لم تشهد بغداد في تأريخها الطويل حضارة ونهضة عظيمة شملت كل ميادين الحياة كما شهدت ذلك في عصر البويهيين، فقد ارتكزت سياسة الأمراء البويهيين الشيعة على بناء حضارة إسلامية إنسانية قائمة على العلم والثقافة كدعامة أساسية للدولة.
لقد أولى الأمراء الشيعة اهتماماً منقطع النظير بالعلم والثقافة وأسَّسُوا المكتبات الضخمة واستقطبوا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والمفكرين والفلاسفة والأطباء والجغرافيين والفلكيين والرياضيين وغيرهم من العقول التي جعلت من بغداد غاية ما يتمنّاه الإنسان من الرقي والتقدم والازدهار.
يقول الدكتور محمود غناوي الزهيري ــ عميد جامعة بغداد ــ (امتاز عهد آل بويه بالخصب العلمي والأدبي بتأثيرهم الخاص أو بتأثير وزرائهم، ذلك أنهم استوزروا أبرع الكتاب وأبرزهم، واعتمدوا عليهم في شؤون الحرب وأمور السياسة والإدارة والمال جميعاً، فلمعت أسماؤهم وعظمت هيبتهم وطار صيتهم في الآفاق فقصدهم أهل العلم والأدب فأفادوا منهم كثيراً وأنتجوا كثيراً في ميدان الأدب والفلسفة والعلم، فكان أثرهم في الحياة الفكرية قوياً جداً). (1)
ويقول السيد أمير علي: (لقد شجّع البويهيون الروح الأدبية وعضدوا مدرسة بغداد التي كان قد اضمحل شأنها في أثناء تدهور الخلافة). (2)
نهضة شاملة
كان من أهم عوامل ازدهار الحياة العلمية والأدبية في عهد بني بويه العناية الفائقة والاهتمام الكبير بالعلم والفكر من قبل أمراء بني بويه واحترامهم للعلماء والأدباء، فكان عضد الدولة يأمر بتوزيع الرواتب على الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين والمفسِّرين والنُّحاة والشعراء والنَّسَّابين والأطباء والحسَّاب والمهندسين، وأفرد لأهل الاختصاص من العلماء والحكماء موضعاً يقرب من مجلسه وأنشأ مكتبة تحتوي على كل كتاب صُنِّف إلى وقته من جميع العلوم.
وكان من نتائج هذا الاهتمام المنقطع النظير أن زخرت الحركة العلمية والأدبية بالمؤلفات والمصنَّفات الفريدة والنادرة في جميع مجالات العلم، يقول الشيخ عباس القمي: (كان عضد الدولة يعظم الشيخ المفيد وقد ألف له العلماء العديد من الكتب وقصده فحول الشعراء ومدحوه بأحسن المدائح منهم أبو الطيب المتنبي الذي قال فيه:
وقد رأيتُ الملوكَ قاطِبَةً وسرتُ حتى رأيتُ مولاهـا) (3)
وبلغت المصنفات والآثار العلمية والفكرية والأدبية والفلسفية أعداداً تجلّ عن الحصر في ذلك العصر والتي كان لبني بويه الفضل الأول في تصنيفها، ومن تلك الآثار العمل الذي قام به العالم الفلكي أبو الحسين بن عمر الرَّازي بصنع كرة تمثِّل السَّماء بما فيها من أجرام ونجوم.
دولة العلم
امتازت الدولة البويهية بخاصية قلما تتوفر في غيرها من الدول وهي أن كل رجالها من أهل العلم والأدب، فقد عهد الأمراء البويهيون لأهل العلم والأدب بالمناصب لقدرتهم على إدارتها وقد نجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً يقول الأستاذ طه الراوي: (في عهد بني بويه وصل العلم والأدب في بغداد إلى القمة العليا فنشأ أكابر المفسِّرين والمحدِّثين والفقهاء والمتكلمين والمؤرخين والكتاب والشعراء وأساطين علوم العربية والحُذّاق في المعارف الكونية. وكان لبعض ملوكهم آثار في العمران وحسنات على أهل الفضل وأقمار الأدب ففي عهدهم تولى الوزارة في إيران أبو الفضل بن العميد، وأبنه أبو الفتح، والصاحب بن عباد، وفي بغداد أبو محمد المهلبي الذي أفاض على رجالات العلم والأدب شيئاً من حسناته وفيضاً من نعمه). (4)
وهؤلاء الوزراء لم تقتصر دائرة شهرتهم على عصر الدولة البويهية فحسب، بل إنهم كانوا من أعمدة الحضارة الإسلامية عبر تأريخها الطويل وأغنوا الحركة العلمية بالعلوم والمعارف التي نهلت منها الأجيال بعدهم وسنستعرض هنا بعضا من سيرة بعضهم.
ابن العميد
الوزير الكاتب أبو الفضل بن أبي عبد الله محمد بن الحسين بن محمد المعروف بـ (ابن العميد)، وهو لقب والده الذي أطلقه عليه أهل خراسان للدلالة على التعظيم والتبجيل، ورث فن الكتابة عن أبيه الذي كان كاتباً لنوح بن نصر الساماني ملك بخارى، فنشأ ابن العميد على الأدب وتمرّس على الكتابة حتى اشتهر بها وفاق كتاب عصره فيها، كما نبغ في الشعر والفلسفة والنجوم وقيادة الجيوش.
قال عنه ابن خلكان: (كان أبو الفضل بن العميد متوسِّعاً في علوم الفلسفة والنجوم،... وكان يُسمَّى الجاحظ الثاني)، لكن ميزة الكتابة طغت عليه حتى لقب بالأستاذ، والجاحظ الثاني، وكان يُقال: (بُدِئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد)، كما عرف ابن العميد بخصاله الحميدة الحسنة ومكارم أخلاقه فاشتهر بجوده وكرمه، فوجد في منصب الوزارة لركن الدولة ما يُلبي حاجته النفسية في إشاعة العلم والأدب والكرم فهاجر إليه الشعراء والعلماء من بغداد والشام ومصر، وقد قصده المتنبي ومدحه بقصائد مشهورة منها رائيته المشهورة:
مَن مُـبـلِـغُ الأَعرابِ أَنّـي بَعدَها شـاهَـدتُ رَسطاليسَ وَالإِسكَندَرا
وَمَلِلتُ نَحرَ عِـشارِها فَأَضافَني مَن يَنحَرُ البِدَرَ النُضارَ لِمَن قَرى
وَسَمِعتُ بَطليموسَ دارِسَ كُتبِهِ مُـتَـمَـلِّـكـاً مُـتَـبَـدِّيــاً مُـتَـحَـــضِّراً
وَلَـقـيـتُ كُـلَّ الـفـاضِـلينَ كَأَنَّما رَدَّ الإِلَــهُ نُــفـوسَـهُـم وَالأَعصُرا
ألف ابن العميد كثيراً من الكتب في مختلف العلوم، ولكن للأسف فإن كل آثاره قد ضاعت ولم يبق منها سوى كتاب (بناء المُدن) وهو يُعنى بفنون البناء والعمران وتوجد منه نسخة مخطوطة في إسطنبول.
الصاحب بن عباد
أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني (كافي الكفاة)، ولد في إحدى كُور فارس بأصطخر أو طالقان في (16 ذي القعدة سنة 326هـ) وهو أوّل من لقب بـ (الصاحب) من الوزراء في الدولة البويهية، لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد فقيل له: صاحب ابن العميد ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولّى الوزارة بعد ابن العميد سنة (367 هـ) .
عُدّ في العلم في عداد الكليني والصدوق والمفيد والطوسي ووصفه المجلسي الأول بأنه (أفقه فقهاء أصحابنا المتقدمين والمتأخرين) (5)، وعّده في مكان آخر (من رؤساء المحدثين والمتكلمين)، ووصفه الحر العاملي بأنه (محقّق متكلّم عظيم الشأن جليل القدر في العلم) (6)، وعدَّه الثعالبي أحد أئمة اللغة الذين اعتمد عليهم وجعله في مصاف الليث والخليل وسيبويه. (7)
ومؤلفات الصاحب وكتبه كثيرة وفي مجالات كثيرة منها: (الإمامة في تفضيل أمير المؤمنين عليه السلام)، و(نهج السبيل في الأصول)، و(أسماء الله وصفاته)، ومن كتبه أيضاً في علوم شتى منها: (التذكرة)، و(التعليل) و(الأنوار)، و(المحيط في اللغة) في عشر مجلدات، و(الفصول المهذبة)، كما ألّف كتابين في العروض وكتابين في الطب وعدة كتب في الأدب والشعر وقد أربت مؤلفاته على الثلاثين.
لقد كان الصاحب قطب رحى العلم في عصره الذي أصبح بفضله من أخصب العصور الأدبية فكان يقرّب رجال العلم والأدب والفضيلة ويغدق عليهم، فتهافت عليه الشعراء وقد عدّهم الثعالبي فكانوا خمسمائة شاعر من الذين مدحوه.
المهلبي
أبو محمد الحسن بن محمد بن عبد الله بن هارون المعروف بـ (الوزير المهلبي (291 - 352 هـ/903 - 963م) يرجع نسبه إلى المهلب بن أبي صفرة الأزدي، من كبار الوزراء الأدباء لقب بذي الوزارتين وكان جواداً بليغاً أديباً شاعراً، وقد استوفى ابن النجار البغدادي (578 ــ 643 هـ / 1183 ــ 1245 م) حياته وأدبه (8)
عصر زاخر بالعلماء
لقد كان هؤلاء الوزراء الثلاثة هم الشعلة العلمية المتّقدة في عصر البويهيين ليس بما ألّفوه فقط، بل بما جبلوا عليه من حب للعلم والأدب وتشجيع العلماء والأدباء وحثهم على الإبداع وتهيئة الأجواء المحفزة على التأليف والتصنيف في شتى المجالات فبلغت العلوم أوج ذروتها في عهد البويهيين في ميادين الفكر والفلسفة والأدب والطب والتأريخ والفقه وعلوم العربية والدراسات اللغوية والجغرافيا والهندسة وعلم الفلك.
الحرية الدينية والمذهبية
كان من أهم العوامل على ارتقاء الحضارة في دولة بني بويه هو عامل الحرية الفكرية والتسامح الديني الذي اعتمده البويهيون في سياستهم، فلم يفرضوا التشيّع على الناس، بل إنهم كانوا يكنوا الاحترام لجميع الأديان فعاش فيها غير المسلمين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم بل إن الكثير من العلماء والمبدعين أنتجوا وبرعوا في ظل هذه الدول التي كانت تكرمهم وتحفزهم على الإبداع.
وكان لهذه السياسة المتسامحة أثرها الكبير في ازدهار الدولة البويهية ورقيّها وتمدّنها وعاش الناس في رخاء ودعة بعيداً عن النعرات الطائفية والصراعات المذهبية، يقول ابن كثير: (كان الأمراء البويهيون معروفون بالسلوك المهذب والأدب الرفيع، يظهرونه في المحافل الرسمية وكانوا أكثر الناس إتباعاً للأصول والمجاملات المتمثلة بالاحترام المفرط حتى أصبحوا مضرباً للأمثال). (9)
ويصف الأستاذ الدكتور حسن أحمد محمود الشريف عصر البويهيين بـ (عصر حرية المذاهب) ويذكر نصوصاً من رسائل للصاحب بن عباد يدعو فيها إلى الوحدة بين المسلمين ونبذ الفرقة ومن هذه الرسائل قوله: (وقد كتبت في ذلك كتاباً أرجوه أن يجمع على الألفة ويحرس من الفرقة وينظم على ترك المنازعة والجنوح إلى الموادعة، فإن المهادنة تجمل بين الملتين فكيف بين النحلتين، والله نسأل توفيقنا لأنفسنا وأنفسهم). (10)
وينقل هذا الكلام الدكتور فاروق عمر فيعلق عليه بالقول: (على أن لهذه السياسة جانبها الإيجابي حيث لجأت المذاهب المتنازعة إلى المنطق والفلسفة وعلم الكلام لتأييد آرائها، فحدثت نهضة علمية وكثرت التصانيف في المناظرات وأسست دور العلم) (11)
ويقول المؤرخ العراقي رشيد خيون: (كان العهد البويهي يتميز بحرية العقائد وسلك أمرائهم سياسة نشر الثقافة، فقد شجعوا العلوم والآداب والفنون وأشاعوا الحوار والمناظرات الفكرية وكان من أبرز وزرائهم المفكر العربي المعروف الصاحب ابن عباد). (12)
وبلغت حرية الفكر واحترام الرأي ذروتها في عصر البويهيين فلم يكن أي إنسان مهما كان دينه ومذهبه ورأيه، من الإدلاء به وممارسته بكل حرية ومن ذلك ما رواه ابن الأثير من: (أن الفقيه أبا الحسن الماوردي اعترض على جلال الدولة بن بويه على إطلاق لقب ملك الملوك على نفسه ورأى عدم جوازه واعتزل في بيته وانقطع عن الحضور إلى بلاط جلال الدولة وكان من أخص الناس به وأقربهم منه ومع ذلك فقد أفتى بعدم جواز إطلاق هذا اللقب عليه في الوقت الذي أفتى بقية الفقهاء بجوازه فلما رأى جلال الدولة انقطاعه وسمع بفتواه استدعاه وأكرمه وعظمه وارتفعت منزلته عنده وقال له: (إني أعلم بأنك ما قلت وما فعلت إلا مرضاة لله والحق، وإنك أعز لدي من الجميع). (13)
نجوم العلم في مدار الحضارة البويهية
تركت الدولة البويهية ثروة علمية وأدبية كبيرة أغنت المكتبة الإسلامية حيث تشير الروايات إلى أن البويهيين كانت لهم اليد الطولى في العلوم واللغة والآداب، وكان بلاطهم على الدوام مليئاً بالعلماء والمحققين والأدباء والشعراء وغيرهم من أعلام الفقه واللغة والأدب.
وقد ترك اهتمام البويهيين بالعلم والأدب والفنون الأخرى أثره الكبير ودوره الفاعل في قلوب العلماء والأدباء والمفكرين والفلاسفة الذين شكل اهتمام البويهيين بهم حافزاً لهم على الإبداع فترسموا خُطى هذه الدولة في سياستهم وإدارتهم للبلاد.
وقد بلغت هذه الدولة أوج الحضارة الإسلامية وذروة التمدن والتحضر والرقي العلمي والفكري والأدبي يقول الدكتور حسين أمين: (قد لا أكون مُغالياً إن قلت إن العصر البويهي هو العصر الذي بلغت فيه الحياة الثقافية العربية الإسلامية ذروتها حيث سمت الآداب نثراً وشعراً وتطوّرت الدراسات اللغوية وازدهرت الحياة العقلية وتكاملت دراسات الفقه المختلفة وظهرت البحوث الموضوعية العلمية في التاريخ والجغرافيا, كما برزت الدراسات الدينية على اختلاف مواضيعها من تفسير القرآن الكريم ودراسات الحديث النبوي الشريف, كما تميزت تلك الفترة بأن الدراسات أصبحت تعتمد على منهج علمي وأسلوب موضوعي) (14)
لقد كانت حضارة البويهيين حضارة متكاملة زخرت فيها جميع العلوم وأبدع في ظلها أفذاذ العلماء والأدباء وتشير المصادر إلى أن أقطاب العلوم والمعارف في التاريخ الإسلامي قد عاشوا في ظل هذه الدولة وإضافة إلى ما ذكرنا من العلماء والأدباء الوزراء، فقد برز الكثير من العلماء ومنهم: في علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه: (الشيخ المفيد) محمد بن محمد بن النعمان، السيد (الشريف المرتضى) ــ علم الهدى ــ علي بن أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي، (الشريف الرضي) محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي، (الرماني) علي بن عيسى بن علي الواسطي، (السري الكوفي)، (الطبري)، (أبو الفرج النهرواني) عبد الملك بن بكران، (ابن سلامة البغدادي) أبو القاسم هبة الله بن سلامة، (الباقلاني) محمد بن الطيب، (الجصَّاص) أحمد بن علي، (السجستاني) دعلج بن أحمد البغدادي، (البزاز) محمد بن المظفر بن موسى بن عيسى العلوي، (الحجامي) محمد بن محمد بن يعقوب بن إسماعيل بن الحجاج، (العصمي) محمد بن العباس بن أحمد بن عصم.
أما في الفقه فمنهم: (الإسفراييني) أحمد بن محمد بن أحمد، و(الكرخي) أحمد بن عبد الله، و(ابن طراف) الجريري النهرواني، و(الوراق) الحسن بن حامد بن علي، أما في علوم اللغة وآداب العربية فقد برز: أبو علي القالي، وابن جني، والمرزباني، والسيرافي، والصولي، وأبو إسحاق الصابئ، والتنوخي، والماوردي
وكان للشعر حيز واسع في رقعة الحضارة في الدولة البويهية والبلاط البويهي ويكفي ذلك العصر أنه ضمّ أبا الطيب المتنبي أعظم شاعر أنتجته العربية طوال تأريخها الطويل، كما ضمَّ ذلك العصر من الشعراء مفخرتي الشعر والأدب الشريفين العلمين السيدين الرضي والمرتضى، و(الزاهي) أبو القاسم علي بن إسحاق بن خلف الزاهي، و(ابن لنكك البصري) أبو الحسن محمد بن محمد بن لنكك البصري، و(السلامي) أبو الحسن محمد بن عبد الله بن محمد القرشي المخزومي، و(العكبري) أبو الحسن عقيل بن محمد الأحنف.
ومن المؤرخين الذين عاشوا في زمن البويهيين: (المسعودي) علي بن الحسين بن علي الهذلي البغدادي، وأبو الفرج قدامة بن جعفر وفي الجغرافيا: (الإصطخري) أبو إسحاق إبراهيم بن محمد، و(ابن حوقل) أبو القاسم محمد بن حوقل البغدادي الموصلي.
ومن العلماء الذين برزوا في علوم شتى (الكاغدي) أبو عبد الله الحسين بن علي بن إبراهيم المتكلم المشهور المعروف بالكاغدي، و(الحصري) أبو الحسن علي بن إبراهيم، و(ابن زهرون الحراني) ثابت بن إبراهيم بن زهرون، و(ابن أبي الأشعث) أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي الأشعث، وماسويه المارديني، و(البوزجاني) محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل بن العباس و(الصاغاني) أبو حامد أحمد بن محمد الصاغاني.
البويهيون بين الدم الملكي والعنصر الديلمي
وَقَدْ رَأيْتُ المُلُوكَ قاطِبَةً وَسِرْتُ حتى رَأيْتُ مَوْلاهَا
وَمَنْ مَنَـــايَــاهُمْ بِرَاحَتِهِ يأمُـــرُهَا فيــهِمِ وَيَنْهَـــــاهَا
أبَا شُجاعٍ بِفارِسٍ عَضُدَ الدّوْلَةِ فَنّــــــــاخُسْرُواً شَهَنْشَاهَا
أسَـــامِياً لم تَزِدْهُ مَعْرِفَةً وَإنّمَـــا لَــذّةً ذَكَرْنَـــــــــاهَا
تَقُودُ مُسْتَحْسَنَ الكَلامِ لَنَا كما تَقُودُ السّحابَ عُظْمَاهَا
هذه النبرة التي طغت على شعر تلك الفترة في المدح جاء بها المتنبي هنا استثنائية في مدح عضد الدولة (علي بن بويه)، وهي تحتاج إلى التمييز الجذري والجوهري عن غيرها من الأشعار، وإخراجها من مظلة التزويق اللفظي إلى مصاف التحقيق الشعري التاريخي، بعد ملاحظة ضخامة الفروقات بين النسب الملكي الصريح للبويهيين في هذه الأبيات وما حققته دولتهم وسياستهم الملكية العريقة على أرض الواقع من تقدم وازدهار وما أتحفته للتاريخ من إنجازات عظيمة، وبين الكلمات الفارغة من المحتوى التي ألصقها شعراء ومؤرخو البلاطين الأموي والعباسي بهاتين الدولتين من مدائح كاذبة ومن تمجيد لخلفائهما الغير مؤهلين للخلافة، وما رسموه لهما بها من أمجاد مزيَّفة صنعتها أخيلة التزلف، فتلاشت وتلاشت معها أكاذيب المتزلفين.
إن التعميم في الألفاظ الذي يكاد يطغى على وصف الخلفاء والملوك عند الشعراء والمؤرخين في تلك الفترة، يستدعينا الوقوف على تأريخ هؤلاء الخلفاء والملوك، والبحث عن جذورهم، وتأريخ دولهم، وأحداثها، واستقراء إنجازاتها، ومن ثم يحق لنا أن نتساءل: هل علينا أن نكرر نفس عبارات المؤرخين السابقين عندما نريد أن ننفض الغبار عن تاريخ الدول التي قامت في تلك الفترة وغيرها ؟؟
أظن أننا لا يمكن أن نردِّد ما قاله المؤرخون والشعراء من أقوال بحق تلك الدول، إلا بعد استقراء عميق ودراسة مستفيضة وتسليط الضوء على ما حققته تلك الدول، وما الذي يميِّز بعضها على بعض في شتى المجالات، ومن ثم نستطيع أن نثبت هذه الأقوال أو ننفيها سلباً أم إيجاباً، قبل أن نجحف حق بعضها ونغبن حكامَها ورجالاتِها أو نعطي البعض الآخر منها وحكامها ورجالاتها أكثر مما يستحقون.
ونحب أن ننوّه إلى أن هذا الموضوع ليس عقد مقارنة بين دولة البويهيين وبين غيرها من الدول، بقدر ما هو عملية إنصاف لها وقراءة موضوعية عنها ووضع اليد على المعلومات الصحيحة عن جذور البويهيين ونسبهم الصريح وعن سياسة دولتهم وأحداثها وإنجازاتها، أو بالأحرى استخدام المعيار البحثي المنطقي السليم والرؤية المحددة التي تنفذ إلى الماضي بعمق وتفحّص لرسم صورة حقيقية لها إلى الأجيال.
سياسة البويهيين الملكية
نجد في سياسة البويهيين ما يؤكد على دمهم الملكي النبيل حيث عُرفوا بسياسة العدل والتسامح حتى مع العدو المقاتل لهم، يقول المستشرق الألماني آدم متز: (كان سبب ارتفاع علي بن بويه سماحته وشجاعته وسعة صدره وحسن سياسته، وكان ذا فضل يتسامع به الناس فيميلون إليه، وكان بنو بويه إلى جانب هذا يحسنون معاملة الأسرى، يعفون عنهم ويؤمنونهم من جميع ما يكرهونه على حين كان أعداؤهم يعدّون للأسرى قيوداً وبرانس ليشهروهم بها، ولقد ظفر علي بن بويه بأعداء له معهم هذه الآلات فعدل عن العقاب إلى العفو عن الطغيان). (15)
من هم البويهيون ؟؟
رغم أن الاختلاف يسود جوّ المؤرخين عند تعرّضهم إلى جذور البويهيين ونسبهم، والتي لا يمكن للقارئ أن يستشف وسط هذا الجو المضبب اليقين في نسبتهم، ولكننا نستطيع أن نتلمّس من خلال سيرة حياة البويهيين ومراحلها وسياستهم الخيوط التي تقودنا إلى انتمائهم الحقيقي، بعد استعراض أهم الأقوال في ذلك وعرضها على محك الدليل وحده، وليس على الاستنتاجات الشخصية الخاضعة للأهواء والنزعات المذهبية والعرقية التي أولع بها أغلب المؤرخين، وسوف نستعرض بعض هذه الأقوال ثم نرى آراء الكتاب حول هذه الأقوال وأيّها أقرب إلى الصحة.
ينسب أغلب المؤرخين بني بويه إلى الديلم، لكنهم أيضاً اختلفوا في كونهم من أصل ديلمي كما قال به البعض ؟ أم كانوا من الفرس قطنوا الديلم ؟ (وكانوا بين أظهرهم مدة)، و(طال مقامهم ببلادهم)، فنُسبوا إليهم كما قال البعض الآخر.
مع المؤرخين ..
يقول ابن الأثير: (إن البويهيين من ولد يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس)، وإن نسبتهم إلى قوم الديلم (بسبب طول مقامهم ببلادهم). (16)
وقال أبو إسحاق الصابي: (إنهم ــ أي بني بويه ــ يرجعون في نسبهم إلى بهرام جور بن يزدجر الملك الساساني). (17)
ونرى شرارة الزعامة لبني بويه تنطلق من أبي الفرج الأصفهاني حيث يقول بعد أن ينسب البويهيين إلى الملك الساساني بهرام غور: (إن علي بن بويه كان زعيماً لإحدى قبائل الديلم تسمى شيرذيل أوندن، تقيم في قرية كياكاليش في ديلمان). (18)
ويذهب بعض المؤرخين إلى أبعد من ذلك في ثبيت هذا القول، حيث يدرج سلسلة نسبهم الطويلة ويصلها بملوك الفرس القدامى، وتنتهي هذه السلسلة إلى الملك سابور ذي الأكتاف الساساني فقال بأن بويه هو ابن:
(فناخسرو بن تمام بن كوهي بن شيرين الأصغر بن شيركوه بن شيرين الأكبر بن ميرشاه بن شيرسر بن شاهنشاه بن سش بن فروين بن شيرد بن غيلاد بن بهرام جور الحكيم بن يزدجرد بن بهرام بن لوما ساه بن سابور ذي الأكتاف الساساني).
واتفق على هذا الرأي الصابي، وابن الجوزي، وابن الأثير، وابن الطقطقي، وابن خلكان، وابن كثير، والمقريزي، وليس لدى المطلع ما يؤيد هذه الأقوال أو ما يعارضها سوى الانسياق وراءها في الاعتقاد بهذا النسب.
أقوال المؤرخين على محك الحقيقة
يقول الشيخ المحقق الكبير العلامة محمد حسن آل ياسين في معرض حديثه عن نسب البويهيين: (كانت بلاد الديلم مسقط رأس بني بويه ومربع صباهم، ومنها بدأ زحفهم للسيطرة على طبرستان وبلاد فارس وبسواعد الديالمة قام سلطانهم واستقام أمرهم.
فهل كان البويهيون من أصل ديلمي كما يرجح مؤرخون معاصرون ؟ أم كانوا فرساً قطنوا الديلم فنسبوا إليها كما جاء في عدد من أصول التأريخ ؟)
ولا يرى الشيخ آل ياسين في ثبيت نسبهم سوى الانسياق وراء ظاهر الروايات التي أرجعتهم إلى ملوك الفرس فيقول: (وانسياقاً مع ظاهر روايات المؤرخين القدامى نرى أن أصل هذه الأسرة يعود إلى فارس لا إلى الديلم وقيل لهم الديالمة ــ لأنهم سكنوا بلاد الديلم ــ وأنهم ــ كانوا بين أظهرهم ــ وقد ــ طال مقامهم ببلادهم ــ) كما قال بذلك الكثير من المؤرخين.
ويشير الشيخ آل ياسين إلى محاولة أخرى من قبل بعض متأخري المؤرخين في أيصال نسبهم إلى رجال الدولة العباسية من الفرس في بداية قيامها، ولكنه لا يعبأ بها مكتفياً بالإشارة إليها حيث يقول:
(ولكونهم من الفرس سُمِّيَ حكمهم بالحكم الفارسي، وحاول بعض متأخري المؤرخين الربط بينه وبين ما سبقه من التغلغل الفارسي في حكومة بغداد منذ قيام الدولة العباسية).
ولا يرجح الشيخ آل ياسين أي من هذه الأقوال على بعضها ما لم يكن هناك دليل قاطع يؤكده، ولكنه في نفس الوقت يميل إلى الرأي المنطقي في ذلك فيقول: (وعلى هذا يكون تعبير بعض الكتاب من أن البويهيين ــ أهم سلالة ديلمية ــ تعبيراً قائماً على شيء من عدم الدقة، كما يكون ما ذهب إليه البعض الآخر من انتساب بني بويه إلى الأمة الفارسية ومن أن أسرة آل بويه ديلمية منطوياً على شيء من الاضطراب وعدم الانسجام).
فالقول في نسبهم وإرجاعه إلى ملوك الفرس القدماء وإثبات السلسلة الملكية في رأي الشيخ آل ياسين يحتاج إلى أدلة وفق منهجه العلمي المستند إلى أدوات البحث الموضوعي حيث يقول: (وإذا صحّ لي أن أقول بجزم: إن لنسب البويهيين ظلاً من واقع، فإنه الظل الذي لا أستطيع تحديده بدقة، ولعل فيما تشفه السنون والدراسات المقبلة ما يوضح الرؤية ويجلو الغموض).
أسباب النزوح
أما سبب نزوح بني بويه إلى الديلم فقد قال الذين نسبوا البويهيين إلى بلاد فارس وملوك الفرس القدامى في ذلك: (إنه لما كانت هذه الأسرة من بيت الحكم والملك وكان الفتح ــ اللا إسلامي ــ الذي اجتاح إيران في العصر الإسلامي الأول مطارداً لبيت السلطة دون هوادة فقد فرّ أفراد هذه الأسرة إلى الديلم ليحتموا بجبالها وكهوفها من الزحف القادم).
ويذهب الكثير من الكتاب المعاصرين إلى هذا الرأي يقول الشيخ آل ياسين: (وهذا هو الذي دلتنا عليه النصوص التاريخية التي صرحت بأنهم ليسوا من الديلم).
ثم يقول معللاً سبب عدم وضوح الرؤية في صراحة نسبهم: (ولعلهم لما فرّوا إلى الديلم دخلوها متنكرين فلم يظهروا حقيقتهم، لأنهم لم يدخلوها بالأبهة المناسبة لمقامهم الدنيوي، ومن هنا جهل الديلم نسبهم، فلم يعرف عنهم سوى كونهم لاجئين يطلبون الحماية والأمان).
ثم يلخص الشيخ آل ياسين بحثه حول هذه الأقوال بترجيح نسبهم وقربه إلى الصحة، ويشير كذلك إلى اختلاف المؤرخين في سلسلة نسبهم إلى كونه ليس شيئاً غريباً فيقول:
(ولمجموع هذه الأسباب المارة الذكر ــ ومنها ما يتلاءم مع طبيعة الموقف والظروف يومذاك ــ نرجح صحة النسب وقربه من التصديق، ولا غرابة في اختلاف المؤرخين ــ بعد ذلك ــ في التفصيلات، فقد اختلفوا وتضاربت أقوالهم في كثير من الأنساب، بل في أنساب أبرز من نسب بني بويه وأظهر وأشهر).
الخلاف الواهي
نجد في موسوعة دائرة المعارف الإسلامية ما يناقض هذا الرأي، حيث جاء فيها في مادة (بويه) نفياً تامّاً لهذا النسب بكل صوره وتسلسله، ولكن بدون أي دليل على ذلك فجاء ما نصه: (إن النسب ــ أي نسب البويهيين الملكي ــ موضوع ملفّق لا يمت إلى الواقع بصلة) (19)
وبدورنا نستطيع الرد عليه بالقول: (إن هذا الرأي موضوع وملفق أنتجته الأهواء ولا يمت إلى الحقيقة بصلة).
ودليلنا على ذلك إن كاتبه المستشرق لم يُشر إلى أي دليل يؤكد نفيه أو حتى الإشارة إلى مصدر استند إليه في ذلك سوى التعليق بالقول: (إن شجرة نسب الأسرة البويهية الملكية ليست سوى محاولة لتمجيد هذه الأسرة).
ولا أدري كيف أجاز هذا المستشرق لنفسه إطلاق هذا الحكم بدون أي دليل يدعمه أو حتى الاعتماد على قول واحد سبقه في ذلك ؟
ولكن إذا أجاز هذا المستشرق لنفسه أن يرسل الأحكام بلا دليل فلا يمكننا نحن أن نهمل ما رواه الصابي وابن الجوزي وابن الأثير وابن الطقطقي وابن خلكان وابن كثير والمقريزي وابو الفرج الأصفهاني وغيرهم من المؤرخين من أن نسب البويهيين ملكي فارسي، بل باستطاعتنا الاعتماد على ما رووه والتماهي معهم في القول بانتساب هذه الأسرة إلى أصل فارسي عريق.
الانسياق الأعمى
بوسعنا عقد مقارنة بين البحث الموضوعي الذي يعتمد على الأدلة والحقائق الذي امتاز به الفكر الشيعي وبين غيره الذي تسوقه الأهواء والأمزجة، وقد رأينا الشيخ آل ياسين في بحثه كيف لا يؤكد القول ولا يجزم بالرأي دون أن يمحصه ويدعمه بالأدلة والحقائق، ولننظر إلى النموذج الآخر الذي تقوده الأهواء والنزعات بدلاً من استخدامه أدوات البحث العلمي.
إن مما يدعو للأسف حقا أن يتصدّى كتّاب لقراءة التأريخ تقودهم السياسة والعصبية المذهبية، كما نجد ذلك بكل وضوح في الدكتور عبد العزيز الدوري الذي يعدّ ــ وهذه من مهازل تأريخنا ــ ((شيخ المؤرخين، وإمام التاريخيين))!.
فقد تبنّى الدكتور الدوري رأي دائرة المعارف الإسلامية كنص لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واتخذ من قولها دليلاً قاطعاً لا يحوم حوله الشك ولا يقبل الاحتمالات، رغم عدم وجود أي دليل حتى ولو كان ضعيفاً على قولها حيث قال: (وبعد نجاحهم ــ أي البويهيين ــ وُضع لهم نسب يتّصل بالملك الساساني بهرام جور أو بوزيره مهر نرسي) !! (20)
ويستند على هذا القول في هامش الصفحة إلى مصدرين لا يمكن الاعتماد عليهما في ذلك، وهما: (دائرة المعارف الإسلامية) الذي أشرنا إليه، و(تفضيل الأتراك على سائر الأجناد) لابن حسول، رغم أن المصدرين لا يمكن الاعتماد عليهما في أصول البحث العلمي التأريخي، فالأول وضعه بعض المستشرقين وأغلب الآراء فيه هي نتيجة استنتاج شخصي لا يرتكز على أي دليل أو حتى قرينة، والثاني بعيد عن الموضوعية والحياد في الطرح، ويظهر ذلك جلياً من عنوانه فكل هم صاحبه هو تفضيل الأتراك على غيرهم من الأمم ليس إلا وهذا ما لا يمكن الاعتماد عليه أبدا، إذن فقوله مردود بلا شك.
مع دكتور آخر...
ونرى العجب من إغراق الدكتور محمد غناوي الزهيري بخياله في نسج الآراء التي لم يكن لها سند سوى ما حاكته له تصوراته وأهوائه الشخصية من تخاريف من أجل نفي نسب البويهيين إلى أسرة فارسية حاكمة حيث يقول: (ولكنهم ــ أي بني بويه ــ على ما يظهر لم يكتفوا بما تهيَّأ لهم من مجد حديث، بل حاولوا أن يصلوه بمجد قديم، فأوحوا إلى بعض الكتاب بأن يخترعوا لهم مآثر قديمة وأن يختلقوا لهم نسباً مشرِّفاً يصلهم بملوك الفرس القدماء، ليجمعوا المجد من أطرافه)! (21)
وهذا ليس من أصول البحث العلمي يا دكتور.. أين دليلك على ما تقول ؟ إن الدكتور هنا يحاول التشبّث حتى بالسراب لكي يروّي خياله بتصورات فارغة، فبعد قوله هذا يلجأ إلى تدعيم قوله دون أن يشعر أنه قد وقع في فخ الازدواجية والتناقض الذي نصبه هو بنفسه لنفسه حيث يقول:
(غير أن الثقات من المؤرخين القدامى يؤكدون لنا إن آل بويه أول أمرهم لم يكونوا ذوي مآثر، كما لم يكونوا ذوي نسب في الملك عريق، وإنما كانوا من دهماء الناس، فقد كان أبو شجاع بويه وأبوه وجده كآحاد الرعية الفقراء ببلاد الديلم)!!!
إن كلمات الدكتور هنا تؤكد عجزه عن إثبات النفي ولو بدليل واحد، فلو أن واحداً فقط من المؤرخين القدامى الذين ذكرهم ووصفهم بـ (الثقات) نفى نسبة بني بويه إلى السلالة الحاكمة لما توانى الدكتور عن ذكر اسمه وتبجيله وجعله من أصدق المؤرخين، ولكان كتابه من أوثق التواريخ لديه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إنه لم يجد مؤرِّخاً واحداً لا من الثقات ولا من غيرهم ليدعم رأيه فاستعان بالكذب واختلق (مؤرخين قُدامى) ليس لهم وجود أصلاً حتى في حكايات ألف ليلة وليلة، وجعلهم شهوداً على قوله وأنكر أقوال المؤرخين الحقيقيين الذين اتفق رأيهم على نسب البويهيين وخالفهم هو، وقد ذكرنا اتفاق أبي اسحاق الصابي وابن الجوزي وابن الأثير وابن الطقطقي وابن خلكان وابن كثير والمقريزي والأصفهاني على نسب البويهيين الملكي.
ثم إنه لو صحّ ما قاله الدكتور غناوي من أن بويه وأباه وجده وأولاده كانوا من أفراد الرعية الفقراء ببلاد الديلم فإن ذلك لا يمثل تعارضاً مع صحة النسب كونهم قد جاؤوا إلى الديلم وهم متخفّين هاربين من بطش الغزو اللا إسلامي وعاشوا مثل بقية الناس في بلاد الديلم كما ذكر المؤرخون.
خروج عن كل شروط البحث العلمي
ويفصح الدكتور غناوي في سياق حديثه عن ابتعاده عن جميع ما يجب أن يستلزمه البحث العلمي الدقيق والمنهج التأريخي المنطقي، بل إنه يكاد يضع من خياله (الواسع جداً) تأريخاً خرافياً له وحده لا يشاركه به أحد ولا يشبهه أي تاريخ، وقد اعتمد فيه على (مؤرخيه القدامى الثقات الأسطوريين) الذين رووا له وحده، أو بالأحرى خُلقوا ليرووا له وحده ولا أحد يعرفهم سواه، يقول في سياق حديثه عن نسب البويهيين: (إن مسألة انتساب البويهيين إلى ملوك الفرس هي من نسج الخيال ومن وحي الغرور الذي يصيب الأسر حين ترتفع من الضعة والخمول إلى ذروة المجد والعظمة)!!
إن كل هم الدكتور انصب لهذا السبب، وهو أن يحط من قدر بني بويه وأن ينسبهم إلى عامة الناس، وليس في ذلك عيب عليهم إن كانوا حقاً من عامة الناس، ولكن حين يطلق عليهم صفة (الضّعة) فهو لم يخرج عن إطار البحث العلمي فقط ، بل انسلخ عن كل ما يجب أن يتصف به الإنسان من أخلاق، ووصلت الغاية القصوى من التهجّم والسبِّ و(الضعة).
وإذا كان الأمر كما تقول أيها الدكتور (الموقّر) فلنا أن نطلق عليك صفة (وضيع) إذا لم تستطع إثبات دمك الملكي ولن تستطيع فأنت من عامة الناس...
خروج عن المسلمات التاريخية
ولا تنتهي مهازل هذا الدكتور (العظيم) عند هذا الحد، بل إنه يريد أن ينفي ويثبت برأيه حتى وإن عارض كل المصادر والتواريخ القديمة والحديثة، بل حتى وإن عارض حتى المسلمات، فلم يقتصر نفيه على نسب البويهيين الملكي فقط، بل تعدّاه إلى نفي نسب الفاطميين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضاً وهذا من أدهى الدواهي يقول في هذيانه:
(فإذا قدِّر لأسرة وضيعة في مثل هذه المجتمعات أن تنهض وترتقي فتصل إلى المجد والسلطان حاولت أن تنتحل لنفسها سبباً عريقاً لتبرر سيادتها على الناس نظرياً كما بررته عملياً بالقوة أو الدهاء أو المكر أو غيرها، وذلك ما حصل بالضبط بالقياس إلى الأسرة البويهية والأسرة الفاطمية...)
هكذا إذن أيها النسابة العظيم...!
فأنت لست دكتوراً فقط، بل إنك استطعت أن تثبت بترهاتك ما لم يستطع إثباته حتى أعداء الفاطميين من أسلافك كصلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي ومحمود زنكي والذين لم يتركوا وصمة أو تهمة دون أن يلصقوها بالفاطميين كذباً وزوراً، ولكنهم لم يجرؤا على مثل قولك العظيم هذا..!
فيا دكتورنا العزيز نحن نصدقك فيما تقول بشرط أن تأتي بدليل واحد أمام آلاف الحقائق التي تثبت عكس ما تقول، وأن تذكر لنا واحداً من مؤرخيك (الثقات) قال بقولك...!!
سوف لا نستعرض الحقائق والمسلمات التاريخية وسلاسل النسب الفاطمية الشريفة فهي من المسلمات التي لم يجرؤ أحد ولو التشكيك بها، ولكننا نكتفي بالرد عليك بما قاله السيد الشريف الأجل الرضي نقيب الطالبيين في وقته والمعاصر للدولة الفاطمية، وهو يثبت نسب الفاطميين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث يقول:
ألـبـسُ الـذلَّ فـي ديـارِ الأعادي وبمصرَ الخليفةُ العلويّ
مَنْ أبُوهُ أبي وَمَـوْلاهُ مَوْلايَ إذا ضـامـني البعيد القصيّ
لـفّ عـرقـي بـعـرقـه سـيـد النا سِ جَـمِيعاً مُحَمّدٌ وَعَليّ
وكما أكد السيد الشريف الرضي نسب الفاطميين الشريف الذي يرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد أكد المتنبي المعاصر لبواكير دولة البويهيين نسبهم الملكي في الأبيات التي ذكرناها في بداية الموضوع والتي تدل على أن نسبهم هذا كان مشهوراً ليس في إيران فحسب، بل في كل البلاد التي يحكمونها وغيرها وهذا ما يدل عليه قول المتنبي:
ألـفَارِسُ المُتّقَى السّلاحُ بِهِ الـ ـمُثْني عَلَيْهِ الوَغَى وَخَيْلاهَا
لَـوْ أنْـكَـرَتْ مـنْ حَـيَـائِـهَا يَدُهُ فـي الحَرْبِ آثَارَهَا عَرَفْنَاهَا
وَكَـيـفَ تَـخْـفَـى الـتي زِيادَتُهَا وَنَاقِعُ المَوْتِ بَعضُ سِيمَاها
ألوَاسعُ العُذْرِ أنْ يَتِيهَ على الـ ـدّنْـيَـا وَأبْـنَـائِـهَـا وَمَــا تَـاهَا
لَـوْ كَـفَـرَ الـعـالَـمُـونَ نِـعْـمَـتَهُ لـمَـا عَـدَتْ نَـفْـسُـهُ سَجَايَاهَا
كالشَمسِ لا تَبتَغي بما صَنَعَتْ مَـعْـرِفَـةً عِـنْـدَهُمْ وَلا جَاهَا
وَلِّ الـسّـلاطِـيـنَ مَـنْ تَـوَلاّهَا وَالـجَـأْ إلَـيْـهِ تَـكُـنْ حُـدَيّـاهَا
وَلا تَـغُـرّنّـكَ الإمَـــارَةُ فــي غَـيـرِ أمِـيـرٍ وَإنْ بـهَـا بَاهَى
فـإنّـمَـا الـمَـلْـكُ رَبّ مَـمْـلَـكَةٍ قَـدْ أفْـعَـمَ الـخـافِـقَـيـنِ رَيّاهَا
مُـبْـتَـسِـمٌ وَالـوُجُـوهُ عَـابِـسَـةٌ سِـلْـمُ الـعِـدى عِندَهُ كَهَيْجاهَا
وأظننا قد أعطينا (الدكتور) أكثر من حقه في الرد عليه، ولكن كانت الغاية والقصد اطلاع القارئ على مدى حقد هؤلاء على الشيعة الذين وضعوا دعائم الإسلام ومحاولة الحط من قدرهم بشتى السبل.
الدولة البويهية ليست دولة المنجم
ركز أغلب المؤرخين الذين تغاضوا عن كل الإنجازات العظيمة التي حققتها الدولة البويهية على جمل تناقلوها ونسبوها إلى معز الدولة وأبيه بويه، مضمونها أنهم كانوا يعيشون كعامة الناس وكانوا يتقوّتون على أعمال ومهن بسيطة كصيد السمك وبيع الحطب وغيرها، وليس ذلك مما يشينهم أو يحط من كرامتهم ولكن كان من وراء هذه الكلمات مغزىً آخر وصل إلى حد رميهم بـ (الضعة)!! وإن حكومتهم قد صنعتها الصدفة وليس بكفاءتهم وأهليتهم للحكم! وكأن باقي ملوك الدول الأخرى قد اصْطفُوا ملوكاً واختيروا من الله لشغل مناصب القيادة و(الخلافة)!!
لقد أغمض أولئك المؤرخون أعينهم وصمّوا آذانهم عن كل قول يعارض هذه الروايات وتمسّكوا بها لغايات معينة في حين نجد أن القول المخالف لهذه الروايات هو القريب إلى الصحة والمطابق للواقع التأريخي
يقول المستشرق الإنكليزي رينولد ألين نيكلسون (1285 ــ 1364هـ / 1868 ــ 1945 م) المتخصص في الأدب الفارسي وهو يصف بويه وأولاده الثلاثة مؤسسي الدولة البويهية: (إن بويه كان أحد الجنود المحظوظين الذين كثيراً ما نجابههم في تأريخ هذه الفترة، وقد ركب أبناؤه الثلاثة علي وأحمد والحسن متن نفس السيرة المغامرة).
وهذا القول الذي عدّه البعض من الشواذ وقال: إنه يتعارض مع أقوال المؤرخين القدماء، فإنه في الحقيقة لا يدل على أيِّ تعارض أو تناقض كما دلت على ذلك سيرة بني بويه في المغامرة وركوب الأخطار والشجاعة، فليس هناك ما يمنع الشجاع والكفوء في القيادة من طلب الرزق لعياله، ثم إن بني بويه كانوا قد فقدوا جميع امتيازاتهم وأموالهم وحكمهم وتركوا ما يمتلكونه عرضة للنهب والسلب من قبل الغزو اللا إسلامي ودخلوا الديلم وقد فقدوا كل شيء فأصبحوا فعلاً من عامة الناس ولكن ما تحقق على أيديهم من حضارة ورُقي سادت العالم لم يتمكن من تحقيقها من توارث الخلافة أبا عن جد وأورثها أولاده وأحفاده دون جدارة وكفاءة.
بنو بويه في أقوال المؤرخين
يروي ابن الاثير سياسة الإصلاح والعدالة الانتقالية التي مارسها البويهيون بعد أن عاث الأتراك فساداً ببغداد فيقول: (حينما استولى معز الدولة على مقاليد الحكم في العراق نادى في الناس الأمان ونشر العدل وبدأ في إصلاحات كثيرة، فقد أنشا أول مستشفى في بغداد وأرصد لها أوقافا جزيلة وتصدق بمعظم أمواله الخاصة وأعتق عبيده ورد كثيراً من الأموال التي صُودرت من أصحابها في العهد السابق، وقد كان كريماً وعادلاً).
ويصف أخاه ركن الدولة بما نصه: (أما الاخ الثاني ركن الدولة فقد كان واسع الصدر حسن التدبير منزّها من الظلم يجري الأرزاق على الفقراء والمساكين وابن السبيل، كان يحب الصالحين من الناس ويقرّبهم الى جواره ولذا مال اليه الشعب وعظموه). (23)
ولنستمع إلى ما قاله المستشرق آدم متز حيث يقول: (كان عضد الدولة يمثل الحاكم تمثيلاً حقيقياً فقد عُني بمعرفة الاخبار وسرعة وصولها شأن كل من يريد أن يحكم دولة كبيرة حكماً صحيحاً، وكانت الأخبار تنتقل بين شيراز وبغداد في سبعة أيام، أي أنها كانت تقطع في كل يوم ما يزيد على مائة وخمسين كيلو مترا.
وقد طهر السبل والطرقات من السرّاق واللصوص ومحا أثر قطاع الطرق وأعاد النظام ووطد الأمن في صحراء الجزيرة العربية وصحراء كرمان وكانت مخيفة وكان سكانها يضعون الضرائب على قوافل الحج فارتفعت وتحقق الأمن وأقام للحجاج السواقي في الطرق واحتفر لهم الآبار وفجر الينابيع وأدار السور حول مدينة الرسول وأمر بعمارة منازل بغداد وأسواقها وابتدأ بالمساجد الجامعة وكانت في نهاية الخراب وهدم ما كان متهدّماً بنيانها وأعادها جديدة قوية وألزم أرباب العقارات بالعمارة فمن قصرت يده أقرضه من بيت المال وفي عهده امتلأت الخرابات بالزهر والخضر والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب ومطارح الجيف والأقذار وجلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد.
وأصبحت لقوافل الحجاج سواقي مياه بعدما حفروا الآبار وفجروا الينابيع وأقاموا السدود، كما أمر عضد الدولة ببناء سوق البزازين في بغداد وألزم أبناء الشعب ببناء دور سكنية لهم ومن قصرت يداه أقرضته الدولة من بيت المال. ومن أعماله الاصلاحية إزالة مطارح الأوساخ والقاذورات من مختلف مناطق بغداد وتحويلها إلى مناطق خضراء رحبة جلب إليها من بلاد فارس مختلف أنواع المغروسات. كما أمر ببناء الجسور والقناطر وإقامة نظام السقاية فكان باعثاً قوياً لجذب جماعات غفيرة من عرب البادية الرُّحل إلى الأراضي المستصلحة وتشجيعهم على حياة الاستقرار وممارسة الزراعة، وكان ضمن أعماله العمرانية اهتمامه ببناء الجوامع وإقامة دور ضيافة لاستقبال القادمين من الزوار إلى العتبات المقدسة في العراق، فضلاً عن إنشائه معابد لليهود وكنائس للنصارى ومساعدته إياهم في شتى المجالات... وكان يوزّع المال سنوياً على الأرامل واليتامى... ويتبرّع للحجاج الحفاة سنوياً ثلاثة آلاف دينار لشراء الأحذية وعشرة آلاف درهم لتكفين الموتى من الفقراء ولم يمر بماء جارٍ إلا وبنى بجانبه قرية وكان يمدّ المال إلى أصحاب الدور الكائنة على طريق الحج ليقدموا العلف الحيواني لدواب المسافرين إلى بيت الله الحرام). (24)
نجد في هذه الأقوال بعضاً من ملامح العظمة والحضارة والرُّقي والهيبة التي وصلتها الدولة البويهية في الوقت الذي كانت الخلافة العباسية تمارس سياسة القهر والاستبداد والفساد والظلم فلا يمكن حتى التفكير في المقارنة بين الدولتين، ولكن عندما يحاول البعض غض الطرف عن كل الممارسات البشعة التي مارسها الخلفاء العباسيون بحق المسلمين كونهم (خلفاء) ولهم حصانتهم الدبلوماسية ووصف البويهيين بالنعوت الدونية رغم ما قدموه من أعمال جليلة للإسلام فإن ذلك يستدعينا الحديث في هذا الجانب
التواريخ (القيادية) الأخرى
لا نريد أن نسترجع التواريخ (القيادية) للخلفاء الذين استولوا على الخلافة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ظلماً وعدواناً، ولكن أقوال المؤرخين جرّتنا إليها جرّاً، ولنا أن نسألهم:
هل كان (حامل قصاع الودك بن جدعان) مؤهلاً ذاتياً ونسباً لقيادة الأمة بعد الرسول وهو القائل: (أقيلوني فلستُ بخيركم وعلي فيكم) ؟
أم القائل مراراً وتكراراً (لولا علي لهلك ... ) ؟
أم من قام (نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه) ؟
أم من لو لم تكن له سيئة سوى أخذ البيعة لابنه يزيد على الأمة لكفاه خزياً وعاراً في الدنيا وخلوداً في النار، يضاف إلى سيئاته هذه أعماله الإجرامية التي سوّدت وجه التأريخ بقتله خيار الصحابة كحجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي وأشباههما من خيار الناس ؟
أم أصحاب البوائق والجرائم من الخلفاء الأمويين وولاتهم وخاصة الحجاج (فرعون الأمة) الذي يثير مجرد اسمه التقزّز لكثرة ما أراق من الدماء البريئة، واستحلّ من الحرمات، وانتهك من المقدسات ؟
أم أصحاب الأيادي الملوّثة بدم الأبرياء، و(أبطال) الليالي الحمراء من الخلفاء العباسيين أم.... أم وتطول القائمة...؟
الأهواء تقود إلى التناقض
ربما كان بعض المؤرخين يميل إلى نزعته القومية ويفضل هؤلاء على غيرهم من الأقوام الأخرى، رغم الشك الكبير أو اليقين بشبهة نسب بعضهم، وخاصة في دولة الأدعياء الدولة الأموية التي اعتلى منابر المسلمين فيها من لم يعرف أبوه، ونُسب إلى أحد من اشترك بولادته كعمرو بن العاص وزياد بن أبيه وحتى معاوية نفسه !! وحتى الدولة العباسية لم تسلم من هذه الوصمة فقد كان إبراهيم بن المهدي يرمي ابن أخيه المأمون بن هارون بتهمة النسب !!
ولكننا نرى هذه النظرة تنتفي عند هؤلاء عندما يتعرّضون لأعداء الشيعة من غير العرب كالسلاجقة والغزنويين والأيوبيين والزنكيين، وخاصة طغرل بك السلجوقي، وصلاح الدين الأيوبي، ونور الدين الزنكي، والمعز بن باديس فتراهم يتخلون عن عروبتهم وقوميتهم ليكيلوا لهؤلاء المجرمين المدح، ويهبوا لهم الألقاب القيادية على المسلمين رغم كونهم ليسوا عرباً !!
ونحن لا ننكر هذا الشيء من جانب العصبية كما هو واضح، فالعصبية تنتفي عندما يمدح الإنسان من هو أهل للمدح سواء كان الممدوح من قوم المادح أو من غيره، كما نرى المتنبي وهو العربي القح والمعتز بعروبته وانتمائه يمدح آل بويه الفرس بقوله مخاطبا عضد الدولة:
وقد رأيتُ الملوكَ قاطبةً وسرتُ حتى رأيتُ مولاها
ولكن ما ننكره هنا هو أن يمدح المؤرخون طغرل بك وصلاح الدين ومحمود زنكي وغيرهم من مجرمي التأريخ ويكيلون لهم الألقاب لمجرد عدائهم للشيعة فقط لا غير!!
كما ونود أن ننوّه إلى أنه ليس من المعيب أن يحب الإنسان قومه ويبرهم ويحسن إليهم، ولكن المعيب هو أن يتغاضى عن سيئاتهم ويفضل شرارهم على خيار غيرهم كما ورد في الكثير من الروايات عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في هذا المضمون
نختار منها رواية الإمام زين العابدين (عليه السلام) عندما سُئل عن العصبية فقال: (العصبية التي يؤثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يُعين قومه على الظلم).
تباً للعصبية المذهبية التي تعمي القلوب كما تعمي الأبصار والتي لا تزال تكبد الأمة آلاف الضحايا من المسلمين الشيعة الأبرياء.
إن هذه النظرة المنحرفة إلى الأحداث والشخصيات هي التي كلفت الأمة المصائب والأهوال وأرجعتها القهقرى إلى الجاهلية الجهلاء.
دوافع وغايات
رغم يقيننا أنه لو كان البويهيون من عامة الناس فإن ذلك لا يقلل من مكانتهم ومن انجازاتهم العظيمة في الإسلام، إلا أننا نجد فيما حِيك لهم من هذه الأقوال قد كشف عن زيف ما ألصق بهم من أكاذيب وتُرهات، ومن هذه الأكاذيب خرافة المنجّم أو أسطورة التنبؤ التي صيغت بيد لا يُعرف بالضبط الغاية من صياغتها، وإن كان يبدو للوهلة الأولى لمن يقرأها أن واضعها يريد أن يقول: إن إقامة بني بويه دولتهم كان من المصادفات ولعبة من لعب الأقدار وليس بما جبلوا عليه من حنكة وسياسة وشجاعة وصفات نبيلة أهلتهم لاعتلاء منصة الحكم.
ربما كان صحيحاً ما رواه الفخري الطقطقي (25)، وابن كثير (26)، وابن العماد الحنبلي (27): (أن أبو شجاع بويه كان صيّاداً للسمك وكان أولاده ــ في طفولتهم ــ يعينونه على العمل والكسب)، وإن معز الدولة بن بويه (كان يحتطب الحطب على رأسه)، كما اتفقت عليه هذه المصادر، وانضم إليها ابن خلكان (28)، وليس في ذلك ما ينقصهم ولا ينقص أي إنسان، ولكن لا يمكن أن نتخذ هذه الأقوال هي كل ما لدى آل بويه قبل إقامتهم دولتهم، ونترك ما تميّزوا به من إمكانيات عظيمة ومؤهلات تميّزوا بها جعلتهم يتبوؤون مناصب عليا في الإسلام. كما ذكرنا ذلك في كلام المستشرق الإنكليزي نكلسون من (إن بويه كان أحد الجنود المحظوظين الذين كثيراً ما نجابههم في تأريخ هذه الفترة، وقد ركب أبناؤه الثلاثة علي وأحمد والحسن متن نفس السيرة المغامرة). (29)
وقبل أن نستعرض أقوال المؤرخين والمستشرقين حول الصفات الكريمة والخصال النبيلة التي تمتع بها آل بويه لنستمع إلى أسطورة المنجم..
أسطورة المنجم
طبعاً هذه الرواية ذكرها كل من تعرّض للحديث عن الدولة البويهية من المؤرخين مع اختلاف بسيط في الألفاظ بين مؤرخ وآخر ولكنها كلها تعطي نفس المضمون، أما راويها الوحيد فهو شهريار بن رستم الديلمي، وكما هو واضح من اسمه فهو فارسي محض، وهذا ما يثير التساؤل حول اعتماد روايته من قبل مؤرّخين لديهم حساسية من هذا العنصر إلا فيما يخدم توجهاتهم، ولا نقصد هنا أنهم كلهم قد نقلوها لنفس الغاية، فبعضهم قد نقلها بحسن نية وانسياقاً مع من سبقه، تقول الرواية:
(كان أبو شجاع بويه في مبدأ أمره صديقاً لي، ــ أي لشهريار ــ فدخلت عليه يوماً وقد ماتت زوجته أم أولاده الثلاثة الذين تملكوا البلاد وهم: عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة أبو علي الحسن، ومعز الدولة أبو الحسين أحمد، وقد اشتد حزن أبي شجاع بويه على زوجته، فعزيته وسكنت قلقه ونقلته إلى منزلي وأحضرت له طعاماً وجمعت إليه أولاده الثلاثة، فبينا هم عندي إذ مر بالباب شخص يقول: المنجّم المعزّم مفسّر المنامات كاتب الرقي والطلسمات، فاستدعاه أبو شجاع بويه وقال له: قد رأيت البارحة رؤيا ففسّرها لي، ثم قصّ عليه الرؤيا.., فقال المنجم: هذا منام عظيم ولا أفسره إلا بخلعة وفرس، فقال له بويه: والله ما أملك إلا الثياب التي على جسدي وإن أعطيتك إياها بقيت عرياناً، فقال المنجم: فعشرة دنانير، فقال له بويه: والله ما أملك دينارين فكيف عشرة ؟ ثم إنه أعطاه يسيراً، فقال المنجم: اعلم إنه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومن عليها ويعلو ذكرهم في الآفاق ويولد لهم جماعة ملوك، فقال له بويه: أما تستحي تسخر بنا ؟ أنا رجل فقير مضطر وأولادي هؤلاء فقراء مساكين فمن أين هم والملك ؟ فقال له المنجم: فأخبرني عن وقت ولادة كل واحد من أولادك، فأخبره بويه بذلك فجعل ينظر إلى اسطرلابه وتقاويمه ثم نهض المنجم وقبّل يد عماد الدولة أبي الحسن علي وقال: هذا والله الذي يملك البلاد، ثم يملك هذا من بعده وقبض على يد أخيه أبي علي الحسن، فاغتاظ منه أبو شجاع بويه وقال لأولاده: اصفعوه فقد أفرط في السخرية بنا فصفعوه ونحن نضحك منه. فقال المنجم: لا بأس بهذا إذا ذكرتم لي هذا الحال عند ولايتكم فأعطاه أبو شجاع عشرة دراهم وانصرف) !!!
مجمل القول إن هذه (الرؤيا) الأسطورة مكررة كثيراً في كتب المؤرخين حتى عند غير آل بويه حيث ينسجها القصاصون للإثارة والتشويق ويستطيع القارئ أن يطالعها في الأساطير أيضا ومجملها أن بويه رأى في منامه أنه يبول فخرجت من ذكره نار عظيمة فاستضاءت الدنيا بها فاستطالت وارتفعت إلى السماء، ثم افترقت ثلاث شعب ومن كل شعب عدة شعب فاستضاءت الدنيا بها والناس خاضعون لتلك النيران..!!!
ولا أظن أن هذه القصة التي تشبه قصص ألف ليلة وليلة تحتاج إلى من يفندها أو يوضح الغاية الظاهرة منها، فهي برمتها عبارة عن عنقاء أطلقها خيال السياسة المعادية للبويهيين للحط من قدرهم وزرع تصور في أذهان الناس يصوّرهم كحمقى اعتلوا الحكم بمحض الصدفة وخاصة بويه الذي يظهر في هذه الصورة كشخصية سكير ومقامر فقد كل شيء ولجأ إلى المنجم ثم يتصرف معه تصرفاً أحمقاً فيأمر أولاده بصفعه عندما يتنبأ له بمستقبل الحكم !!
ومن يطلع على سيرة البويهيين ــ قبل وبعد حكمهم ــ سيجد أنهم أبعد ما يكون عن هذه التصرفات الساذجة وسيجد كذلك أن هذه الرواية الحمقاء الكاذبة والمزيفة قد وضعتها يد خفية لأغراض سياسية كما تناقض هذه الرواية تماماً الرأيين المختلفين حول نسب وحال البويهيين قبل الحكم فهي لا تناسبهم في الرأي الأول كونهم قد تحلوا بأخلاق عالية وصفات ملكية نبيلة، ولا تناسبهم أيضا في الرأي الثاني كونهم كانوا يكدون في العمل بصيد الصيد والاحتطاب ولم يتسلل اليأس إلى قلوبهم ليستعينوا بمنجم أخرق.
البويهيون دولة توقد التاريخ
صنع البويهيون في الديلم ــ وهي المنطقة الجبلية في مقاطعة جيلان في (إيران) ــ وباقي البلاد لهم تأريخاً بأيديهم، وبنوا لهم قواعد بإرادتهم، وأسَّسُوا لهم فيها دعائم بشجاعتهم، ونحتوا في أذهان الناس بوصلات تشير إليهم قبل أن يعتلوا السلطة، حيث تشير بواكير دخول آل بويه معترك السياسة وتصديهم للأخطار وخوضهم مغامرات الحروب إلى انضواء بويه تحت راية ملك الديلم ناصر الدين الأطروش، (أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب)، رابع ملوك الدولة العلوية في طبرستان، وجد الشريفين الرضي والمرتضى لأمهما ـ فأثبت بويه وأولاده جدارة في الحرب والسياسة ولفتوا إليهم الأنظار لشجاعتهم وتدبيرهم كما أشار إلى ذلك المستشرق نكلسون عندما وصف بويه وأولاده الثلاثة بقوله: (إن بويه كان أحد الجنود المحظوظين الذين كثيراً ما نجابههم في تأريخ هذه الفترة، وقد ركب أبناؤه الثلاثة علي وأحمد والحسن متن نفس السيرة المغامرة).
وعندما تولى الحُكم أبو محمد الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الملقب بـ (الداعي الجليل) أو الداعي الصغير خامس ملوك الدولة العلوية كان بويه يشق طريقه نحو المجد ويتدرج نحو السلطة فقد انتشر صدى اسم (أبو شجاع بويه بن فناخسرو) في البلاد كجندي شجاع وقائد محنك في قتال السامانيين مع الداعي الصغير كما ذاع في نفس الوقت أسماء أبنائه الثلاثة الذين أقاموا الدولة البويهية: علي والحسن وأحمد.
ماكان بن كالي الديلمي
تمخض سقوط الدولة العلوية في طبرستان عن ظهور أسماء من القواد لمعت في بلاد الديلم واكتسبت شعبية من خلال شهرتها في الحروب التي خاضها ملك الديلم ناصر الدين الأطروش، (أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب)، رابع ملوك الدولة العلوية في طبرستان ومن أبرز هؤلاء القواد سرخاب بن وهشوذان قائد جيش الأطروش، وأخوه علي الذي ولاه المقتدر العباسي فيما بعد على أصفهان، وليلى بن النعمان الذي يعد من أبرز قواد الأطروش وقد ولاه بعده صهره الحسن المعروف بـ (الداعي الصغير) على جرجان، وماكان بن كالي ابن عم سرخاب قائد جيش العلويين الذي ولاه الأطروش مدينة أستراباذ وأعمالها.
كما كان دون هؤلاء جماعة أخرى من القواد انضموا تحت راية ماكان بن كالي وتبعوه بالولاء منهم أسفار بن شيرويه، ومرداويج بن زيار بن بادر (مؤسس الدولة الزيارية) وأخوه وشمكير ولشكري. وكان من ضمن أتباع مرداويج بنو بويه الذين استقلوا بملك بلاد إيران والعراق فيما بعد والذين ذهبوا بفضل القديم والحديث وكانت لهم الدولة العظيمة التي باهى الإسلام بها سائر الأمم حسبما وصفتهم التواريخ بذلك.
استفحل هؤلاء القواد وقويت شوكتهم وكثر أتباعهم وأعقابهم في البلاد فاستولوا على الري ولكن كانت أمامهم عقبة كؤوداً .. صخرة تقطع طريقهم نحو التوسّع أكثر وهي الدولة السامانية التركية المتسلطة التي ترجع بولائها للدولة العباسية والتي خاضت حروباً طاحنة مع الدولة العلوية فتحاشى هؤلاء القواد الدخول في معركة وصراع معها
وكانت الدولة السامانية تحتل طبرستان وجرجان إضافة إلى خراسان التي انفردت بها بعد صراع طويل وحروب دامية مع الداعي العلوي، وهاهم القواد الذين قاتلوها مع العلويين ينتشرون حولها ويتحينون الفرصة للانقضاض عليها وهي رغم سطوتها فإنها قد جربت شجاعة القواد الديلم وجرأتهم وبسالتهم في الحروب وخاصة القائد ليلى بن النعمان الذي كبدهم هزائم منكرة وألحق بقائدهم قراتكين خسائر فادحة ولاحقه في البلاد مما جعل ملوك العلويين ينعتون ليلى بـ (المؤيد لدين الله المنتصر لأولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولكن لم يكتب لليلى أن يملك فقتل بمؤامرة سامانية، ولحقه سرخاب بن وهشوذان قائد جيش العلويين فتولى مكانه ماكان بن كالي، ولكن ماكان ابتلي بخيانة أسفار بن شيرويه الذي كان (سيء الخلق صعب العشرة) كما وصفته المصادر فطرده ماكان من معسكره فتعاون مع السامانيين وعرض على بكر بن محمد بن اليسع والي نيسابور من قبل نصر بن سامان خدماته فهيأ له نصر جيشاً لفتح جرجان فتم له ذلك ثم ضم إليها طبرستان بعد هزيمة ماكان بن كالي الذي هرب إلى الري فذاق الناس من حكم أسفار بن شيرويه الويل والثبور فقد كان ظالماً جباراً في الأرض.
مرداويج
ضاق مرداويج بن زيار ــ وكان من قواد أسفار ــ ذرعاً بظلمه وجوره وسفكه للدماء وانتهاكه الحرمات كما ضج الناس من سيرته الدموية وسياسته البشعة واتفقوا على الإطاحة به فثار عليه الجند بقيادة وزيره مطرف بن محمد وقائده سلار وانضم إليهم ماكان فهرب أسفار إلى الري في طريقه إلى قلعة (ألموت) التي حصن بها أهله وأمواله ثم رجع إلى طبرستان وسلم نفسه إلى مرداويج فأراد أن يحبسه بالري فحذره بعض أصحابه غائلته فأمر بقتله.
واستتب الحكم لمرداويج في البلاد وأخذ يتوسع فيها فاستولى على قزوين والري وهمذان وكنكور والدينور ودجرد وقم وقاشان وأصفهان وجرباد واستفحل ملكه وأخذته العزة فعتا واستكبر وجلس على سرير الذهب وأجلس أكابر قواده على سرير الفضة وتقدم لعسكره بالوقوف على البعد منه ونودي بالخطاب بينهم وبين حاجبه.
وقد قاده غروره إلى الإثم والعدوان فأوقد نار الحرب مع غريمه ماكان واستولى على طبرستان وجرجان. ثم استولى على همذان والجبل وحارب عساكر المقتدر العباسي فهزمها ودخل همذان عنوة فقتل أهلها وسباهم ثم أمنهم وزحفت إليه عساكر المقتدر مع هارون ابن غريب الحال فهزمهم بنواحي همذان وملك بلاد الجبل وما وراء همذان وبعث قائداً من أصحابه إلى الدينور ففتحها عنوة وبلغت عساكره نحو حلوان وامتلأت أيديهم من الذهب والسبي ورجعوا.
لشكري
أما لشكري فقد كان من أتباع أسفار فلما قتل أسفار لجأ إلى المقتدر العباسي وطلب منه الأمان فضمه المقتدر إلى جيش قائده هارون ابن غريب الحال، ولما انهزم هارون أمام مرداويج جمع لشكري أتباعا له واستولى على نهاوند ثم على أصفهان لكن مرداويج استعادها منه ....
ابن سامان
انتزع ابن سامان جرجان من مرداويج لكن مردوايج لم يقف مكتوف الأيدي حيال هذا الاستيلاء فما إن فرغ من السيطرة على خوزستان والأهواز حتى رجع إلى مركزه الري وجهز جيشا لاستعادة جرجان فهرب قائد جيش ابن سامان أبو بكر بن المظفر إلى نيسابور واستعان بالسعيد بن سامان فعرض أحد قواد ابن سامان على وزير مرداويج بإجراء مفاوضات يتم خلالها بقاء جرجان تحت قيادة الدولة السامانية مقابل التنازل عن الأموال المتفق عليها بين الطرفين وإرسالها إلى مرداويج وشرط عليه كذلك الخطبة والطاعة لمرداويج فقبل وتم الإتفاق على ذلك.
ورجع مرداويج إلى مركزه في الري يسوم الناس سوء العذاب ففرض عليهم الأموال وعسف بهم وخص أهل قزوين بالنهب لما تولوا من ذلك وسلط عليهم الديلم فضاقت بهم الأرض.
الفوضى العارمة
في خضم هذه الفوضى السياسية العارمة والجو العام المضطرب ودوّامة الصراعات والانقلابات والمؤامرات والفتن والحروب كان بنو بويه يراقبون هذه الأحداث عن كثب، بل ويشتركون مشاركة فعالة في بعضها فبرزوا كقادة أكفاء يحسب لهم ألف حساب.
ولعل فيما قدمناه من الأحداث يعطي صورة واضحة للوضع المزري الذي تعيشه كل البلاد الإسلامية آنذاك وليس إيران فقط، وربما كانت إيران أقل هذه المناطق اضطراباً قياساً بباقي البلاد وخاصة بغداد مركز الخلافة العباسية التي كانت تعيش في هيجان شعبي وغضب جماهيري على سلطة الأتراك وسطوتهم وعلى الخلفاء العباسيين على حد سواء لسياستهم التعسفية وايغالهم في الظلم والجور والطغيان كما سنوضح في هذا الموضوع.
فالطموح والأطماع والتطاول إلى الملك قد أصاب الجميع وخاصة القادة والوزراء فبعد أن سقطت دولة العلويين عمت الفوضى وأصبح الجو هو جو القوة والشريعة هي شريعة الغاب ولو استقرأنا أحداث الخلافة العباسية في بغداد في تلك الفترة لوجدنا أضعاف هذه الأحداث والفتن والمؤامرات والدسائس قد واكبتها ولكن لا نريد ان نشط عن الموضوع.
فما هو دور بني بويه من هذه الأحداث وهم يسعون كغيرهم إلى السلطة، وما المانع من ذلك إذا كانوا يمتلكون الكفاءة والأهلية للحكم أكثر من غيرهم ويرون في أنفسهم المنقذين للبلاد من الفتن والسلب والنهب وهتك الحرمات، والحاقنين لدماء المسلمين التي اريقت طوال هذه السنين والأحداث.
موقف بني بويه من هذا المعترك الصاخب
ما الضير إذا وجد الإنسان في نفسه المقدرة وكان جديراً بالحكم أن يطلبه لإنقاذ الناس من سلطة المتجبّرين وسطوة المستكبرين فيأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الظلم والعدوان ؟
أليس الأجدى به أن يطالب بالحكم لينشر في البلاد بدلاً من لغة السيف والدم والسجون والتشريد والتعذيب والتنكيل وقطع الرؤوس والسبي والسلب والنهب، لغة التسامح والمحبة والثقافة والعلم والحرية والكرامة ونشر الألفة بين الناس، ربما سيكون مأثوما لو لم يطالب بها ويطمح إليه لإنقاذ البلاد والعباد ونجد في قول الأمام الرضا (عليه السلام) ما يؤكد هذا الشيء عندما سألوه عن قبوله لولاية العهد فقال: (أما علموا أن يوسف (عليه السلام) كان نبياً ورسولاً فلما دفعته الضرورة إلى تولي خزائن العزيز قال اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم).
ورغم التباين في آلية الوصول إلى الحكم في الموقفين والفارق بين الغاية إلا أن النتيجة تؤكد نفسها في الحالتين، فبنو بويه كانوا يسعون منذ بداية دخولهم المعترك السياسي إطفاء نار الفتن وإخماد الصراعات والاضطرابات وزرع الأمن في البلاد الإسلامية وتحقيق العدالة الاجتماعية ونشر سياسة التسامح الديني والعرقي والحكم بمبدأ التعايش السلمي وبناء حضارة إسلامية عظيمة تقود العالم.
مع الدولة العلوية
كان بنو بويه مخلصين أشد الإخلاص للدولة العلوية فقدموا لها خدمات جليلة عبروا فيه عن عميق انتمائهم لها تلك الدولة التي رفعت راية أهل البيت (عليهم السلام) وجهدت على نشر الإسلام المحمدي الأصيل وإقامة العدل في طبرستان فأعلنت سيادتها عام سنة (250 هـ) وبقيت قائمة لمدة مائتي سنة حققت خلالها الكثير من الإنجازات العظيمة للإسلام والإنسانية، ووضعت أسس حضارة تركت آثارها للتاريخ والأجيال صوراً ناصعة مشرقة، حيث يصف المستشرق الألماني برتولد اشبولر هذه الدولة بالقول: (أسس العلويون في سنة (864) للميلاد دولة تركت أثراً بارزاً في الحضارة الإسلامية) (30)
وقد استطاعت هذه الدولة أن تترك أثراً كبيراً في نشر الدعوة إلى الإسلام حيث تم بفضلها دخول الكثير من الزرادشتية وغيرهم إليه فغرسته في القلوب إلى الآن بعد أن عجزت القوة العسكرية عن إدخالها إلى الإسلام، كما عجز الإرهاب الدموي الذي استخدمه الأمويون والعباسيون لإخضاع هذه الأرض، فدخلت الإسلام طوعاً على يد هؤلاء العلويين الذين حكموا الناس بأحكام الإسلام الصحيح.
وقد تركت الدولة العلوية في طبرستان ثروة علمية وأدبية كبيرة أغنت المكتبة الإسلامية حيث تشير الروايات إلى أن العلويين كانت لهم اليد الطولى في العلوم واللغة والآداب، وكان بلاطهم على الدوام مليئاً بالعلماء والمحققين والأدباء والشعراء وغيرهم من أعلام الفقه واللغة والأدب.
وقد ترك اهتمام العلويين بالعلم والأدب والفنون الأخرى أثره الكبير ودوره الفاعل في قلوب بني بويه الذين ترسموا خطى هذه الدولة في سياستهم وإدارتهم للبلاد.
مع مرداويج
بقي البويهيون مخلصين للدولة العلوية حتى بعد سقوطها حيث انضموا إلى ماكان بن كالي في قتاله السامانيين وعندما رأوا انحراف ماكان عن الداعي الصغير أبي علي الحسن بن القاسم بن الأطروش ومحاولة قتله الفاشلة على يد أبي الحسن بن كالي والاستئثار بالحكم، تركوه وانضموا إلى مرداويج مع بعض القادة فرحب بهم مرداويج واعتبر مقدمهم كسباً كبيراً له ولمعسكره فولّى كل قائد منهم ناحية وولى علي بن بويه على الكرج وكتب له كتاباً بذلك.
جميلٌ رُدَّ بِملك
هل كانت الصدفة وحدها هي التي سخّرت هذا المخلوق (البغلة) ليكون سبباً في إنقاذ البلاد من الفتن والاضطرابات وإحلال السلام والأمن ؟ أم هي الأقدار تلعب لعبتها لتترك في النهاية خاتمة لكل هذه الفوضى ؟ أم أن هناك يد قدّرت أمراً في الغيب لتنجي البلاد والعباد ؟
ربما تكون هذه القصة التي أوصلت آل بويه إلى الحكم أشبه بالقصص الغابرة التي يبحث عنها القصاص والروائيون لينفضوا عنها الغبار، ويشكلوا من مراحلها ثيمة أدبية، وليجعلوا منها عملاً أدبياً متميزاً ولكنها كانت حقيقة وحصلت فعلاً.
إننا نعرف أن الله أنقذ قوم سبأ من الشرك والضلال وأخرجهم من عبادة الشمس إلى طاعته بواسطة الهدهد، كما أهلك قوم صالح الظالمين بالناقة، وأرسل طير الأبابيل لتمنع تهديم بيته الحرام من قبل إبرهة .. فليس عصياً على الله أن ينقذ الأمة بسبب مخلوق بسيط وهذا ما حصل مع البويهيين.
ولنستمع إلى هذه القصة التي فتحت الباب على مصراعيه لبني بويه إلى السلطة وتحقيق حلمهم الذي طالما انتظروه وخاضوا الأهوال والمغامرات والحروب في سبيل الوصول إليه.
فعندما كتب مرداويج بولاية كل قائد على ناحية وولى علي بن بويه على الكرج سار أولئك القادة مجتمعين كل إلى عمله وولايته وعندما وصلوا إلى الري نفدت أموال علي بن بويه فعرض بغلة حسنة له للبيع للاستعانة بثمنها على إكمال رحلته فرآها أحد أتباع مرداويج ومستشاريه ويسمى (نظاراً في الأمور) في ذلك الوقت وهو أبو عبد الله الحسين بن محمد الملقب بـ (العميد) والد أبي الفضل بن العميد الكاتب المشهور وكانا معظمين عند أهل خراسان، فأعجبته البغلة فأراد شراءها وكانت قيمتها ثلاثة آلاف درهم ــ أي ــ (مائتي دينار) فلما جاؤوا بأموالها إلى علي بن بويه وعرف إن الذي اشتراها هو العميد قاد البغلة إليه بنفسه وحلف ألا يأخذ ثمنها واستضافه ابن العميد وجلسا يتحادثان ويتلاطفان بكل ود واحترام ...
في ذلك الوقت كانت الأمور مختلفة تماماً عند مرداويج الذي قاده تفكيره وخبرته السياسية إلى نقض ما كتبه وأمر به من تولية أولئك القادة ومنهم علي بن بويه وندم على فعلته التي ربما قد يخسر ملكه بسببها فهو يعرف أولئك القادة وطموحاتهم ولكن لكل جواد كبوة كما يقال وقد خرج الأمر من يده.
كتب مرداويج كتاباً إلى أخيه وشكمير الذي كان والياً على الري والعميد أن يمنعا أولئك القادة من الخروج من الري وأن يتعقبا من خرج منها وكان الإجراء المتبع في الكتب المرسلة أن تصدر أولاً إلى العميد فيطلع عليها ثم تعرض على وشكمير وحين وصل كتاب مرداويج إلى العميد عرف غاية مرداويج من الكتاب التي ربما لن تقتصر على سلب القادة ولاياتهم فقط، بل إلى قتلهم فذهب سراً الى علي بن بويه وأخبره بفحوى الكتاب وطلب منه أن يبادر إلى الخروج من الري فوراً إلى الكرج مركز ولايته فوثب علي بن بويه من وقته وخرج من الري وهو يسابق الريح ويطوي الأرض طياً.
وفي اليوم الثاني عندما عرضت الكتب على وشكمير وفيها كتاب أخيه مرداويج كان علي بن بويه يقطع المسافات البعيدة ويغذ السير بعيداً عن الري إلى الكرج الشرارة التي أوقدت شعلة الملك لبني بويه.
استطاع وشكمير أن يمنع القواد الذين بقوا في الري من الخروج منها واستعادة العهود التي بأيديهم كما أراد أن يبعث جنداً خلف علي بن بويه لإرجاعه إلى الري فقال له العميد: (إنه لا يرجع طوعاً وربما قاتل من يقصده وتثار فتنة ويخرج عن طاعتنا) فترك وشكمير ما عزم عليه
الكرج
هكذا يكون جزاء الإحسان والمعروف بالإحسان والمعروف ألا تدل هذه القصة على استحقاق بني بويه الملك ؟ لقد قاد علي بن بويه البغلة بيديه تواضعاً للعميد الذي كان معظماً له بين الناس لشرفه وعلمه وفضله فجازاه العميد على ذلك بإنقاذه من الموت وأهداه سرير الحكم الذي تحقق به الحلم الذي طالما راود بني بويه.
البويهيون بناة بغداد
استحوذت مفاهيم معينة (خاصة) حول وقائع التأريخ على الجو العام المتنامي والمتدرج تحت مظلة السلطات المتعاقبة التي حركت فيها أوتار أهوائها ورغباتها، لتكون هذه (المفاهيم) التاريخية هي محور التأريخ ومركز القوة التي تتساقط عنده كل ما يشير إلى اتجاه غيره.
إن ديناميكية الصراع بين السلطات وبين التيارات المعارضة لم تكن آنية فقط، بل إن هذه السلطات سعت إلى تجنيد جيش من المؤرخين لإزالة الممارسات والسياسات القمعية التي مارستها تجاه خصومها وتجاه الشعب عبر إعلام ضخم كوّن صورة مغايرة تماماً عنها، كما سعت هذه السلطات أيضا إلى إلصاق التهم بخصومها وتشويه أهداف الثورات التي قامت ضدها وتسقيط قادتها أمام الرأي العام, وقد تكفل بذلك مؤرخوها وتناقلتها الأجيال بفعل النزعات القومية التي اتبعتها بعض الأنظمة العربية ضمن المناهج المدرسية والشعارات المزيفة حتى وصل الأمر إلى وضع أنسكلوبيديا خارجة عن إطار التأريخ.
ولتكوين فكرة صحيحة عن الملامح الحقيقية للتأريخ لابد أولاً من التجرّد عن الأهواء والتعصب القبلي والمذهبي كون كشف هذه الحقائق يبرز أهمية العلاقة بين التأريخ والفرد أو المجتمع ككل وقبله يعطي مبرراً للسؤال الذي يطرح دائماً: لم التأريخ مجدداً.
في سنوات الطفولة وأيام الإبتدائية كانت مادة التأريخ أكثر المواد غموضاً وتعقيداً من بين المناهج الأخرى ! ربما لا يتقبل ذلك البعض ممن ليس له عمق في التأريخ ولكنها الحقيقة.. فالبون الشاسع بين ما كنا نتلقاه من معلومات حول التأريخ وبين الحقائق من هذه المعلومات تجعل مهمة الدارس والباحث عن هذه الحقيقة صعبة جداً، بل ليست أسهل من مهمة الغواص الذي يستخرج لؤلؤة من بين آلاف المحار في عمق البحر.
إن النظرة التاريخية في المصادر لكثير من الأحداث والشخصيات فيها كثير من التجنّي حول الحقائق وما يُثار حولها من غموض مفتعل وتحريف متعمد أنتجتهما السلطة لصالح مصالحها السياسية وساعدها في ذلك الأهواء والنزعات المذهبية والعصبية لدى المؤرخين
ولكن لا تزال هناك شواهد كثيرة تقف في مقابل هذا التزوير والتحريف حفظها لنا التأريخ أو التأريخ المخفي كما ينبغي أن نسميه والذي لم تستطع أيدي السلطة إخفاءه وقد تركت هذه الشواهد للأجيال انعكاسات عن الماضي ومرتكزات للدراسات التي تخترق أسوار السلطة لكشف الحقيقة التاريخية الناصعة.
التعصّب القومي شوّه وجه التأريخ
لعل من أكبر الجنايات التي لوّثت التأريخ وحرفته هي ما فعلته يد التعصب القومي البغيض والتي لوّثت كل بياض بانتصارها للعصبية القبلية ضد كل ما هو غير عربي وتسقيطه وصب كل حسناته في خانة القومية.
أليس عجيباً أن يتصدر اليوم من سعى لهدم كيان الإسلام قائمة مؤسّسيه وبناة حضارته وتنصب لهم التماثيل وتكتب عنهم الدراسات التي تزكم الأنف منها رائحة العصبية القبلية والتحيّز القومي؟.
أليس عجيباً أن ينسب للخلفاء العباسيين بناء حضارة إسلامية في بغداد ويعطى دور بنائها للمنصور! وأنهم ــ أي العباسيين ــ قد حرصوا على الاهتمام بالعلوم والفنون والآداب, واهتموا بالدين ! وكانوا تقاة ورعاة له ! وأن هارون الرشيد كان زاهداً تقياً ورعاً ! وأن المتوكل هو محيي السنة ! ووو..!
لماذا بنى المنصور بغداد
هذا السؤال تجد الإجابة عليه مغلفة وجاهزة من قبل مُؤرّخي القومية وكتابها وهي تبهر من يراها من الخارج ولكنها من الداخل تظهر الوجه البشع للمنصور ودمويته ودكتاتوريته وتجبّره وسطوته, يقول الأستاذ بشير فرنسيس: (لما بويع أبو جعفر المنصور العباسي بالخلافة، وجد أمامه مسائل كثيرة تتطلب الحل والتحقيق لتوطيد أركان الدولة الجديدة.
وكان من جملة تلك القضايا البحث عن عاصمة تقوم في موضع طيب يتوسط أقاليمها ويشرف على أطرافها ويتصل بسهولة بكل جزء من أجزائها.
فخرج المنصور بنفسه مع خاصته يرتاد موضعاً حسناً للعاصمة فتنقل من مكان إلى مكان متبعاً ضفاف دجلة حتى بلغ به المطاف إلى موضع بغداد في جانبها الغربي فاستحسنه وأمر بالبناء). (31)
كان يريد أن يسيطر كلياً على البلاد وتكون تحت قبضته, فوجد هذا المكان الاستراتيجي الذي تجتمع له الخيرات من البلاد وتوضع بين يديه, كما أشارت إلى ذلك كل المصادر إضافة إلى الجغرافيين الذين عددوا في كتبهم المزايا العديدة و(المفيدة) لموضع بغداد للخليفة, حيث نجد عند عميد الجغرافيين (المقدسي) شرحاً لهذه المزايا (العظيمة) لموضع بغداد التي يستطيع الخليفة أن ينتفع بها ويقوي بها ملكه ويشدد من قبضته وسلطته ودكتاتوريته على الشعب.
يقول المقدسي: (إن الخليفة انتصح بما أشار به عليه أهل ذلك الموضع الذين خبروه في الحر والبرد وأثنوا عليه ويذكر أنهم قالوا له:
(تنزل في بغداد فإنك تصير بين أربعة طساسيج، طسوجان في الجانب الغربي وطسوجان في الجانب الشرقي... فاللذان في الغربي قطربل وبادوريا, واللذان في الشرقي نهر بوق وكلواذى, فأنت تكون بين نخل وقرب الماء فإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته كان الآخر عامراً وأنت على الصراة تجيئك الميرة ــ الخراج والأموال ــ من المغرب وفي الفرات تجيئك طرائف الشام ومصر وتلك البلدان, وتجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة, وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها حتى تصل إلى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة في دجلة, وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخرجت القناطر لم يصل إليك عدوك, وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلا احتاج إلى العبور وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسواد كله, وأنت قريب من البر والبحر والجبل...) (32)
من أجل هذا بنى المنصور بغداد أيها السادة من أجل أن يتحصّن من أعدائه وفي الوقت نفسه تأتيه الأموال الطائلة من البلاد التي أنهك أهلها الجوع والحرمان ليتنعم بها هو وحاشيته ويستعين بها على قتال المناوئين لسلطته الدموية.., نعم هذه هي الحقيقة وليس كما يتشدّق بها الإعلام من أنه بنى بغداد من أجل أن تكون حاضرة أو من أجل أن يجعل خيراتها تدرّ على المسلمين.. لا لقد حلب حلباً له وحده, فخيرات المسلمين أنفقها على أنصاره وأعوانه لسفك دماء المسلمين منذ أن تولى السلطة وكان شغله الشاغل القضاء على كل خصومه من العلويين وغيرهم وتصفية كل من يشم منه رائحة العداء لدولته.
قصر الذهب
ويستمر المقدسي في تعداد المزايا العظيمة التي قدمها الخليفة لبغداد و(المنجزات العظيمة) التي أنجزها فيها ولم يستفد من هذه المنجزات أحد من الناس سواه وحاشيته بل أنه كان يغتصب أموالهم لإنجاز هذه المشاريع (المهمة) يقول المقدسي: (وأقيم لها في أول الأمر سوران ثم أقام حول مركز المدينة سوراً ثالثاً داخلاً فتألف من مجموع الأسوار الثلاثة دوائر ذات مركز واحد هو قصره المعروف بقصر الذهب)!
لقد أولع المنصور ومن جاء بعده ببناء القصور العظيمة التي لا تخطر على بال الإنسان حتى في الخيال وفرشوها بأنفس وأثمن المفروشات وزينوها بالذهب والجواهر وأسكنوا فيها المغنين والمخنثين والقيان لإحياء لياليهم الحمراء التي لم تنقطع طوال فترة حكمهم وبلغت حالة البذخ والاسراف حداً خرج عن المعقول وكانت حاشيتهم وأعوانهم هم من يتنعمون بهذه الهبات والعطايا والمزايا، في حين كان المسلمون يعيشون أشد حالات الفقر والفاقة ومنهم من لا يجد قوت يومه فيبات طاوياً رغم أن الرشيد خاطب الغيمة حينما أرعدت بقوله المشهور: (أمطري أنى شئت فسيأتيني خراجك) !!
المتوكل وجنون العظمة
عرف المتوكل بولعه ببناء القصور وكان يمتلك قصوراً كثيرة تفنّن في تزيينها وزخرفتها وانشاء حدائقها وبركها ويجد القارئ وصفها في قصائد البحتري شاعره الذي أذهلته فخامتها ومقدار ما صرفه على بنائها! ومن القصور التي بناها المتوكل والتي بلغت (24) قصراً: (العاشق وبركواز، والشاه, والعروس, والبركة, والجوسق, والمختار, والجعفري, والقريب , والربيع, والصبيح, والمليح والسندان, والقلاية, والبرج, والمتوكلية, والبهو, واللؤلؤة, والهاروني...)!! وقد بلغت تكاليف بناء هذه القصور (270) مليون درهم فضة و(100) مليون دينار ذهب!!! ، فيكون المجموع (000/000/270/1) درهم!!
ومن أراد الاطلاع على مبلغ الترف والبذخ والاسراف الذي وصله الخلفاء العباسيون ومدى استهتارهم ومجونهم فليطالع كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي ففيه من وصف الليالي الحمراء وما يجري فيها ما يخجل المرء من ذكره.
وهذه الأمور هي بسيطة إذا قارناها بالجرائم التي ارتكبوها بحق المسلمين وخاصة العلويين حيث امتلأت السجون بالأبرياء ولم تخل أسوار قصورهم من الرؤوس المقطوعة لمناوئيهم من أجل إثارة الرعب في قلوب الناس.
كانت تلك الجرائم التي ارتكبها العباسيون والمنكرات التي فعلوها والبوائق التي مارسوها والدماء التي أسالوها والحرمات التي انتهكوها ما يفوق التصور ويخرج عن حدود العقل حتى قال الشاعر فيهم:
يا ليت جور بني مروان دام لنا وليت عدل بني العباسِ في النارِ
وتأتي داهية الدواهي والطامة الكبرى لترى من يأتي الآن ويجعل كل هذه الأفاعيل وراء ظهره ليصف هارون الرشيد بالزهد والورع ويصف المتوكل بمحيي السنة ويصف الخلفاء العباسيين ببناة حضارة وأن عصرهم عصر ازدهار ورقي!!
دور البويهيين في بغداد
لم يكن القصد من عرض هذه الأمور هو عقد مقارنة بين البويهيين والعباسيين أو التعريف بسياسة العباسيين الجائرة في الحكم، ولكن ما يهمنا هو إظهار التأريخ المخفي الذي أسدلت عليه السلطات سحب التعتيم وسعت إلى إبراز الوجه المزيف له والذي أصبح يثير في النفس التقزز والاشمئزاز لتناوب السلطات التي تبعتها على ترديد الشعارات المجوفة التي ألقمتها الأجيال ورصعتها بالأمجاد الكاذبة. بعد أن سلبت منها إرادتها على الاعتراض أو حتى التفكير بما يخالف هذه الشعارات وهذا الموضوع يجرنا إلى بحث آخر لسنا بصدده لكن ما يهمنا هنا هو رسم صورة لسياسة البويهيين ونترك الحكم للقارئ لعقد المقارنة بين السياستين ــ العباسية والبويهية ــ
أصبحت الأرض في عهد معز الدولة البويهي واحة غناء تنتشر فيها سواقي المياه بعد حفر الآبار وتفجير الينابيع وإقامة السدود، كما بلغت بغداد ذروتها في التمدن بعد بناء الأسواق والمحال التجارية ودعوة أبناء الشعب إلى بناء دور سكنية لهم ومن عجز عن ذلك أعانته الدولة واقرضته من بيت المال.
كما أصبحت ببغداد في عهده مصدر بهجة للنفس وراحة للقلب من خلال زرعها بأنواع الزهور والمغروسات التي جيء بها من إيران وإزالة كل مطارح الأزبال والنفايات واتسعت رقعة العمران في بغداد فبنيت المساجد والأسواق والجسور والقناطر وإقامة نظام السقاية الذي كان بمثابة دعوة صريحة لعرب البادية إلى سكنى المدن واستصلاح الأراضي الزراعية وتشجيعهم على حياة الاستقرار وممارسة الزراعة، كما تم تسهيل رحلة الزائرين إلى المناطق المقدسة وتخفيف العبء على الزائر من خلال بناء الجوامع ودور ضيافة لاستقبال القادمين من الزوار إلى العتبات المقدسة في العراق، كذلك السماح لكل طوائف الشعب بممارسة عباداتهم وعقائدهم بكل حرية وإنشاء معابد لليهود وكنائس للنصارى ومساعدة الدولة لهم بكل ما يحتاجونه وفي شتى المجالات... وأصبح الفقير والعاجز والأرملة واليتيم لا يخافون على مستقبلهم في ظل هذه الدولة بعد أن تكفلت بما يسد احتياجاتهم وصرف رواتب شهرية لهم.
وقد وزَّعت الأموال على الأئمة والمؤذنين والعلماء والقُرَّاء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد، وأنشئت الحدائق والمتنزهات، ونظفت مجاري الأنهار، وحفرت الترع والأخاديد، وأقيمت المسنيات (آلات لتوجيه المياه)، وفتحت أقنية جديدة لمنع الناس من الاستبداد بالأقنية والمياه، وأقيم العدل بين الناس كافة بغض النظر عن توجهاتهم ومناصبهم في الدولة، وأبطلت الضرائب المزيدة على الفلاحين.
وقد بنى البويهيون القصور العظيمة لكن بناءها لم يكن كغاية بنائها عند بني العباس من إقامة الليالي الحمراء بل لجعلها مكاناً مناسباً للعلماء وطلاب العلم ففي شيراز بُني قصر عظيم فيه ثلاثمائة غرفة, احتوت على خزائن كتب هائلة مفتوحة للعلماء وقد بنى البويهيون مرصداً للفلكيين في بغداد وكان من أشهر العلماء الذين عاشوا في ظل دولتهم في الفلك والرياضيات أبو الوفاء البوزجاني.
الصناعة
عاشت بغداد انتعاشاً اقتصادياً لم تشهد له مثيلاً في زمن البويهيين وتطوّرت الصناعات والمهن الفنية يقول ابن تغري بردي: (لقد ازدهر الفن زمن البويهيين في كل مجالاته وبرع الفنانون الفرس في دقة مزج الألوان واتقان النقوش الهندسية وكانت شهرتهم في فن النقش لها صداها في سائر البلدان حتى وصلت عبقرية المصورين عند بعضهم إلى وضع رسوم المنسوجات وخاصة على السجاد العجمي الشهير، فأتقنوا صنعها وتفننوا في زخارفها حتى وصلت درجة النبوغ الفني عندهم في الهندسة المعمارية مرتبة الاستاذية الفائقة وتجلت معالمها في روعة العمائر الفخمة وفي بهاء المنائر الدينية وعظمة القبب المطعمة بنقوش الفسيفساء الملون، والتي لازالت بغداد تزخر ببعض اثارها حتى يومنا هذا رغم مرور أكثر من ألف عام على انشائها). (33)
البيمارستان (المستشفى)
يقول ابن الأثير في تأريخه وهو يتحدث عن أحداث سنة (356 هـ): (في هذه السنة ابتدأ معز الدولة في بناء المارستان (المستشفى) وأرصد له أوقافاً جزيلة وتصدق بأكثر أمواله وأعتق مماليكه ورد شيئاً كثيراً على أصحابه وكان حليماً كريماً عاقلا..)
كان بناء هذا المارستان أو (البيمارستان) ــ وهي لفظة فارسية مركبة من كلمتين: بيمار وتعني المريض، وستان وتعني الدار، وهي تطلق على المستشفى أو دار المرضى، وقد أنشأه معز الدولة في الجانب الغربي من بغداد وعند إكماله كان على أحسن ما يكون عليه من جانب تكامل شروطه وجاهزيته للعمل حيث زود بكل ما يحتاج إليه الطبيب والممرض والمريض والأدوية والمعدات والأدوات يقول ابن خلكان: (وأعدَّ له من الآلات ما يقصر الشرح عن وصفه).
كما زوده معز الدولة بأكثر من ستين طبيباً من أمهر الأطباء في ذلك الوقت وفي كافة الاختصاصات للعمل فيه تحت إشراف أبو الحسن ثابت بن سنان الذي تولى منصب رئاسة الأطباء في البيمارستان ومن أشهر الأطباء الذين عملوا في هذا المارستان: أبو نصر الرحبي الكحال، وجبرائيل بن عبيد الله بختيشوع، وأبو يعقوب الأهوازي، وأبو عيسى بقية، وقد عرف هذا البيمارستان بـ (المارستان العضدي). وعُدّ واحداً من أشهر المؤسسات العلاجية التي أنشئت في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية.
وقد وضع لهذا (البيمارستان) برنامج غاية في الدقة والعناية وقُسّم إلى قسمين ــ للرجال والنساء ــ كما قسم كل قسم من هذين القسمين إلى عدة أقسام ضمّ كل قسم قاعات كبيرة لعلاج كافة الأمراض على يد أمهر الأطباء وكانت تجرى في تلك القاعات العمليات الجراحية بشقيها (الصغرى والكبرى) ويجري العمل في هذا المستشفى ليلاً ونهاراً حيث يتناوب مجموعة من الأطباء الاختصاصيين في مختلف فروع الطب العمل فيما بينهم، ويشرف على كل مجموعة منهم طبيب لمتابعة مجريات العمل وتفقد أحوال المرضى، كما ويرافق الأطباء في عملهم مساعدون من الممرضين والمشرفين والخدم يقومون على خدمة المرضى وتقديم الطعام والعلاج لهم.
وضم هذا البيمارستان أيضا إضافة إلى هذه الأقسام الداخلية عيادات خارجية تقدم خدماتها للمرضى من علاج ودواء من الذين لا يستوجب بقاؤهم في البيمارستان، حيث يقوم طبيب متخصص بكتابة (وصفة) الدواء على ورقة وإعطائها للمريض الذي يستلم بها دواءه من صيدلية البيمارستان ليتابع العلاج في بيته، وتحتوي الصيدلية على أنواع مختلفة من الأدوية لكافة الأمراض.
وقد اعتنى معز الدولة بهذا البيمارستان عناية فائقة وأنفق عليه أموالاً طائلة يقول عنه ابن خلكان عنه: (وليس في الدنيا مثل ترتيبه) وقد خصص لإدارته (ناظراً) كفوءاً يقوم بالأمور المالية ويصرف رواتب الأطباء وبقية العاملين في المستشفى من الأموال التي تُرصدها الأوقاف وهذا المنصب من الوظائف الديوانية المهمة والكبيرة في الدولة ولا يتبوأه إلا الأشخاص الأكفاء الأمناء.
السد العظيم
وهو من إنجازات عضد الدولة البويهي شيَّده عند مدينة شيراز بفارس، وعُرف باسم (باندي أمير) أي سدَّ الأمير، كما شيد سدّاً آخر بالقرب من بلدة النهروان في العراق يسمى (سد السهيلة)، ومن إنجازات البويهيين أيضا حفر الجداول وتهيئة الملاحة فأزالوا بذلك خطر الفيضانات الموسمية (الدورية) التي كانت تغمر المناطق الزراعية
وقام عضد الدولة بإصلاحات زراعية كثيرة منها وضع نظام الري وتنظيم الجباية، واهتم خاصة بإصلاح البثوق وكري الأنهار وبناء القناطر على أفواهها لتنظيم مجرى الماء، ووضع الحرّاس في بعض النقاط الهامة لحراسة القنوات والسدود في الليل والنهار، وأضاف عضد الدولة إلى هذا مهمة إصلاح الجباية، فوضع لها نظاماً ثابتاً.......
البويهيون يوقدون المدن والمشاهد المقدسة
اهتم البويهيون اهتماماً بالغاً بالأضرحة المقدسة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) حيث أولوها عناية فائقة لما لها من مكانة في قلوبهم وقلوب المسلمين, ولم يقتصر اهتمامهم وعلى المراقد المطهرة التي نالت الغاية من التبجيل والتعظيم في نفوسهم وأعطوها الأولوية من مشاريعهم في العراق بل أحاطوا المدن المقدسة ببالغ الأهمية فازدهرت المدن المقدسة (النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية وسامراء) في عهدهم وأنشئت فيها المدارس الدينية وتوسعت معالمها وتطور عمرانها وتجارتها وزراعتها, كما لم يقتصر اهتمامهم واعتنائهم الفائق بالمراقد والمدن المقدسة في العراق فحسب, بل امتد إلى خارجه فسهلوا عملية الحج والعمرة إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله), فقد رفع عضد الدولة البويهي الجباية عن الحجّاج وأقام لهم الاستراحات في الطريق وحفر لهم العيون والآبار على طول الطريق من العراق الى عمق الصحراء يقول ابن الأثير: (كان عضد الدولة ينفق على أهل مكة والمدينة وطرقهما ومصالحهما مائة ألف دينار كل سنة).
وقد كان طريق الحج يثير قلق الحجاج ومخاوفهم لخطورته حيث اعتاد أعراب نجد على شن غارات واعتداءات على قوافل الحجاج الآتية من العراق والشام، مما كان يتطلب إرسال مجموعة من الجند لحماية الحجاج وتأمين وصولهم وسلامتهم مع حصر أداء فريضة الحج خلال الموسم فقط, ولكن غارات أعراب نجد طالت حتى مكة والمدينة فبنى عضد الدولة سورا لحمايتها من غارات الأعراب, يقول ابن الجوزي: (أدار عضد الدولة السور على المدينة لحمايتها من غارات الأعراب).
وقد ازدهر طريق الحج في عهد عضد الدولة فكان الحجاج في مأمن من غارات الأعراب, فكانوا يمرون بواحات غناء في طريقهم حتى وصولهم, وقد جاء هذا الاهتمام البالغ لما يكنه عضد الدولة في نفسه من احترام وتقديس وتبجيل للأماكن المقدسة ووجوب احترام زائريها وسلامتهم وحقن دمائهم من اللصوص, ولما عرف عنه من التقوى والورع والعدل والعبادة والكرم.
يقول ابن الأثير: (كان عضد الدولة حليماً, كريماً واسع الكرم, كثير البذل, حسن السياسة لرعاياه وجنده رؤوفاً بهم, عادلاً في الحكم بينهم, وكان بعيد الهمة, عظيم الجد والسعادة, متحرجاً من الظلم, مانعاً لأصحابه منه, عفيفاً عن الدماء, يرى حقنها واجباً إلا فيما لا بد منه, وكان يحامي على أهل البيوتات, وكان يجري عليهم الأرزاق ويصونهم عن التبذل, وكان يقصد المساجد الجامعة, في أشهر الصيام, للصلاة, وينتصب لرد المظالم, ويتعهد العلويين بالأموال الكثيرة، ويتصدق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات، ويلين جانبه للخاص والعام......
ثم يروي ابن الأثير عدة أمثلة على تواضعه وكرمه ويقول: فانظر إلى هذا الخلق ما أحسنه وما أجمله.... وهو ما يدل على كمال مروءته, وحسن عهده, وصلته لرحمه, رضي الله عنه وأرضاه وكان له حسن عهد ومودة إقبال...) (34)
ويقول ابن الجوزي إن عضد الدولة (اشتهر بالصدقات وربما تصدّق بثلاثين ألفاً وتصدّق مرة بثلاثين بدرة)، ويقول أيضاً عن صدقاته في الحجاز: (فأرسل الأموال لأهل الحرمين ورد رسومهم القديمة، وكسا المساجد وأطلق مرتبات للمؤذنين والقراء في المساجد ..... وكان يحب العلم والعلماء ويجري الرسوم للفقهاء والأدباء والقراء فرغب الناس في العلم). (35) (وقد أمر بإخراج أموال الصدقات وتسليمها للقضاة والأعيان، لإعانة من يستحق من الفقراء وذوي الحاجات، وإعانة العاطلين الذين لا يجدون أعمالاً يقتاتون منها.
النجف الأشرف
وصفت المصادر البناء الذي بناه عضد الدولة على قبر الإمام علي بأنه (أجلّ العمارات وأحسنها), وأنه (شيد مشهداً عظيمًا على قبر الإمام علي (عليه السلام) وقد أنفق على هذا البناء الأموال الكثيرة واستقدم أمهر أصحاب المهن الفنية والنقوش من أجل هذا البناء.
وقد وصف الرحالة ابن بطّوطة هذا البناء في رحلته المشهورة عند زيارته للنجف الأشرف عام (727هـ) فقال:
(معمورة أحسن عمارة، وحيطانها مزينة بالقاشاني، وهو شبه الزليج عندنا لكنّ لونه أشرق، ونقشه أحسن، وإذا ما دخل زائر يأمرونه بتقبيل العتبة، وهي من الفضّة وكذلك العضادتان، ثمّ يدخل بعد ذلك إلى القبة، وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه، وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبار والصغار، وفي وسط القبة مسطبة مربعة مكسوّة بالخشب، عليها صفائح الذهب المنقوشة المُحكمة العمل، مسمّرة بمسامير الفضة قد غلبت على الخشب، لا يظهر منه شيء.
وارتفاعها دون القامة، وفوقها ثلاثة من القبور يزعمون أن أحدها قبر آدم عليه السّلام، والثاني قبر نوح عليه السّلام، والثالث قبر الإمام عليّ عليه السّلام. وبين القبور طشوت ذهب وفضة فيها ماء الورد والمسك وأنواع الطِّيِب، يغمس الزائر يده في ذلك ويدهن بها وجهه تبرّكاً، وللقبة باب آخر عتبته أيضاً من الفضّة، وعليه ستور الحرير الملوّن، يفضي إلى مسجد مفروش بالبسط الحسان، مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير، وله أربع أبواب عتبتها فضة، وعليها ستور الحرير…).
والجدير بالذكر إن هذا الوصف كان بعد حوالي ثلاثة قرون من تشييد الضريح, ورغم عمليات التطوير التي جرت على ضريح الإمام علي (عليه السلام) عبر تقادم الزمن لكنّ هذا البناء بقي محافظاً على صلابته وتماسكه وجماله حتى سنة (755 هـ) عندما احترق الضريح الذي زينت جدرانه بالخشب الساج المنقوش وبقيت بعض الآثار لبناء عضد الدولة وهي التي قال النسابة محمد حسين كتابدار النجفي إنه رآها وذلك في سنة (1041هـ) ومنها قبور آل بوية وكانت معروفة بقبور سبعة سلاطين ومنها قبر عضد الدولة ومصحف بثلاث مجلدات بخط أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي يقول عنه النجفي إنه احترق منه مجلدان وبقي واحد لم يحترق وبقي إلى سنة (1095).
وكان عضد الدولة قد أوصى أن يدفن جثمانه ألى جوار قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) وينحت على صخرة قبره هذه العبارة: هنا يرقد عضد الدولة وتاج الملة الذي أحب مجاورة هذا الأمام المعصوم للخلاص في يوم كل نفس تأتي بما كسبت.
ومن أمثلة التقديس لقبر الإمام أمير المؤمنين من قبل عضد الدولة وتكريم القائمين عليه وزواره ما رواه السيد ابن طاووس في زيارة عضد الدولة إلى النجف الأشرف حيث قال: (كانت زيارة عضد الدولة للمشهدين الشريفين الطاهرين الغروي والحائري في شهر جمادي الأولى في سنة (371هـ).... وتوجه إلى المشهد الغروي يوم الأثنين ثاني أيام وروده, وزار الحرم الشريف, وطرح في الصندوق دراهم. فأصاب كل واحد منهم واحد وعشرون درهماً. وكان عدد العلويين ألفاً وسبعمائة اسم. وفرق على المجاورين وغيرهم خمسمائة ألف درهم, وعلى المترددين خمسمائة ألف درهم, وعلى الفقهاء والفقراء ثلاثة آلاف درهم, وعلى المرتبين من الخازن والبواب على يد أبي الحسن العلوي وعلى يد أبي القاسم بن أبي عائد وأبي بكر بن سيار......) (36)
وقد ألقى اشاعر الحسين بن الحجاج قصيدته الفائية المشهورة في مدح أمير المؤمنين بعد إكمال بناء المرقد المقدس أمام عضد الدولة والتي يقول في مطلعها:
يا صاحبَ القبةِ البيضاءِ في النجفِ مَن زارَ قبركَ واستشفى لديكَ شُفي
زوروا أبا الـحـسـنِ الـهـادي لـعلّكم تـحـظـونَ بـالأجرِ والاقبالِ والزّلفِ
حـتّـى إذا طــفـتَ سـبـعـاً حول قبته تـأمّــلَ الــبــابَ تـلـقـى وجـهَه فقفِ
وقـلْ سـلامٌ مـن اللّه الــســلامُ عـلى أهـلِ الـسـلامِ وأهـلِ الـعلمِ والشرفِ
كما مدح الشاعر أبو اسحاق الصابي عضد الدولة على هذا البناء بقوله من قصيدة طويلة:
توجّهت نحو المشهدِ العلمِ الفردِ على اليمنِ والتوفيقِ والطائرِ السعدِ
تــزور أمـيـر الـمـؤمـنين فيا له ويـا لـك مـن مـجـدٍ مـنيخٍ على مجدِ
كربلاء
بلغت كربلاء الذروة في النمو والازدهار في زمن عضد الدولة حيث شخصت معالمها الدينية والحضارية. يقول الدكتور عبد الجواد الكليدار: (وقد ازدهرت كربلاء في عهد عضد الدولة البويهي وعهد البويهيين, وتقدمت معالمها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية, فاتسعت تجارتها واخضلت زراعتها, وأينعت علومها وآدابها, فدبت في جسمها روح الحياة والنشاط، فتخرج منها علماء فطاحل وشعراء مجيدون, وتفوقت في مركزها الديني المرموق....)
ويقول أيضاً: (ولا تنكر أعمال عضد الدولة العظيمة ومآثره الإسلامية الجليلة فقد بالغ في تشييد الأبنية حول المشهد الشريف في الحائر فجدد تعمير القبة, وشيد الأروقة من حوله, وبالغ في تزيينهما وتزيين الضريح بالساج والديباج, وعَمّر البيوت والأسواق من حول الحائر, وعصم مدينة كربلاء بالأسوار العالية فجعلها كحصن منيع ثم اهتم بالماء لسكان البلد والضياء للحائر المقدس فساق المياه الجارية للطف من مسافات بعيدة, وخصص أوقافاً جارية للإنارة والإضاءة فأحيا كربلاء من جديد بإخلاصه لآل البيت الطاهر بعد أن كادت تلفظ أنفاسها الأخيرة من سياسة العباسيين الجائرة وأساليبهم الهدامة للحائر...) (37)
وقال السيد ابن طاووس في (38), والسيد جعفر بحر العلوم (39) عن زيارة عضد الدولة لقبر الإمام الحسين (عليه السلام) في سنة (371 هـ): (وورد مشهد الحائر لمولانا الحسين صلوات الله عليه لبضع بقين من جمادي الأولى فزاره صلوات الله عليه وتصدق وأعطى الناس على اختلاف طبقاتهم, وجعل في الصندوق دراهم ففرقت على العلويين فأصاب كل واحد منهم اثنان وثلاثون درهماً وكان عددهم ألفين ومائتي اسم ووهب العوام والمجاورين عشرة آلاف درهم وفرق على أهل المشهد من الدقيق والتمر مائة ألف رطل, ومن الثياب خمسمائة قطعة. وأعطى الناظر عليهم ألف درهم....)
ويعلق الدكتور عبد الجواد الكليدار آل طعمة على هذا القول: (فيؤخذ من ذلك بأن عدد الذكور من العلويين في ذلك الوقت كان يبلغ ألفين ومائتي رجل فإذا أضفنا إليه مثل هذا العدد أو أكثر منه للإناث والأطفال بلغ عددهم من حيث المجموع خمسة آلاف نسمة من الرجال والنساء. وقد بلغ ما أنفقه عضد الدولة من النقود على العلويين في تلك المرة مبلغ سبعين ألف وأربعمائة درهم تقريباً عدا ما أنفق عليهم من الدقيق والتمر والملابس بسخاء فائق منقطع النظير, لأنه كان متفانياً في حب آل البيت وتنظيم شعائرهم وحفظ ذراريهم...) (40)
وقال السيد حسن الصدر: (في عام (371 هـ) شيّد عضد الدولة البويهي قبة ذات أروقة وضريحاً من العاج وعمر حولها بيوتاً وأحاط المدينة بسور) (41)
كما جاء ذكر بناء عضد الدولة في لقبر الإمام الحسين في رسالة (معرفة شهور السنة) للشيخ البهائي في أحوال شهر شوال بقوله: (وفي الثامن من شوال توفي السلطان الفاضل عضد الدولة البويهي وذلك في سنة (372هـ) وكان رحمه الله شديد الرسوخ في التشيع ومن بنيانه قبة أمير المؤمنين وقبة الحسين (صلوات الله عليهما)
ومن أعمال عضد الدولة الجليلة حماية المرقد الطاهر من اللصوص ففي سنة (369 هـ) شن ضبة بن محمد الأسدي الذي كان يتزعم عصابة من اللصوص وقطاع الطرق هجوماً على كربلاء ونهب الحائر وسرق نفائس خزانته وموقوفاته وكان يتخذ من عين التمر مقراً له لشن هجمات على القوافل والمدن والقرى فأرسل عضد الدولة إليه سرية من الجند فأحاطوه من كل جانب لكنه تمكن من الفرار بجلده تاركاً الأموال والنفائس التي سرقها والتي أرجعت إلى أماكنها وقد ذكر ابن الأثير هذه الحادثة في حوادث سنة (369هـ) من تاريخه.
الكاظمية المقدسة
يمكن القول أن البويهيين قد أسسوا لمدينة الكاظمية التي كانت قبلهم شبه قرية من قرى بغداد وكان الزوار من الشيعة يزورون الإمامين (عليهما السلام) من مسجد يعرف بمسجد باب التبن خوفاً من أعين السلطة العباسية, ولما جاء البويهيون وزال بمجيئهم الخوف كثر الزوار, ففي عام (367هـ) قام عضد الدولة البويهي ببناء بيوت حول المرقد الشريف لتشجيع الزوار والوافدين للإقامة في هذه المنطقة وكانت هذه البيوت هي بداية مشروع تأسيس مدينة.
وعن بناء المرقد الشريف يقول العلامة المحقق جعفر النقدي: (في سنة (336 هـ) أمر معز الدولة بقلع العمارة المبنية على القبرين, ورفع الضريحين السابقين, وبنى عمارة جليلة في مكانها ووضع على القبرين الشريفين ضريحاً خشبياً من الساج جميل الشكل حسن الطراز وتعلو العمارة قبّتان بديعتان إحداهما لمولانا الكاظم (عليه السلام) والثانية لمولانا الجواد (عليه السلام) وأمام العمارة القائمة صحن واسع رفيع الجدران محمكم البنيان وزين داخل العمارة بالتزيينات وعلق فيها المعلقات والأضوية وغير ذلك مما يزيد في حسنها وروعتها وأنزل ثلاثة من الجنود وغيرهم مقابل المشهد المبارك للخدمة وللمحافظة أولاً ولتأمين الزائرين ثانياً فكان الناس يقصدون الزيارة أفواجاً أفواجاً وهم آمنون على أنفسهم وأموالهم وكثرت المجاورة حول المشهد الشريف وصار الإمامان (عليهما السلام) ملجأ للخائفين وكعبة للطائفين) (42)
ولقرب المرقد الطاهر من مركز الحكم في بغداد فقد كان معز الدولة يزور المرقد مع وزرائه وأعيان دولته كل يوم خميس ويبيت في بيت مجاور له ويذهب يوم الجمعة إلى مقر حكمه بعد أن يجدد الزيارة ثانية
وفي سنة (369 هـ) بنى عضد الدولة سوراً حول أبنية المشهد الكاظمي وزاد تعمير داخل المشهد وخارجه وأضاف إلى التزيينات والأضوية وغيرها وضاعف منها.
يقول العلامة النقدي أيضاً: (وفي سنة (377هـ) أوصل الماء إلى الكاظمية ــ مشهد الإمامين موسى والجواد عليهما السلام) أبو طاهر سعيد الحاجب مولى شرف الدولة بن عضد الدولة بحفره نهراً كبيراً ساقه من الدجيل إلى داخل صحن المشهد وأصبح مجاورو المشهد والزائرون غير محتاجين إلى نقل الماء من بغداد ولا إلى حفر الآبار وكثرت الهجرة إلى المشهد المقدس من بغداد ونواحيها وزادت البيوت هناك...) (43)
الإمامان العسكريان
بدأ أول بناء للبويهيين على المرقدين الطاهرين للإمامين العسكريين في سامراء في عهد معز الدولة البويهي عام (337 ه) حيث شيد عندما زار سامراء أول بناء متكامل للزيارة, وقد أسس القبة الشريفة وعمر السرداب ووضع على القبرين الشريفين صندوقا من الخشب الساج المزخرف وأجرى عدة أعمال عمرانية وإدارية عليه منها تجديد بناء صحن دار الإمام (عليه السلام) وأقام سدناً وخدمة للضريح وأجرى لهم رواتب للقيام على خدمة الزائرين, ثم قام عضد الدولة بوضع سور من الخشب الساج حول المرقد الطاهر ووسع الصحن الشريف ووضع ستارا من الديباج على القبر.
وقد جدد بناء المرقدين الطاهرين وعُمِّر مرة ثانية في عهد البويهيين ففي سنة (445 هـ) شيد أرسلان البساسيري ــ وهو من رجال الدولة البويهية ــ بناءً شاهقاً وشامخاً على قبري الإمامين العسكريين (عليهما السلام)، وأقام على القبرين الشريفين صندوقين من الساج، وأهدى للضريح رمانتين من الذهب، هما أول قطعتين ذهبيتين تهديان إلى المرقد الشريف.
محمد طاهر الصفار
................................................................
1 ــ الأدب في ظل بني بويه / ط القاهرة 1949
2 ــ مختصر تاريخ العرب و التمدن الإسلامي / تحقيق عفيف البعلبكي ط دار العلم للملايين لبنان
3 ــ الكنى والألقاب
4 ــ رسالة عن بغداد
5 ــ حواشي نقد الرجال
6 ــ أمل الآمل
7 ــ فقه اللغة
8 ــ ذيل تاريخ بغداد
9 ــ البداية والنهاية
10 ــ العالم الإسلامي في العصر العباسي
11 ــ الخلافة العباسية في عصر الفوضى العسكرية
12 ــ المذاهب والأديان
13 ــ تأريخ ابن الأثير / أحداث سنة (429 هـ)
14 ــ التاريخ الإسلامي.
15 ــ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري
16 ــ تأريخ ابن الأثير
17 ــ التاجي
18 ــ الأغاني
19 ــ تأليف مجموعة كبيرة من المستشرقين
20 ــ دراسات في العصور العباسية المتأخرة ص244
21 ــ الأدب في ظل بني بويه ص16
22 ــ تاريخ الأدب العباسي ص 26
23 ــ تاريخ ابن الأثير
24 ــ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع / تعريب محمد عبد الهادي أبي ريده
25 ــ الآداب السلطانية والدول الإسلامية ص244
26 ــ البداية والنهاية ج 11 ص 173
27 ــ شذرات الذهب ج 3 ص 18
28 ــ وفيات الأعيان ج 1 ص 158
29 ــ تاريخ الأدب العباسي 26
30 ــ تاريخ إيران
31 ــ بغداد تأريخها وآثارها
32 ــ أحسن التقاسيم في معرفة الأقانيم
33 ــ النجوم الزاهرة
34 ــ تاريخ ابن الأثير ج 8 ص67
35 ــ المنتظم في تاريخ الملوك
36 ــ فرحة الغري ص 113 ــ 114
37 ــ تاريخ كربلاء ص 152
38 ــ فرحة الغري ص 59
39 ــ تحفة العالم في شرح خطبة المعالم ج 1 ص 273
40 ــ تأريخ كربلاء وحائر الحسين عليه السلام ص 138
41 ــ نزهة أهل الحرمين في عمارة المشهدين ص 36
42 ــ تاريخ الإمامين الكاظمين ص 53 ــ 55
43 ــ نفس المصدر ص 57
المصدر: ابنا