الحمد لله الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى، ثم الصلاة والسلام على من اختارهم هداةً لعباده، لا سيما خاتم الأنبياء وسيّد الرسل والأصفياء أبو القاسم المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله) وعلى آله الميامين النجباء .
لقد خلق الله الانسان وزوّده بعنصري العقل والإرادة، فبالعقل يبصر ويكتشف الحقّ ويميّزه عن الباطل ، وبالإرادة ي ختار ما يراه صالحاً له ومحقّقاً لأغراضه وأهدافه .
وقد جعل الله العقل المميِّز حجةً له على خلقه، وأعانه بما أفاض على العقول من معين هدايته ; فإنّه هو الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وأرشده إلى طريق كماله اللائق به، وعرّفه الغاية التي خلقه من أجلها، وجاء به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها .
وأوضح القرآن الحكيم بنصوصه الصريحة معالم الهداية الربّانية وآفاقها ومستلزماتها وطرقها ، كما بيّن لنا عللها وأسبابها من جهة، وأسفر عن ثمارها ونتائجها من جهة اُخرى .
قال تعالى :
( قُلْ إنّ هُدى الله هو الهُدى ) الانعام (6) : 71 .
( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) البقرة (2): 213 .
( والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل ) الاحزاب (33) : 4 .
( ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم ) آل عمران (3) : 101 .
( قل الله يهدي للحقّ أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتَّبع أ مّن لا يهدّي إلاّ أن يُهدى فمالكم كيف تحكمون) يونس (10) : 35 .
( ويرى الذين اُوتوا العلم الذي اُنزل اليك من ربّك هو الحقّ ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ) سبأ (34) : 6 .
( ومن أضلّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله ) القصص (28) :50 .
فالله تعالى هو مصدر الهداية. وهدايته هي الهداية الحقيقية، وهو الذي يأخذ بيد الانسان إلى الصراط المستقيم وإلى الحقّ القويم.
وهذه الحقائق يؤيدها العلم ويدركها العلماء ويخضعون لها بملء وجودهم. ولقد أودع الله في فطرة الانسان النزوع إلى الكمال والجمال ثمّ مَنّ عليه بإرشاده إلى الكمال اللائق به، وأسبغ عليه نعمة التعرّف على طريق الكمال، ومن هنا قال تعالى : ( وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدونِ ) الذاريات (51): 56 . وحيث لا تتحقّق العبادة الحقيقية من دون المعرفة، صارت المعرفة والعبادة طريقاً منحصراً وهدفاً وغايةً موصلةً إلى قمّة الكمال .
وبعد أن زوّد الله الانسان بطاقتي الغضب والشهوة ليحقّق له وقود الحركة نحو الكمال; لم يؤمَن عليه من سيطرة الغضب والشهوة; والهوى الناشئ منهما، والملازم لهما فمن هنا احتاج الانسان ـ بالإضافة إلى عقله وسائر أدوات المعرفة ـ الى مايضمن له سلامة البصيرة والرؤية; كي تتمّ عليه الحجّة، وتكمل نعمة الهداية، وتتوفّر لديه كلّ الأسباب التي تجعله يختار طريق الخير والسعادة، أو طريق الشرّ والشقاء بملء إرادته.
ومن هنا اقتضت سُنّة الهداية الربّانية أن يُسند عقل الانسان عن طريق الوحي الإلهي، ومن خلال الهداة الذين اختارهم الله لتولِّي مسؤولية هداية العباد وذلك عن طريق توفير تفاصيل المعرفة وإعطاء الارشادات اللازمة لكلّ مرافق الحياة .
وقد حمل الأنبياء وأوصياؤهم مشعل الهداية الربّانية منذ فجر التاريخ وعلى مدى العصور والقرون ، ولم يترك الله عباده مهملين دون حجة هادية وعلم مرشد ونور مُضيء ، كما أفصحت نصوص الوحي ـ مؤيّدةً لدلائل العقل ـ بأنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه ، لئلاّ يكون للناس على الله حجّة ، فالحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق ، ولو لم يبق في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة، وصرّح القرآن ـ بشكل لا يقبل الريب ـ قائلاً : ( إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد ) الرعد (13) : 7 .
ويتولّى أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم الهداة المهديّون مهمّة الهداية بجميع مراتبها، والتي تتلخّص في :
1 ـ تلقِّي الوحي بشكل كامل واستيعاب الرسالة الإلهية بصورة دقيقة. وهذه المرحلة تتطلّب الاستعداد التام لتلقّي الرسالة، ومن هنا يكون الاصطفاء الإلهي لرسله شأناً من شؤونه، كما أفصح بذلك الذكر الحكيم قائلاً : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته )الانعام (6) : 124 و ( الله يجتبي من رسله من يشاء ) آل عمران (3) : 179 .
2 ـ إبلاغ الرسالة الإلهية الى البشرية ولمن اُرسلوا إليه، ويتوقّف الإبلاغ على الكفاءة التامّة التي تتمثّل في الاستيعاب والإحاطة اللازمة بتفاصيل الرسالة وأهدافها ومتطلّباتها، و العصمة عن الخطأ والانحراف معاً، قال تعالى : (كان الناسُ اُمّةً واحدةً فبعث الله النبيِّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتابَ بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه )البقرة (2) : 213 .
3 ـ تكوين اُمة مؤمنة بالرسالة الإلهية، وإعدادها لدعم القيادة الهادية من أجل تحقيق أهدافها وتطبيق قوانينها في الحياة ، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه المهمّة مستخدمةً عنواني التزكية والتعليم، قال تعالى: (يزكّيهم ويعلّمهم الكتابَ والحكمة ) الجمعة (62): 2 والتزكية هي التربية باتجاه الكمال اللائق بالإنسان. وتتطلّب التربية القدوة الصالحة التي تتمتّع بكلّ عناصر الكمال، كما قال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة ) الاحزاب (33) : 21.
4 ـ صيانة الرسالة من الزيغ والتحريف والضياع في الفترة المقرّرة لها ، وهذه المهمة أيضاً تتطلّب الكفاءة العلمية والنفسية، والتي تسمّى بالعصمة.
5 ـ العمل لتحقيق أهداف الرسالة المعنوية وتثبيت القيم الأخلاقية في نفوس الأفراد وأركان المجتمعات البشرية وذلك بتنفيذ الاُطروحة الربّانية، وتطبيق قوانين الدين الحنيف على المجتمع البشري من خلال تأسيس كيان سياسيٍّ يتولّى إدارة شؤون الاُمة على أساس الرسالة الربّانية للبشرية، ويتطلّب التنفيذ قيادةً حكيمةً، وشجاعةً فائقةً، وصموداً كبيراً، ومعرفةً تامةً بالنفوس وبطبقات المجتمع والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية وقوانين الإدارة والتربية وسنن الحياة، ونلخّصها في الكفاءة العلمية لإدارة دولة عالمية دينية، هذا فضلاً عن العصمة التي تعبّر عن الكفاءة النفسية التي تصون القيادة الدينية من كلّ سلوك منحرف أو عمل خاطى بإمكانه أن يؤثّر تأثيراً سلبيّاً على مسيرة القيادة وانقياد الاُمة لها بحيث يتنافى مع أهداف الرسالة وأغراضها .
وقد سلك الأنبياء السابقون وأوصياؤهم المصطفون طريق الهداية الدامي، واقتحموا سبيل التربية الشاقّ، وتحمّلوا في سبيل أداء المهامّ الرسالية كلّ صعب، وقدّموا في سبيل تحقيق أهداف الرسالات الإلهية كلّ ما يمكن أن يقدّمه الإنسان المتفاني في مبدئه وعقيدته، ولم يتراجعوا لحظة، ولم يتلكؤا طرفة عين.
وقد توّج الله جهودهم وجهادهم المستمرّ على مدى العصور برسالة خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) وحمّله الأمانة الكبرى ومسؤولية الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها. وقد خطا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في هذا الطريق الوعر خطوات مدهشة، وحقّق في أقصر فترة زمنية أكبر نتاج ممكن في حساب الدعوات التغييرية والرسالات الثورية ، وكانت حصيلة جهاده وكدحه ليل نهار خلال عقدين من الزمن ما يلي :
1 ـ تقديم رسالة كاملة للبشرية تحتوي على عناصر الديمومة والبقاء .
2 ـ تزويدها بعناصر تصونها من الزيغ والانحراف .
3 ـ تكوين اُمة مسلمة تؤمن بالإسلام مبدأً، وبالرسول قائداً، وبالشريعة قانوناً للحياة .
4 ـ تأسيس دولة إسلامية وكيان سياسيٍّ يحمل لواء الإسلام ويطبّق شريعة السماء .
5 ـ تقديم الوجه المشرق للقيادة الربّانية الحكيمة المتمثّلة في قيادته (صلى الله عليه وآله) .
ولتحقيق أهداف الرسالة بشكل كامل كان من الضروري :
أ ـ أن تستمرّ القيادة الكفوءة في تطبيق الرسالة وصيانتها من أيدي العابثين الذين يتربّصون بها الدوائر .
ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم على الرسول (صلى الله عليه وآله) إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم; لتولي مهمة إدامة الحركة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين، وتربية للأجيال على قيم ومفاهيم الشريعة المباركة التي تولّوا تبيين معالمها وكشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وكان أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم خير من عرّفهم النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) بأمر من الله تعالى لقيادة الاُ مّة من بعده.
وتبلورت سيرة الأئمّة الراشدين في استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الاُمة عليهم والتفاعل معهم كأعلام للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، فكانوا هم الأدلاّء على الله لنيل مرضاته، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّته، والذائبين في الشوق اليه، والسابقين إلى تسلّق قمم الكمال الإنسانيّ المنشود .
ولا يستطيع المؤرّخون والكتّاب أن يلمّوا بجميع زوايا سيرتهم العطرة ويدّعوا دراستها بشكل كامل، ومن هنا فإنّ محاولتنا هذه إنّما هي إعطاء قبسات من سيرتهم وسلوكهم ومواقفهم التي دوّنها المؤرّخون واستطعنا اكتشافها من خلال مصادر الدراسة والتحقيق ، عسى الله أن ينفع بها إنّه وليّ التوفيق .
ويختص هذا الكتاب بدراسة حياة الإمام محمّد بن علي الجواد (عليه السلام) تاسع أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو المعصوم الحادي عشر من أعلام الهداية والذي تمثلت كل جوانب الشريعة في حياته فكراً وخلقاً وسلوكاً فكان نبراساً
ومثلاً أعلى للبشرية بعد سيّد المرسلين وآبائه الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
ولا يسعنا إلاّ أن نبتهل الى الله تعالى بالدعاء والشكر لتوفيقه على إنجاز هذه الموسوعة المباركة فإنه حسبنا ونعم النصير.
المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
قم المقدسة
المصدر:سایت السبطین