مواجهة التحريف والاستغلال السياسي للقرآن ومفاهيمه

flower 12

    

د ـ مواجهة التحريف والاستغلال السياسي للقرآن ومفاهيمه:
قام الإمام الصادق(عليه السلام) بحماية القرآن وصيانته من عملية التوظيف السياسي التي تجعل النص القرآني خادماً لأغراض سياسيّة مشبوهة تحاول إسباغ طابع شرعي على الحكم الظالم وشل روح الثورة واطفاء روح المقاومة في نفوس الاُمّة وبالتالي إسقاط شرعيّة القوى الرافضة لهذهِ النظم الظالمة حتى قيل في تفسير قوله تعالى : ( ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام* واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) [1]
.
«أنّها قد نزلت في علي بن أبي طالب»(عليه السلام) [2]
.
كما زيّف الإمام (عليه السلام) النظرة الجامدة للنصّ القرآني والتي تحاول تعطيله عن المواكبة للواقع المتغيّر والمتطور وحبسه في حدود الظاهر، ولم يسمح بالتأويل الباطني الفاسد . كما قاوم بعنف التفسير الذي يعتمد الرأي بعيداً عن الأحاديث الصحيحة الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام).
قال (عليه السلام) : « من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ كان إثمه عليه » [3]
.
قال(عليه السلام): « الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمة من بعده » [4]
وقال أيضاً : « نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله » [5]
وجاء عن زيد بن معاوية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قول الله عزّوجلّ : ( وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم ) [6]
، «فرسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل الراسخين في العلم قد علّمه الله عزّوجلّ جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه» [7]
.
وجاء عنه (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى : ( بل هو آيات بيّنات في صدور الّذين أوتوا العلم ) [8]
، «أنهم« هم الأئمة » [9]
.
ودخل عليه الحسن بن صالح بن حي فقال له : يابن رسول الله ! ما تقول في قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [10]
؟ من اُولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ؟ قال: «العلماء».
فلما خرجوا قال الحسن : ما صنعنا ! ألا سألناه من هؤلاء العلماء ؟!
فرجعوا إليه، فسألوه فقال: « الأئمة منّا أهل البيت » [11]
.
لقد ثبّت (عليه السلام) بأن فهم القرآن لا يتمّ إلاّ بالرجوع الى ما جاء عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) لأنه يضمن الفهم الصحيح لنصوص القرآن الكريم.
كما أنّه فتح آفاقاً جديدة لفهم القرآن وعلومه وأحكامه فحدّد المحكم والمتشابه والتأويل والتفسير والمطلق والمقيّد والجري والانطباق ... الى غيرها من شؤون القرآن الكريم.
3 ـ المحور الروحي والأخلاقي
لاحظ الإمام الصادق (عليه السلام) تأثير موجات الانحراف الفكري والسياسي على الاُمّة ومدى إفسادها لعقول الناس، وما لعبته سياسة الاُمويين من خلق أجواء ملائمة لطغيان النزعات الإلحادية والقبلية حتى عمّ الانفلات الأخلاقي، كما كثر في زمانه (عليه السلام)رفع شعار الورع والتقوى. كل ذلك أفقد الاُمّة قيمها وأبعدها عن الأخلاق التي أمر بها الرسول (صلى الله عليه وآله) وأرادها لاُمّته .
من هنا كان دور الإمام (عليه السلام) وتوجّهه الروحي والاخلاقي مع الاُمة في عدّة أبعاد:
البعد الأوّل : كونه (عليه السلام) القدوة الصالحة والمثال الواقعي الذي تتجسّد في شخصه أخلاق الرسالة; مما يكون موقعاً لإشعاع الفضيلة ونموّها، ويكشف من جانب آخر زيف الأنانيّة ونزعات الذات.
البعد الثاني : تقديم مجموعة من الوصايا والرسائل والتوجيهات التربويّة والاخلاقيّة التي عالج من خلالها الخواء الروحي والانحراف الأخلاقي الذي نما في سنوات الانحراف .
أما في البعد الأول فنجد الإمام(عليه السلام) كان يدعو الناس الى الفضيلة برفق ولين ويجادلهم بالتي هي أحسن، وكان يسمح للسائلين بطرح اسئلتهم مهما كانت وكان يوضّح لهم ما كان غامضاً عليهم.
كما كان لا يقبل من مقرّبيه أن يتشدّدوا بدعوتهم حيث كان يقول لهم: « لأحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم، ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون، وما يدخل به الأذى علينا، أن تأتوه فتؤنّبوه وتعذلوه وتقولوا له قولاً بليغاً » فقال له بعض أصحابه إذاً لا يقبلون منّا، قال: اهجروهم واجتنبوا مجالسهم [12]
.
فالإمام هنا يوصي العالم من أصحابه أن لا يتخلى عن رسالته في إرشاد الإنسان الجاهل المنتمي الى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بحجة تماديه وجرأته بارتكاب المخالفات مما يعكس الوجه السلبي لاتّباع الإمام فيؤذي دعاة الإصلاح.
ففي نظر الإمام (عليه السلام) لا يجوز تركه وإهماله إلاّ بعد اليأس من إصلاحه وازالة الشك من ذهنه .
البعد الثالث: وكان يحرص على شدّ أواصر المجتمع الإسلامي وإشاعة الفضيلة بين الناس ليقضي على العداوة والبغضاء، فكان (عليه السلام) يدفع الى بعض أصحابه من ماله ليصلح بين المتخاصمين على شيء من حطام الدنيا من أجل القضاء على المقاطعة والهجران لئلاّ يدفعهم التخاصم الى الترافع لحكّام الجور والذي كان قد نهى (عليه السلام) عنه .
قال سعيد بن بيان: مرّ بنا المفضّل بن عمر وأنا وختني نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة ثم قال لنا: تعالوا الى المنزل ، فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده حتّى اذا استوثق كل واحد منّا من صاحبه قال المفضّل: أما إنها ليست من مالي، ولكنّ أبا عبدالله (عليه السلام) أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن اُصلح بينهما وأفتديهما من ماله، فهذا من مال أبي عبدالله (عليه السلام) [13]
.
وهذا الاُسلوب يأتي كخطوة عمليّة ترفد ذاك التوجيه الذي تضمّن حرمة الترافع إلى حكّام الجور .
وكان (عليه السلام) يحثّهم على صلة الرحم. ومن حسن سيرته ومكارم أخلاقه أنّه كان يصل من قطعه ويعفو عمّن أساء اليه ، كما ورد أنه وقع بينه وبين عبدالله بن الحسن كلام ، فأغلظ عبدالله في القول ثم افترقا وذهبا الى المسجد فالتقيا على الباب فقال الصادق (عليه السلام) لعبد الله بن الحسن : كيف أمسيت يا أبا محمد ؟ فقال عبدالله: ـ بخير ( كما يقول المغضب ) ـ . قال الصادق (عليه السلام) : «يا أبا محمد أما علمت أنّ صلة الرحم تخفّف الحساب؟» ! ثمّ تلى قوله تعالى : (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) [14]
. فقال عبدالله : فلا تراني بعدها قاطعاً رحماً [15]
. فكان يصل رحمه ويبذل لهم النصح، كما كان يصل الفقراء في اللّيل سرّاً وهم لا يعرفونه.
قال هشام بن الحكم (رحمه الله) كان أبو عبدالله اذا أعتم وذهب الليل شطره ، أخذ جراباً فيه خبز ولحم ودراهم فحمله على عنقه ثمّ ذهب الى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسّمه فيهم وهم لا يعرفونه وما عرفوه حتى مضى الى الله تعالى [16]
.
وقال مصادف : كنت مع أبي عبدالله (عليه السلام) ما بين مكة والمدينة فمررنا على رجل في أصل شجرة. وقد ألقى بنفسه ، فقال (عليه السلام) : «مل بنا الى هذا الرجل فإنّي أخاف أن يكون قد أصابه العطش». فملنا إليه فإذا هو رجل من النصارى طويل الشعر، فسأله الإمام (عليه السلام): أعطشان أنت ؟ فقال: نعم، فقال الإمام (عليه السلام): «انزل يا مصادف فاسقه». فنزلت وسقيته ثم ركبت وسرنا . فقلت له : هذا نصراني ، أفنتصدق على نصراني ؟ فقال : نعم إذا كانوا بمثل هذه الحالة» [17]
.
وكان يرى (عليه السلام) أن الإعراض عن المؤمن المحتاج للمساعدة استخفاف به، والاستخفاف بالمؤمن استخفاف بهم (عليهم السلام)، فقد كان عنده جماعة من أصحابه فقال لهم : «ما لكم تستخفّون بنا؟!» فقام إليه رجل من أهل خراسان فقال : معاذ الله أن نستخفّ بك أو شيء من أمرك ! فقال (عليه السلام) : «إنّك أحد من استخفّ بي».
فقال الرجل : معاذ الله أن أستخفّ بك!! فقال له (عليه السلام) : «ويحك ألم تسمع فلاناً ونحن بقرب الجحفة وهو يقول لك : إحملني قدر ميل فقد والله أعييت . فوالله ما رفعتَ له رأساً ، لقد إستخففت به ومن استخفّ بمؤمن فينا استخفّ وضيّع حرمة الله عزّوجلّ» [18]
.
أما البعد الثاني: فكما قلنا كان يتمثّل في مجموعة الوصايا والرسائل والمناظرات والتوجيهات التي عالج الإمام(عليه السلام) من خلالها الإخفاق الروحي الذي كانت الاُمّة قد تعرّضت لايصالها الى المستوى الايماني الذي كانت تريده الرسالة.
فقد خاطب(عليه السلام) شيعته وأصحابه قائلاً: «فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرّني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه، وعاره وقيل: هذا أدب جعفر...» [19]
.
وأراد الإمام(عليه السلام) أن يعزّز في نفوسهم صحة مذهبهم باعتباره يمثّل الخط الإلهي ، فانتقد من جانب الاتّجاهات المنحرفة عن خطّ الرسالة وفتح شيعته آفاقاً توجيهيّة قائلاً: «أما والله ما أحد من الناس أحبّ اليّ منكم وإن الناس قد سلكوا سُبلاً شتّى فمنهم من أخذ برأيه، ومنهم من اتّبع هواه، ومنهم من اتبع الرواية، وانكم أخذتم بأمر له أصل فعليكم بالورع والاجتهاد واشهدوا الجنائز، وعودوا المرضى واحضروا مع قومكم في مساجدهم للصلاة، أما يستحي الرجل أن يعرف جاره حقه، ولا يعرف حق جاره» [20]
.
كما أوصى أحد أصحابه بأن لا ينتقدوا من هو ضعيف الايمان من بينهم بل يجب شدّ أزره وتقويم ضعفه مادام قد اختار طريق الحقّ وذلك كما في قوله(عليه السلام) : «يا ابن جندب لا تقل في المذنبين من أهل دعوتكم إلاّ خيراً، واستكينوا الى الله في توفيقهم، وسلوا التوبة لهم، فكل من قصدنا وولانا، ولم يوال عدوّنا، وقال ما يعلم وسكت عما لا يعلم أو اشكل عليه فهو في الجنة» [21]
وتجد الإمام يغرس فيأصحابه صفة التواضع التي من علاماتها السلام على كل من يلقاه فإنّ ذلك يتمّ عن سلامة النفس، واعتبر من التواضع ترك المناقشة العقيمة خصوصاً في المسائل العلمية فيما اذا كانت تنطلق من الشعور بالتفوّق، واعتبر أيضاً من علامات التواضع أن لا يحب الشخص بأن يمتدح على ما يتمتع به من علم وأدب وتقوى فإنّ حبّه لذلك حبّ للظهور والعظمة وليس من التواضع في شيء.
قال(عليه السلام): «من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس وأن تسلّم على من تلقى وأن تترك المراء وان كنت محقّاً، ولا تحب أن تحمد على التقوى» [22]
.
وكان (عليه السلام) يوصي أصحابه بالتسليم للحق في الحوار أو النقد وعدم التأثر بالعصبية للقوم أو العشيرة أو المذهب فيكون الانحياز حائلاً دون سماع الحقيقة التي هي شعار أهل البيت(عليهم السلام) فقال: «المُسلّم للحق أوّل ما يصل الى الله...» [23]
.
البعد الرابع: ومن الاُمور التربوية التي أكّدها الإمام (عليه السلام) في نفوس أصحابه ـ ليكونوا بالمستوى المطلوب من النضج والسلامة في التفكير ولئلاّ تكون مشاريعهم وتخطيطاتهم عرضة للفساد ـ هي الدعوة الى التثبّت في الاُمور.
قال (عليه السلام) : « مع التثبّت تكون السلامة ومع العجلة تكون الندامة، ومن ابتدأ بعمل في غير وقته كان بلوغه في غير حينه» [24]

 

 المصدر:سایت السبطین

___________________

[1]
البقرة (2) : 204 ـ 205 .
[2]
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 4 / 73 عن أبي جعفر الاسكافي : 240 .
[3]
تفسير العياشي : 1 / 17 وعنه فيتفسير الصافي : 1 / 21 .
[4]
اُصول الكافي : 1 / 213 .
[5]
المصدر السابق .
[6]
آل عمران (3): 7 .
[7]
اُصول الكافي : 1 / 213 .
[8]
العنكبوت (29): 49 .
[9]
تفسير الصافي : 1 / 12 .
[10]
النساء (4) : 59 .
[11]
بحار الأنوار : 47/29 .
[12]
الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : 3 / 291 .
[13]
اُصول الكافي : 2 / 209.
[14]
الرعد (13): 21 .
[15]
كشف الغمة: 2/375 عن الجنابذي ، وعنه في بحار الأنوار : 47/274 .
[16]
بحار الأنوار : 47/38 عن فروع الكافي: 4/8 .
[17]
وسائل الشيعة : 6 / 285 الحديث 3 .
[18]
الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : 2 / 296 .
[19]
اُصول الكافي: 2/636 وعنه في وسائل الشيعة: 12/5 ح 2، نهج السعادة: 8/32 .
[20]
اُصول الكافي: 8/146 ح 121 وعنه الف حديث في المؤمن ، للشيخ هادي النجفي .
[21]
تحف العقول : وصيته(عليه السلام) لعبدالله بن جندب:302 .
[22]
الحكم الجعفرية : 35.
[23]
المصدر السابق : 60.
[24]
الحكم الجعفرية: 60 .

logo test

اتصل بنا