب عبداً له ولا أمة ، والمعروف عن زين العابدين بانه إذ اذنب العبد والأمة يكتب عنده :أذنب فلان واذنبت فلانة فاذا اعتقهم اظهر الكتاب ثم يقوم وسطهم ويقول لهم: "ارفعوا اصواتكم وقولوا : يا علي بن الحسين إن ربك قد احصى عليك كلما عملت كما احصيت علينا كلما عملنا ،فاعف واصفح يعف عنك المليك"(25)فيصفح عنهم ويعتقهم. وكان رحوماً بجيرانه ، باراً بهم يرعائهم كما يرعى اهله، وكان يستقي لضعفاء جيرانه في الليل(26).اي انه زاهداً في الدنيا(27).
عصره :
عاصر الامام(عليه السلام) كل المحن والبلايا التي وقعت ايام جده أمير المؤمنين علي(عليه السلام) وتفتحت عيناه ووجده(عليه السلام) في محنته مع الناكثين والقاسطين ،ومن ثمه عاش مع عمه الحسن (عليه السلام) في محنته مع معاويه، ومع ابيه الحسين (عليه السلام) وفاجعة الطف ، وقد وصلت المحنه ذروتها عندما رأى جيوش بني أمية تدخل مسجد الرسول (صلى الله عليه واله) في المدينة وتربط خيوطها في المسجد ،هذا المسجد الذي كان منطلقاً للرسالة وأفكارها الى العالم أجمع، وقد أصاب هذا المسجد في عهد الامام زين العابدين (عليه السلام) كثيراً من الذل والهوان على يد الجيش الاموي الذي اباح المدينة والمسجد معاً . حكم في سني إمامته يزيد ،ومعاوية بن يزيد، ومروان ، وعبد الملك، والوليد بن عبد الملك، اي في الوقت الذي يرى الامويون أن دعامة حكمهم لا تقوم إلا بسب علي (عليه السلام)والنيل منه(28).
لذا فقد كان واعياً للمرحلة التي عاشها بكل تفاصيلها ، فقد حدد عمق المشكلة التي كانت تعيشها الامة في عصرهُ، فربط بين النبي (صلى الله عليه واله)، وقد اولت الشيعة الامامية هذه المسالة أهمية قصوى في عقائدها وثقافتها الفكرية، ومن هنا نرى الإمام علي بن الحسين يروي عن أبيه عن جده، أنه قال:" إن الله فرض على العالم الصلاة على رسول الله(صلى الله عليه واله)، وقرننا به فمن صلى على رسول (صلى الله عليه واله)، ولم يصل علينا لقي الله تعالى وقد بتر الصلاة عليه وترك أوامره"(29)
عبادته
المعروف عن السجاد إذا اراد الوضوء اصفر لونه ،فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء ؟ فأجابهم عن خوف وخشيته من الله قائلاً: أتدرون بين يدي من اقوم(30)؟ وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل كانت أعضاءه ترتعد من خشية الله وكان يصلي صلاة مودع يرى أنه لا يصلي بعدها أبداً(31) . المعروف ان زين العابدين حج خمساً وعشرين حجة راجلاً(32).
المحور الثاني : الصحيفة السجادية قراءة وعرض:
تعتبر الصحيفة السجادية من أهم الكنوز وأعظم الآثار التي انطوت على حقائق والمعارف الإسلامية، بعد القران الكريم ونهج البلاغة، فهي لا تشمل المناجاة وطلب الحاجات من الله تعالى وحسب، بل هي مجموعة ادعية تحوي الكثير من العلوم والمعارف الاسلامية التي تضم المسائل العقائدية والثقافية والاجتماعية والاحكام الشرعية.
وقد بين ذلك الطهراني(33) الذي ذكر لنا عدة اسماء لها منها :"أخت القرآن" و"إنجيل اهل البيت"، و"زبور آل البيت" ،و"الصحيفة الكاملة" فضلاً عن ذلك فقد اشار الطهراني الى انها الصحيفة الاولى التي يرجع سندها الى الامام زين العابدين(عليه السلام)...وتنتهي روايتها الى الإمام الباقر وزيد الشهيد ابني الإمام زين العابدين(34).
كذلك اشار المجلسي :" رأيت من أسانيد الصحيفة بغير هذه الأسانيد فهي أكثر من أن تحصى ولا شك في أنها من كلام سيد الساجدين ،أما منجهة الإسناد فإنها كالقرآن المجيد وهي متواترة من طريق الزيدية"(35). ذكر المجلسي الزيدية وذلك لوجود نسخة من الصحيفة غير تامة لدى الزيدية لا تتوفر على أكثر من نصف الصحيفة الموجودة لذا فقد اطلق اسم "الصحيفة الكاملة "على تمام الصحيفة الموجودة لدى الشيعة الاثني عشرية(36).
ترجمة الصحيفة السجادية للغات عدة منها الفارسية ، والإنجليزية ، والفرنسية ، والتركية ، والاسبانية ، والاردو بالإضافة الى لغات اخرى وهذا ان دل على شيء فانه يدل على عظمة الصحيفة ومكانتها في نفوس الناس بمختلف قومياتهم ومحاولتهم التقرب الى الله من خلال هذه الادعية.
ذكرت الصحيفة في العديد من المصادر منها ابن شعبة الحراني(تحف العقول) ، والأغا بزرك الطهراني في (الذريعة) وابن معصوم المدني في (رياض السالكين) وهي عبارة عن خمسين حقاً أو شرحاً لقد ورثنا من الامام السجاد دعاء في مختلف المجالات الحياتية الاجتماع والاقتصاد والادب والمعارف والفلسفة .
يذكر الجوزي حول الامام السجاد(عليه السلام) يقول :"إن لعلي بن الحسين زين العابدين حق التعليم على المسلمين في الإملاء والإنشاء وكيفية التكلم والخطاب وطلب الحاجة من الباري تعالى ؛ إن هذا الإمام علم البشر كيف يستغفرون الله وكيف يستسقون ويطلبون الغيث"(37). وهناك عدة طبعات للصحيفة منها طبعة مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) مؤسسة الأنصاريان للطباعة والنشر في مدينة قم المقدسة بإشراف السيد محمد باقر نجل السيد المرتضى الموحد الأبطحي الأصفهاني. الطبعة الاولى 1411هـ. وطبعة دار المحجة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع،2002م(38)
ان الامام السجاد كان واعياً للمرحلة التي عاشها بكل تفاصيلها ، ولذا كان دقيقاً في تحديد عمق المشكلة التي كانت تعيشها الامة في عصرهُ، لذا حاول اعادة الامة الى التقرب الى الله عز وجل بالدعاء على اعتبار انه الحبل الممتد من الارض الى السماء ،والذي يوازي القران الكريم، فبالدعاء يناجي العبد ربه ويعود اليه، فاعتراف العبد بالخطأ يعد توازن اخلاقي واجتماعي من خلال الاعتراف بالخطأ(39).
إن مسالة الإمامة من المضامين السياسية والدينية المهمة للصحيفة، فمفهوم الامامة شيعياً بالإضافة الى أحقية الائمة (عليهم السلام) بالخلافة بعداً الهيا للعصمة والتمتع بعلوم الانبياء وخصوصاً النبي الاكرم (صلى الله عليه واله)، وقد ركز الإمام السجاد (عليه السلام)على مفهوم العصمة والخلافة في أحد ادعيته عندما قال :"رب صل على محمد وال محمد المنتجب، المصطفى ، المكرم، المقرب، أفضل صلواتك... رب صل على أطائب اهل بيته الذين اخترتهم لامرك ، وجعلتهم خزنة علمك وحفظة دينك وخلفاءك في أرضك"(40). وان الصحيفة السجادية حملت في طياتها امرين مهمين الاول: هو الدعاء والثاني :هو رسم وتحديد معالم الحقوق يذكر السيد محسن الامين قدس سره :"وقد اعتنى بها الناس أتم اعتناء بروايتها وضبط الفاظها ونسخها .وواظبوا على الدعاء بادعيتها في الليل والنهار والعشي والأبكار والغدوات والأسحار والتضرع إليه تعالى وطلب الحوائج منه والمغفرة والفوز بالجنة والنجاة من النار واستنسخ لا تعد ولا تحصى بالخطوط الجميلة النادرة"، وشرحها العلماء شروحاً عديدة منها شرح الشيخ البهائي المسمى "حدائق المقربين" وافضل شرح لها السيد علي خان المدني الشيرازي صاحب سلافة العصر في أدباء العصر والدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة (41).
المحور الثالث: أهل الذمة في الصحيفة السجادية
الذمة: هي العهد والكفالة وجمعها ذمام فلان له ذمه أي حق وفي حديث الامام علي(عليه السلام) "ذمتى رهينه وأنا زعيم"، واهل الذمة هم اهل الكتاب(42) ، واهل الذمة : أهل العقد، والذمَّة، الأمان، لما جاء في قوله (صلى الله عليه وآله): (ويسعى بذمّتهم أدناهم)(43) ويقال: أهل الذمة، لأنهم أدّوا الجزية فأمنوا على دمائهم وأموالهم، الذمة كلمة معناها العهد والضمان والأمان، وسموا بذلك لان لهم عهد مع الله ورسوله والمسلمين، فهم في امان المسلمين وضمانهم بناءاً على عقد الذمة بينهم وبين اهل الإسلام. وعندما أقام رسول الله (صلى الله عليه واله)، الدولة الإسلامية في المدينة المنوّرة أسَّس لها القواعد والأحكام الخاصّة والعامّة، ولم يكن المسلمون حينها هم الوَحيدون الذين يَعيشون في المدينة المنوّرة؛ لذلك وَضع رسول الله (صلى الله عليه واله) أحكاماً وتعاملاتٍ تُنظّم تعامل أهل المدينة جميعهم، فمن تنظيم الأحكام التي تخصّ تعامل المسلمين فيما بينهم إلى تنظيم الأحكام التي يتعامل بها المسلمون مع غيرهم من سكّان المدينة من اليهود، والمسيحيين، والمجوس، وغيرهم، وقد وضع لذلك صحيفةً عُرفت حينها بالدستور الأول في الاسلام(44).
من الامور المهمة التي خلفها لنا الامام السجاد (عليه السلام) هي رسالة الحقوق والحق هي الحدود والقوانين التي ترسم العلاقة بين الناس في المجتمع وبين العبد وربه، حيث يبين الامام فيها وظائف الانسان وواجباته تجاه الله (عز وجل) وتجاه نفسه والاخرين . ويلتزم المسلمين باعطائهم الامان ما داموا ملتزمين بما عليهم والدليل على ذلك قوله تعالى :" حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"(45)، كذلك اكد الرسول (صلى الله عليه واله):" من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وان ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً" .
ومن حقوق اهل الذمة ان يتكفل المسلمين بأمنهم وحمايتهم لانهم اصبحوا جزءاً من الدولة الاسلامية، وهذا ما اكده الامام علي(عليه السلام) قال:" إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا"
وللصحيفة السجادية اثر كبير على المجتمع فلقد فصل فيها الإمام (عليه السلام) الحقوق على المستوى الفردي والاجتماعي، وعلى المستوى اللاقة بين العبد وخالقه، والرعي ورعيته، ولم يترك السجاد (عليه السلام) حقوق المجتمع بكل ألوانه وانتماءاته وخلفياته الدينية والمذهبية .على اعتبار بان المجتمع يضم في طياته كل الرعية دون استثناء.
ان لهم الحق في ان يعملوا حسب شريعتهم في عقودهم وطلاقهم تجارتهم وغيرها من الاحوال التي تخصهم في مسيرة حياتهم ،يقول الإمام السجاد :" ولا تظلموا ما ،وفوا لله عز وجل بعهده"(46).
والدليل على كلامنا هو عدم التعرض لكنائسهم وخنازيرهم وخمورهم ما لم يظهروها، فالكنائس موجودة الى يومنا هذا ولم يهدموها او يتعرضوا لها ،وهذا ما اكده الصحابة والخلفاء، وقد كان اجلى واوضح تطبيق لأحكام الاسلام، في سلوك ومنهج وتعاليم الامام علي بن ابي طالب، عليه السلام، ربيب النبي، (صلى الله عليه وآله)، وتلميذه الاول، الذي تأدب بأدبه وأخذ تعاليمه.
واكد في الصحيفة السجادية على حقوق اهل الذمة وان اختلفوا في مذاهبهم وآرائهم فأشار الى ان المسلمين يمارسون عباداتهم وشعائرهم ومعتقداتهم ،ثم بحقوق من يشارك مع الانسان في الارض الواحدة وان اختلفوا معهم في الدين فلهم الحق في إجراء مراسيم عباداتهم، وان يعملوا بحسب شريعتهم كما اشار الى ذلك بقوله:" أن تقبل منهم ما قبل الله"(47). وكما اشار السجاد (عليه السلام)بقوله:" وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة"(48) أي انه اكد على حسن التعامل مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى خصوصًا وذلك وفق شروط وقواعد وأحكام خاصّة، خصوصاً إذا كانوا مُسالمين غير مُعادين، ملتزمين بالشروط المَفروضة عليهم من عدم الإساءة للإسلام وعدم إظهار شَعائرهم وعقائدهم.
اما قوله :" وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده وعهد رسول الله حائل "(49) اي بيّنت الشريعة أنّ معاملتهم تكون بالقسط والعدل ومقابلة الحسنى بالحسنى وعدم التعرض لهم إن لم يتعرضوا للإسلام وأهله، فقد قال الله عز وجل: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(50)، ويقول النبي (صلى الله عليه واله): (ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقتِه أو أخذ منه شيئًا بغيرِ طيبِ نفسٍ فأنا حجيجُه يوم القيامةِ، وأشار رسولُ اللهِ (صلى الله عليه واله)بأصبعِه إلى صدرِه ألا من قتل معاهدًا له ذمةُ اللهِ وذمةُ رسولِه حرم اللهُ عليه ريحَ الجنةِ وإن ريحَها لتوجدُ من مسيرةِ سبعين خريفًا)(51).
ان لأهل الذمة الحق فيهم أن تقبل منهم ما قبل الله وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده وتكلهم إليه في ما طلبوا من انفسهم. والاسلام دين سمح لذا فقد اعفى الجزية من النساء والصبيان والمساكين والرهبان وذوي العاهات، فلا تجبى الجزية من امرأة ولا فتاة ولا صبي ولا فقير ولا شيخ ولا اعمى ولا اعرج ولا راهب، ولا مختل في عقله بل زاد الاسلام فتكفل بالإنفاق على من شاخ وعجز من أهل الذمة(52).
الاستنتاجات
-الصحيفة السجادية هي مجموعة من الأدعية المأثورة عن الامام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام). وتعامل الامام زين العابدين (عليه السلام) مع الضغوط التي واجهها بالحكمة والموعظة الحسنة.
-ان الاسلام احترم اصحاب الديانات الأخرى، وتعامل معهم على اساس الانسانية، والمواطنة في الدولة، و وضع لهم حقوقاً كما وضع للمسلمين حقوقا، بل ان النبي، (صلى الله عليه وآله)، جعل من نفسه حجيجاً ومخاصماً لمن يُعتدى عليهم وعلى حقوقهم يوم القيامة، وانهم داخلين في ذمة الله ورسوله، وذمة المسلمين، واي اعتداء عليهم او طردهم من بلادهم او مساكنهم ما هو الا تصرف بعيد عن روح الاسلام واحكامه وتشريعاته.
-للصحيفة السجادية اهمية كبير لأنها ضمت في طياتها ادعية كثيره وما تحويه هذه الادعية من معارف منها : معرفة الله ،ومعرفة الكون، ومعرفة الانسان ، وعالم الغيب، والملائكة، ورسالة الانبياء، ومكانة اهل البيت(عليهم السلام)، وآداب الدعاء ومكانة القران ، والصلاة، والامور الاخلاقية والاجتماعية.
- لهذه الحقوق اهمية كبيره أذ تحفظ حق الانسان وتساعد على تشكيل المنطق لبناء نظام اجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعية ، والتسامح تجاه الاخر ، والقبول بالرأي المخالف. وتعد الصحيفة وثيقة تاريخية لما لها من الاهمية التي توجب علينا المزيد من الدراسة ، لما فيها من دلالة عميقة على تقدم فكرة أهل البيت ومنهجهم الرباني. وتعبر الصحيفة عن عمل اجتماعي عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الأمام (عليه السلام).
- إن أدعية الصحيفة السجادية ذات مضامين مختلفة فمنها ما هم عبادي ذو سمة إيمانية وروحية، ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو سياسي، ومنها ماله بعد عقائدي كالإكثار من الصلاة على محمد وال محمد.
الهوامش والتعليقات
1-الذهبي،شمس الدين محمد بن احمد(ت748هـ)،سيرة اعلام النبلاء، تحقيق بشار عواد، مؤسسة الرسالة،(بيروت-1996)،ج3،ص387.
2- المالكي،الفصول المهمة،ص187.
3- العسقلاني، تهذيب التهذيب،ج3،ص306.
4-الاربلي، كشف الغمة في معرفة الائمة،ج2،ص334.
5- القرشي،موسوعة سيرة اهل البيت،ج15،ص36.
6-القلقشندي،صبح الاعشى،ج1،ص452.
7-العسقلاني،تذكرة الخواص،ص291.
8- الحر العاملي،وسائل الشيعة،ج6،ص244.
9- الاربلي،كشف الغمة،ج2،ص317.
10-الصدوق، الامالي،319.
11-ابن كثير، البداية والنهاية،ج9،ص106.
12-حياة الامام زين العابدين،دراسة تحليلي،ص390.
13-الشيخ الكليني، الكافي ،ج1،ص466.
14-المصدر نفسه،ج1،ص467.
15- الذهبي، سيرة اعلام النبلاء،ج4،ص486.
16-ابن كثير، البداية والنهاية ،ج9،ص
17-الذهبي ،سيرة اعلام النبلاء،ج4،ص387.
18- المفيد، الارشاد، ج2،ص112.
19-الطبرسي، أعلام الورى،ج1،ص469.
20-الحسيني،هاشم معروف، سيرة الائمة الاثنى عشر، تحقيق مؤسسة احياء الكتب الاسلامية،ص380.
21-المصدر نفسه،ص381.
22- الشيخ الكليني، الكافي ،ج1،ص242.
23-(الاحزاب-21)
24- المجلسي بحار الانوار،ج46،ص104
26-الاصفهاني، بهجة الابرار ،ص45.
25-المجلسي،بحار الانوار،ج46،ص62.
26- ابن ابي الحديد،شرح نهج البلاغة،ج13،ص220
27- سهمي ،تاريخ جرجان،ص188.
29- النويري، نهاية الإرب، ج21،ص326.
30-ابن شهر آشوب، المناقب، ج4،ص150.
31- ابن عبد ربه، العقد الفريد،ج3،ص103.
32- الطهراني، آقابزرك، الذريعة الى تصانيف الشيعة،دار الاضواء،(بيروت-1403هـ)،ج15،ص18.
33-المصدر نفسه، ج15،ص19.
34-المجلسي، بحار الانوار،ج،
35-المصدر نفسه، ج،ص؛ الحسني،سيرة الائمة الثنى عشر (عليهم السلام)
36- سبط ابن الجوزي، تذكرة خواص الامة في خصائص الائمة، تحقيق عامر النجار، مكتبة الثقافة الدينية،(قم-2008)،ص125.
37-الحسني، سيرة الائمة الاثنى عشر(عليهم السلام)،ص398.
38- المصدر نفسه،ص398-399.
39- الصحيفة السجادية،الدعاء 47
40-الأمين، السيد محسن، أعيان الشيعة ،ج1،تحقيق: حسن الامين،دار التعارف، (بيروت-1983م)،ص638.
41- ذكرت كلمة ذمه مرتين في القران الكريم الاولى في سورة التوبه"كيف وان يظهرون عليكم لايرقبون فيكم الا ولا ذمه يرضونكم بافواههم"(التوبة/8-9)،"لايرقبون في مؤمن الا ولا ذمه واولئك هم المعتدون"(التوبة/9-10) ،ذكر هذا التعبير ايضاً في السنة النبوية "من اذى ذمياً فأنا خصمه ، ومن كنت خصمه ،خصمته يوم القيامه"(3)، كما روى البخاري "من قتل قتيلاً من اهل الذمه ،حرم الله عليه الجنة"،وقد ذكرهم الرسول(ص) في خطبة الوداع " أوصيكم باهل ذمتي خيراً". . ابن منظور،ابو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم(ت711هـ/1311م)،لسان العرب،دار الكتب العلمية،(بيروت-2005م)؛ الماوردي،ابو الحسن علي بن محمد(ت450ه/1058م )،الاحكام السلطانية،دار صادر ،(بيروت-1988م)،ص42؛ ابن القيم الجوزي،احكام اهل الذمة،ص90
42- الرازي،احمد بن فارس بن زكريا،معجم اللغة، مؤسسة الرسالة،(بيروت-2008م)،ص354.
43-ابن الاثير،الكامل في التاريخ،ج2،ص162.
44-الحسني،سيرة الائمة الاثنى عشر(عليهم السلام)،ص399.
45- الصحيفة السجاديه ،ص227.
46-الصحيفة السجادية،ص228.
47-الصحيفة السجادية،ص227.
48-(الممتحنة-8)
49- الحسني، سيرة الائمة الاثنى عشر،ص398؛ قاسم، قاسم عبده، اهل الذمة في مصر العصور الوسطى،ط2،دار المعارف،(مصر-1979م)،ص96.
50- ابن عبد الحكم، سيرة عمر بن عبد العزيز، ص107.
51- (الممتحنة-8)
52-القرضاوي،يوسف ،غير المسلمين في المجتمع الاسلامي،مكتبة وهبة ،(مصر-د.ت)
المصدر: وکاله الحوزه