آخر شهر ذي القعدة؛ استشهاد الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

يقول المؤرخ علي بن الحسين المسعودي : و جعلوا - المعتصم بن هارون ، و جعفر بن المأمون ، و أخته أم الفضل - سُمّاً في شيء من عنب رازقي ، و كان يعجبه -أي الإمام الجواد (ع) - العنب الرازقي ، فلمَّا أكلَ (ع) منه نَدمَتْ ، و جعَلَتْ تبكي.

استشهاد الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

يوافق آخر شهر ذي القعدة الذكرى الأليمة لاستشهاد الإمام محمد بن علي الجواد (ع)، وبهذه المناسبة نسلط الضوء على الأحداث التي أودت إلى استشهاده عليه السلام.


استدعاء المعتصم العباسي للإمام (عليه السلام):

بويع الخليفة العباسي المعتصم سنة ( 218 هـ ) ، و ما أن استَتَبَّ له أمر الملك ، و انقادت له البلاد شرقاً و غرباً ، حتى أخذ يتناهى إلى سمعه بروز نجم الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، و استقطابه لجماهير الأمّة ، و أخذه بزمام المبادرة شيئاً فشيئاً .

 وتتسارع التقارير إلى الحاكم الجديد بتحرك الإمام أبي جعفر ( عليه السلام ) وسط الأمّة الإسلامية .

و على أساس ذلك قَرَّر المعتصم العباسي - و بمشورة مستشاريه و وزرائه ، و منهم قاضي القضاة ابن أبي دؤاد الإيادي ، المعروف ببغضه لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، و الذي كان يسيطر على المعتصم ، و قراراته و سياسته - أن يبعث بكتاب إلى واليه على المدينة المنورة ، محمد بن عبد الملك الزيَّات ، في عام ( 219 هـ ) ، بحمل الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، و زوجته أم الفضل ، بِكُلِّ إكرام وإجلال ، و على أحسن مركب إلى ( بغداد ) .

فلم يكن بُدّ للإمام ( عليه السلام ) من الاستجابة لهذا الاستدعاء ، الذي يُشَمُّ منه الإجبار و الإكراه . و قد أحسَّ الإمام ( عليه السلام ) بأنَّ رحلته هذه هي الأخيرة ، التي لا عودة بعدها . لذلك فقد خَلَّف ابنه أبا الحسن الثالث ، و هو الإمام الهادي ( عليه السلام ) في ( المدينة ) ، بعد أن اصطحبه معه إلى ( مَكَّة ) لأداء مراسم الحجّ . و أوصى له بِوَصاياه ، و سَلَّمه مواريث الإمامة ،  وأشهد أصحابه بأنَّه ( عليه السلام ) إمامهم من بعده .

و تستمر الاستعدادات لترحيل الإمام ( عليه السلام ) إلى بغداد ، و يَستمْهِلهُم الإمام ( عليه السلام ) لحين إنتهاء الموسم . و فعلاً ، يؤدي الإمام الجواد ( عليه السلام ) مراسم الحج ، و يترك ( مَكَّة ) فور أداء المناسك معرجاً على مدينة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، لِيُخلِّف ( عليه السلام ) فيها ابنه الوصي الوريث .

يبدو أن الإمام الجواد ( عليه السلام ) خرج من ( المدينة ) مُتَّجهاً إلى ( بغداد ) غير زائرٍ جَدَّه المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) ، و كأنَّه ( عليه السلام ) أراد بهذه العملية التعبير عن احتجاجه على هذا الاستدعاء ، و أن خروجه من مدينة جَدِّه ( صلى الله عليه و آله ) إنّما هو مكره عليه . و يواصل الإمام ( عليه السلام ) رحلته إلى المصير المحتوم ، و قد أخبر أحد أصحابه بأنه غير عائدٍ من رحلته هذه مَرَّة أخرى .

فروى محمد بن القاسم ، عن أبيه : ( لمَّا خرج - الإمام الجواد ( عليه السلام ) - من ( المدينة ) في المرة الأخيرة ، قال ( عليه السلام ) : ( مَا أطْيَبكِ يا طيْبَة !! ، فَلَسْتُ بِعَائدٍ إِليكِ ) .

و بُعَيد هذا فقد أخبر الإمام ( عليه السلام ) أصحابه في السنة التي تُوفِّي فيها بأنه ( عليه السلام ) راحل عنهم هذا العام . فعن محمد بن الفرج الرخجي ، قال : ( كتب إليَّ أبو جعفر ( عليه السلام ) قائلاً : ( اِحملوا إليَّ الخُمْس ، فإنِّي لستُ آخذه منكم سوى عامي هذا ) .

وصول الإمام (عليه السلام):

و أخيراً ينتهي به ( عليه السلام ) المسير إلى ( بغداد ) ، عاصمة الدولة العباسية ، مَقَرُّه ( عليه السلام ) ، و مثواه الأخير الأبدي ، و دخلها لليلتين بَقِيَتا من المحرم سنة ( 220 هـ ) . و ما أن وصل ( عليه السلام ) إليها ، و حطَّ فيها رحاله ، حتى أخذ المعتصم يدبِّر ، و يعمل الحيلة في قتل الإمام ( عليه السلام ) بشكل سرِّي ، و لذلك فقد شكَّل مُثلَّثاً لتدبير عملية الاغتيال بكلِّ هدوء .

مُثلَّث الاغتيال:

على الرغم من تعدد الروايات في كيفية شهادة الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، إلا أنَّ أغلبها تُجمِع على أن الإمام ( عليه السلام ) اغتيل مسموماً . و أنَّ مثلث الاغتيال قد تمثَّل في زوجته زينب المُكنَّاة بـ ( أم الفضل ) ، و هي بنت المأمون . و هي المباشر الأول التي قَدَّمت للإمام عنباً مسموماً ، و تمثَّل أيضاً في أخيها جعفر ، و المدبر و المساعد لهم على هذا الأمر هو المعتصم بن هارون . فقد ذكر ذلك غير واحد من المؤرخين ، و منهم المؤرخ الشهير المسعودي ، حيث يقول : ( لما انصرف أبو جعفر ( عليه السلام ) إلى ( العراق ) ، لم يزل المعتصم و جعفر بن المأمون يُدبِّران ، و يعملان على قتله ( عليه السلام ) .

فقال جعفر لأخته أم الفضل - و كانت لأمّه و أبيه - في ذلك ، لأنه وقف على انحرافها عنه ، و غِيرتها عليه ، لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها ، مع شِدَّة محبتها له ، و لأنها لم تُرزَق منه ولد ، فأجابت أخاها جعفراً . و قال غيره : ( ثم إنَّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر ( عليه السلام ) ، و أشار إلى ابنة المأمون زوجته بأن تُسِمَّه ) . لأنَّه وقف على انحرافها عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، و شِدَّة غيرتها عليه ، لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها ، و لأنه لم يرزق منها ولد ، فأجابته إلى ذلك .

شهادة الإمام الجواد (عليه السلام):

رُوِي أنَّ مثلث الاغتيال ( المعتصم ، و جعفر ، و أم الفضل ) ، كانوا قد تشاوَرُوا ، و تعاونوا على قتل الإمام ( عليه السلام ) ، و التخلّص منه بعد قدومه إلى ( بغداد ) ، بل ما استُدعِي ( عليه السلام ) إلاَّ لهذا الغَرَض .

و في ذلك يقول المؤرخ علي بن الحسين المسعودي : (و جعلوا - المعتصم بن هارون ، و جعفر بن المأمون ، و أخته أم الفضل - سُمّاً في شيء من عنب رازقي ، و كان يعجبه (ع)  العنب الرازقي ، فلمَّا أكلَ (ع) منه نَدمَتْ ، و جعَلَتْ تبكي.

فقال (عليه السلام) لها: ( مَا بُكَاؤك ؟!! ، و الله لَيَضربنَّكِ اللهُ بِفَقر لا يَنجَبِر ، و بَلاء لا يَنْسَتِر ) .

فَبُليت بِعِلَّة في أغمض المواضع من جوارحها ، و صارت ناسوراً ينتقض عليها في كلِّ وقت . فأنْفَقَت مالها ، و جميع ملكها على تلك العِلَّة ، حتى احتاجت إلى رفد الناس . و تردَّى جعفر في بئر فَأُخرِج ميتاً ، و كانَ سكراناً . و لما حضرت الإمام ( عليه السلام ) الوفاة ، بعد أن سرى السُّمَّ في بدنه الشريف ، نص على أبي الحسن الهادي ( عليه السلام ) ، و أوصى إليه . وكانت شهادته ( عليه السلام ) في آخر ذي القعدة 220 هـ . و حُفِر للجثمان المقدَّس قبرٌ ملاصقٌ لقبر جدِّه الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، في مقبرة قريش بـ( بغداد ) ، فَوَارَوهُ ( عليه السلام ) فيه . و انطفأت بشهادته ( عليه السلام ) شُعلَة مشرقة ، من الإمامة و القيادة الواعية ، المفكرة في الإسلام .

المصدر: ابنا

logo test

اتصل بنا