و كان الإمام محمّد الجواد (ع) على صغر سنّه مرجعاً علمياً للكثير من الفقهاء والعلماء على مختلف مذاهبهم، ففي أحد مواسم الحج اجتمع من فقهاء بغداد والأمصار ثمانون ليشاهدوه ويتعلموا من علمه ([1]).
ولمقامه العلمي اختاره المأمون كما ورد في قوله: أما أبو جعفر محمّد بن عليّ فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنّه والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجوا أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فيعلموا أنّ الرأي ما رأيت فيه([2]).
قال يحيى بن الزيات: إنّ المأمون قد شغف بأبي جعفر (ع) لما رأى من فضله مع صغر سنه، فعزم أن يزوجه بابنته أم الفضل، فغلظ ذلك على العباسيين فاجتمعوا عنده وقالوا: ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم هذا الأمر الذي قد عزمت فتخرج به عنان أمر قد ملّكَناهُ الله...
فأجابهم المأمون لكل كلمة جواباً ثم قال: وأما أبو جعفر فقد برز على كافة أهل الفضل مع صغر سنه.
فقالوا: إنّ هذا الفتى وإن راقك منه هديه، لا معرفة له، فامهله ليتأدب ثم افعل ما تراه.
فقال: ويحكم إنّي أعرف به منكم، وإنّ أهل هذا البيت علمهم من الله ومواده وإلهامه، فإن شئتم فامتحنوه.
فقالوا: قد رضينا بذلك، واجتمع رأيهم على ان يسأله قاضي القضاة يحيى بن أكثم مسألة لا يعرف الجواب فيها، فسأله يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً؟
فقال (ع): ((قتل في حل أم حرم، عالماً كان المحرم أم جاهلاً، عمداً كان أم خطئاً، حراً كان أم عبداً، صغيراً كان أم كبيراً، مبتدئاً أم معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها من ذوات الظلف، من صغار الطير أم من كبارها، مصراً على ما فعل أم نادماً، في الليل قتله للصيد أم نهاراً، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أم بالحج كان محرماً؟)). فانقطع يحيى([3]).
وقال ابن أبي داود: إنّ سارقاً أقرَّ على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة المعتصم تطهيره بإقامة الحد عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي الجواد فسألنا عن القطع في أي موضع يجب ان يقطع؟ فقلت: من الكرسوع. وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق... فالتفت المعتصم إلى محمد بن علي فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟
فقال: قد تكلم القوم فيه.
قال: دعني مما تكلموا به أي شيء عندك؟
قال: اعفني عن هذا.
قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه.
فقال: أما إذا أقسمت عليّ بالله اني أقول: انهم اخطأوا فيه السنة؛ فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف.
قال: وما الحجة في ذلك؟
قال: قول رسول الله (ص): ((السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين))، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق يد يسجد عليها.
وقال الله تبارك وتعالى: )وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللهِ أَحَداً(([4])، وما كان لله لم يقطع.
فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف([5]).
وفي مجلس ضم الإمام الجواد وعدداً من الفقهاء من مذاهب متنوعة أبدى كل منهم رأيه في أحد المسائل القضائية، فترك المعتصم العباسي آراءهم وأخذ برأي الإمام الجواد (ع)، وفي ذلك قال ابن أبي داود للمعتصم: (وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه ثمّ يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء)([6]).
وكانت له(ع) محاورات ومناظرات عديدة مع المتكلمين والفلاسفة والفقهاء فكان رأيه راجحاً على آرائهم.
المصدر: سایت الشیعه
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ بحار الأنوار 50: 100، عن عيون المعجزات .
[2] ـ كشف الغمة 2: 354.
[3] ـ مناقب آل أبي طالب ـ لابن شهر آشوب: ج4، ص412.
[4] ـ الجن : من الآية 18 .
[5] ـ تفسير العياشي 1: 319.
[6] ـ تفسير العياشي 1: 319.