الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في مواجهة التيارات الفكرية الزائغة الإمام الصادق في مواجهة الجبرية

flower 12

    

وقد نهض الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في مواجهة هذه العقيدة الفاسدة في سياق إحيائه لمفاهيم الإسلام الأصيلة وابطال البدع، فرفع في وجه هذه الفكرة لواء الاعتقاد بحريّة الإنسان واختياره في أعماله وتصرفاته، وأعلن بصوت عال عن عقيدة «البداء» التي تعني في حقيقتها أمرين:
أولاً: أنّ الإنسان مختار في أفعاله، وأن في مقدوره أن يغيّر مسيرة وسلوكه إن شاء وأراد.
وثانياً: أنّ الله تعالى ليس مغلول اليدين، فهو قادر على تغيير مصير الإنسان ومقدّره إن غيّر الإنسان سلوكه ونهجه، ومسيره.
وهو تعالى سيبدي للإنسان ما خفي عليه، ممّا كان الله يعلمه بعلمه الأزلي الذي لا تبديل فيه ولا تغيير ولا جهل فيه ولا ترديد[15].
وانطلق الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في بيان هذا المعتقد والتأكيد عليه من القرآن الكريم والسنّة الشريفة اللّذين صرحا بكون الإنسان حراً في أفعاله، مختاراً في أعماله، وليس مجبوراً ومسيّراً.
فقد قال الله تعالى: (إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)[16].
وقال أيضاً: (ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)[17].
وقال ثالثاً: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)[18].
وجاء في تفسير الدر المنثور عن علي(عليه السلام) أنه سأل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن هذه الآية: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)[19] فقال: لاُقِرّنّ عَينَك بتفسيرها، ولاُقرّنّ عين اُمتي بعدي بتفسيرها:
الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين واصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر، ويقي مصارع السّوء[20].
وغير ذلك ممّا يفيد أنّ فعل الإنسان مؤثّر في مصيره وأن الله يغيّر مصير الإنسان إذا غيّر الإنسان مسيره وسلوكه.
ولقد أكّد الإمام الصادق على مبدأ (البداء) في روايات قوية العبارة، صريحة الدلالة لتكون في مستوى عقيدة الجبر المنحرفة التي صار لها جذور عميقة في النفوس، بحيث صارت وكأنّها من عقائد الإسلام الأصيلة، واليك طائفة من هذه الأحاديث :
1 ـ عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (الإمام جعفر الصادق): ما عُظّم الله بمثل البداء أي بمثل الاعتقاد بالبداء[21].
2 ـ عن مالك الجهني قال: سمعت أبا عبدالله (الصادق) يقول: لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فَتَروا عن الكلام فيه»[22].
3 - عن مرازم بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله (الصادق)(عليه السلام)يقول: ما تنبأ نبيّ قط حتى يقرّ لله بخمس خصال: بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة (اى لله تعالى)[23].
وغير ذلك من النصوص التي أكد فيها الامام جعفر الصادق (عليه السلام)على أهمية الاعتقاد بالبداء.
على أنّ الامام الصادق (عليه السلام) لم يغفل عن أن ينوّه بالمعنى الخاطئالذي قد يسبق الى بعض الافهام القاصرة، او يحاول من هو مؤيّدي الجبر إلقاؤه فى الاذهان وهو منافاة البداء مع العلم الازلي الإلهي فقال: «ان الله لم يبدله من جهل»[24] وقال: من زعم أن الله عزوجل يبدوله في شيء لم يعلمه أمس فابرأوا منه»[25].
كما انه (عليه السلام) لم ينس أن يحذر من الوقوع في خطأ آخر عند تفسير البداء، وهو كون الانسان مختارا اختيارا مطلقا كما ذهب اليه المعتزلة، حيث قال: في معرض الاجابة على سؤال من قال: هل الله فوّض الامر الى العباد: «الله أعز من ذلك»[26].
وهو يعني أن القول بأن للانسان الاختيار المطلق، وأنه اذا اختار عملا فليس لله مشيئة فيما يقوم به، وأنّه يعمل - بعد اختياره - خارج الاذن والمشيئة الالهية، تعجيز لله، وتحديد لقدرته المطلقة.
هذا، ولم يكتف الامام بالاصحار بمبدأ «البداء» في سياق مواجهة لفكرة الجبر الزائغة، بل صرح كذلك ببطلان الجبر اذ قال في الإجابة علي سؤال من قال: أجبر الله العباد على المعاصي؟، لا.[27]
وقال: ان الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذّبهم.[28]
وسأله آخر قائلا: جعلت فداك اجبر الله العباد على المعاصي؟ فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي؟ فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذّبهم عليها.[29]
ولم يقف الامام الى هذا الحدّ ـ بل نظراً لأهمية المسألة وبالتالي خطورة فكرة الجبر على الصعيد الفردي والاجتماعي والسياسي ـ شنّع على القائلين بالجبر قولهم بذلك، وحرم التردّد عليهم ومصاحبتهم فقال:
من زعم أن الله يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته ولا تصلّوا وراءه، ولا تعطوه من الزكاة شيئاً.[30]
هذه لمحة عابرة حول مواجهة الامام جعفر الصادق لفكرة الجبر الزائغة والتأكيد على المبدأ الاسلامي وهو حرية ارادة الانسان واختياره وقد توسّعنا فيها نظرا لأهيمتها.
ولم يقتصر عمل الامام الصادق في صعيد مكافحة الاتجاهات الفكرية الزائغة واحياء المبادئ الاسلامية في ما ذكرناه وشرحناه بل كان له (عليه السلام)مواقف مماثلة مع اتجاهات خطيرة اخرى منها:
 
1 - المرجئة :
وهم الذين كان لهم رأي جدّ خطير في مرتكبي المعاصي يتلخّص في التركيز على مجرّد الايمان القلبي والتقليل من أهمية العمل بل وحذفه من قائمة الايمان حتى انهم قالوا: لا تضرّ مع الايمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة!!.
ومعنى هذا أنهم لا يشترطون العمل في تحقق حقيقة الايمان، ويعتقدون بأن مرتكب المعاصي مهما كانت كبيرة كترك الصّلاة والصوم بل وشرب الخمر واقتراف الزنا يكفيه أن يكون مؤمناً في قلبه.
فالايمان هو الملاك الوحيد لتحقق عنوان المسلم المؤمن مهما خُلي من العمل الصالح، بل وحتى لو اقترنت حياته بالمعصية.
ولا شكّ أن هذا بمثابة اشعال الضوء الأخضر لكل من يرغب في اقتراف المعاصي، وبخاصة من ذوي الأهواء والشهوات الجامحة كالشباب.
كما انه يصبّ في خانة الحكام الفسقة ويعزّز موقعهم ولهذا ساعدت السلطات الاُموية على ترويج هذه الفكرة، بعد تأييدها.
ولعل احجام الحسن البصري عندما سئل حول موقفه من هذه الفكرة وأصحابها، عن الاجابة السريعة هو تخوّفه من السلطات التي كانت تدعم هذه الفكرة[31].
وحيث إن هذه الفرقة والفكرة لا تقلاّن خطورة على الاُمة وسلوكها مضافا الى مضادتهما للمبدأ الاسلامي القائل: الاسلام اقرار وايمان وعمل، لا ايمان فقط، ولا عمل فقط، لذا فقد نهض الامام الصادق(عليه السلام)ضدّهما (اي فكرة وفرقة) يوم اشتد ساعدهما وصار لهما أتباع وانصار وللأسف حتى من كبار الشخصيات الاسلامية[32]!!!
وتركزّت مواقف الامام الصادق من هذه الفكرة والفرقة على ثلاث خطوات:
الخطوة الاولى: بيان حقيقة الاسلام والايمان وأبعادهما.
الخطوة الثانية: تطويق هذه الفكرة والفرقة بلعنهم واظهار النفرة منهم بهدف الحجر عليهم وعزلهم عن الامة.
الخطوة الثالثة: تحذير الناس من الاحتكاك بهم وبخاصّة الاولاد والشباب الذين كانوا اكثر تأثراً بهذه العقيدة الفاسدة.
أما في مجال الخطوة الاولى فنورد بعض الاحاديث التي أوضح فيها حقيقة الاسلام والايمان.
1 - عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله عن الايمان؟ فقال: شهادة أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله.
قلت: أليس هذا (اى الشهادة بالوحدانية والرسالة المحمدية والنطق بها لسانا) عمل ؟
قال: بلى.
قلت: فالعمل من الايمان؟
قال: لا يثبت له الايمان الا بالعمل، والعمل منه[33].
2 - عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (الصادق)(عليه السلام) قال: سألته (أي سألت الصادق) عن الايمان؟ فقال: شهادة أن لا اله الا الله والا قرار بما جاء من عند الله، وما استقرّ فى القلوب من التصديق بذلك.
قال: قلت: الشهادة أليست عملاً؟
قال: بلى.
قلت: العمل من الايمان؟
قال: نعم، الايمان لا يكون إلاّ بعمل، والعمل منه، ولا يثبت الايمان إلاّ بعمل[34].
3 - عن ابن البختري عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام) قال: قال رسول الله: ليس الايمان بالتحلّي ولا بالتمنّي، ولكن الايمان ما خلص في القلب وصدّقه الأعمال[35].
وأما الخطوة الثانية فنشير الى طائفة من الاحاديث التي لعن فيها الامام الصادق (المرجئة) واستنكر عليهم فكرتهم.
1 - عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام) قال «ملعون ملعون من قال: الايمان قول ولا عمل»[36] .
2 - عن الصادق (عليه السلام) انه قال: «لعن الله القدريّة، لعن الله الخوارج، لعن الله المرجئة، لعن الله المرجئة».
قال (الراوي): قلت: لعنت هؤلاء مرة مرة، ولعنت هؤلاء (اي المرجئة) مرتين؟!
قال: إنّ هؤلاء يقولون: إنّ قتلتنا مؤمنون فدماءنا متلطخة بثيابهم الى يوم القيامة»[37].
وهذا بناء على أصلهم الفاسد وهو أنه لا تضرّ مع الايمان معصية وان كانت قتل نفس معصومة مؤمنة.
وأما الخطوة الثالثة وهي تحذير الناس والشباب خاصة من الاحتكاك بهم ومراودتهم فنورد بعض الأحاديث الدالّة عليها.
1 - عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام) قال: لا تجالسوهم - يعني المرجئة - لعنهم الله ولعن (الله) مللهم المشركة الذين لا يعبدون الله على شيء من الأشياء[38].
2 ـ عن جميل بن دراج وغيره عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) قال: بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم اليهم المرجئة .[39]
3 - عن جميل بن دراج أيضاً عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام)قال:
«بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم اليهم المرجئة».
 
2 - المعتزلة:
وقد ناقشهم الامام الصادق (عليه السلام) في جملة من القضايا[40] كما انه ردّ الناس عنهم ونهاهم عن اتباعهم[41].
3 - الزنادقة والملاحدة والطبيعيون: مثل أبي شاكر الديصاني وعبد الملك وابن أبي العوجاء وابن المقفّع، فقد ناقشهم الامام الصادق(عليه السلام) وأبطل معتقداتهم وفنّد افكارهم الفاسدة، وخيّب آمالهم في مواجهة القرآن ومفاهيمه العظيمة[42].
4 - الغلاة في رسول الله وعلي صلوات الله عليهما: فقد ردّ عليهم بشدة، وفنّد دعواهم[43].
5 - بعض ائمة المذاهب الاسلامية كالامام أبي حنيفة والقاضي ابي ليلى حيث أخذ عليهم منهجهم في عملهم الفقهي[44].
6 - الزيدية حيث ناقشهم في ما ذهبوا اليه من الامامة، ونبههم على خطأهم في هذا المجال.
وغيرهم، ممّن لا تسع هذه الرسالة كما لا يسع الوقت لذكرهم والدخول في تفاصيل ما دار بينه ((عليه السلام)) وبينهم .
على أن الامام الصادق (عليه السلام) قام بأكثر من هذا بنفسه، ولكنه ربّى الى جانب ذلك شخصيات علميّة قوية قامت الى جانب بالدفاع عن اصول الاسلام ومبادئه.
كما وألف هو وتلامذته وأصحابه كتبا في هذه المجالات لتكون مرجعاً فكرياً للاُمة ولشيعته خاصة من بعده.
هذا غيض من فيض من نشاطات الامام الصادق(عليه السلام) في صعيد مواجهة التيارات والأفكار، والاتجاهات التي اختطّت لنفسها عمدا أو جهلاً، عن قصد وعن غير قصد طريقا غير الطريق الذي رسمه الاسلام في حقل العقيدة وربما في بعض الحقول الاُخرى.
وقد استقطب الامام الصادق ونهجه في المنافحة عن حوزة الدين والعقيدة في الاغلب اهتمام العلماء واعجابهم كما وساعدهم على تصحيح افكارهم، وتعديل آرائهم والعودة الى جادة الحق والصواب عن رضى وقناعة.
فكان الامام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) بحق حارسا أمينا لشريعة جدّه المصطفى محمد صلى الله عليه وآله، بل والمجدّد دينه، والمحيي لتعاليمه، والمبقي على آثاره وهو الأمر الذي اعترف به الكثير الكثير ولم يصل الينا الا القليل القليل.
وفقنا الله واياكم لانتهاج نهجه والاستفادة من علومه، والسير على خطاه آمين ربّ العالمين .

 

  المصدر: سایت السبطین

__________________________________________________
[15] المعرفة حقيقة البداء التي قال بها أئمة أهل البيت وعلماء مدرستهم كتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد رحمه الله تعالى.
[16] الرعد: 11 .
[17] الأنفال: 53 .
[18] الأعراف: 96.
[19] الرعد: 39 .
[20] الدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور: 4/66.
[21] اصول الكافي للكليني: ج1 باب البداء حديث 1.
[22] المصدر السابق، الحديث 12.
[23] اصول الكافي ج 1 باب البداء الحديث 13.
[24] اصول الكافي: ج 1 باب البداء الحديث 10.
[25] اصول الكافي: ج 1 باب البداء الحديث .
[26] اصول الكافي ج 1 الجبر والقدر والامر بين الامرين الحديث 3.
[27] المصدر الحديث: 8.
[28] اُصول الكافي: ج1، الجبر والقدر والأمر بين الأمرين، الحديث: 9 .
[29] المصدر الحديث: 11.
[30] الكافى - الاصول ج 1 الجبر .
[31] الفرق بين الفرق للبغدادي: 1.
[32] راجع الايضاح لابن شاذان المتوفى عام 260.
[33] الكافي: 2 / 8 نقل عنه المجلسى فى البحار: 69 / 23.
[34] بحار الانوار: 69 / 22 نقلاً عن الكافي: 2 / 37.
[35] بحار الانوار: 69 / 72 نقلاً عن معانى الاخبار: 187.
[36] بحار الانوار ج 69.
[37] اصول الكافي: 2 / 300.
[38] فروع الكافي للكليني: 6 / 47، الحديث 5.
[39] التهذيب للطوسي: 8 / 111 الرواية 30 .
[40] فروع الكافي: 5 / 23 و 8 / 399 والتهذيب للطوسي: 6 / 148.
[41] اصول الكافي: ج 1 / 351.
[42] اصول الكافي: 1 / 73 - 75 و 125 والاحتجاج للطبرسي.
[43] راجع بحار الانوار ج 35.
[44] راجع الاحتجاج للطبرسي.

logo test

اتصل بنا