وكانت العلوم السائدة التي أقبل الناس على تعلّمها ، هي :
1 ـ علوم القرآن :
أ ـ علم القراءات : ويُعنى هذا العلم بالبحث عن قراءة القرآن وقد وجدت سبع طُرق في القراءات ، كل طريقة منها تُنسب إلى قارئ ، ومن أشهرهم في العصر العباسي يحيى بن الحارث الذماري المتوفّى سنة ( 145 هـ ) وحمزة بن حبيب الزيات المتوفّى سنة (156 هـ) وأبو عبد الرحمن المقري المتوفّى سنة ( 213 هـ ) وخلف بن هشام البزاز المتوفّى سنة ( 229 هـ )[6][94] .
ب ـ التفسير : ويُراد به ايضاح الكتاب العزيز وبيان معناه ، وقد اتجه المفسّرون في تفسيره اتجاهين:
الأوّل : التفسير بالمأثور ، ونعني به تفسير القرآن بما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمّة الهُدى(عليهم السلام) وهذا ما سلكه أغلب مُفسّري الشيعة كتفسير القمّي ، والعسكري والبرهان ، وحجّتهم في ذلك أنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم المخصوصون بعلم القرآن على حقيقته وواقعه ، وقد أدلى بذلك الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) بقوله : ما يستطيع أحد أن يدّعي انّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء [7][95] وقد تظافرت الأدلّة على وجوب الرجوع إليهم في تفسير القرآن، يقول الشيخ الطوسي :
انّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن الأئمّة الذين قولهم حجة كقول النبي (صلى الله عليه وآله)[8][96].
الثاني : التفسير بالرأي، ويُراد به الأخذ بالاعتبارات العقلية الراجعة إلى الاستحسان وقد ذهب إلى ذلك المفسرون من المعتزلة ، والباطنية فلم يعنوا بما أثر عن أئمّة الهُدى في تفسير القرآن الكريم ، وإنّما استندوا في تفسيره إلى ما يرونه من الاستحسانات العقلية [9][97] .
وعلى أيّة حال فإنّ أوّل مدرسة للتفسير بالمأثور كانت في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو أوّل مفسّر للقرآن الكريم وعنه أخذ عبد الله بن عباس وغيره ، من أعلام الصحابة ، وكذلك اهتمّ به اهتماماً بالغاً الأئمّة الطاهرون ، فتناولت الكثير من محاضراتهم تفسير القرآن ، وأسباب نزول آياته
وفضل قراءته .
2 ـ علم الحديث :
ونعني به ما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن أحد أوصيائه الأئمّة الطاهرين ، من قول أو فعل أو تقرير لشيء ويعبّر عن ذلك كلّه بالسنّة .
وقد سبق الشيعة إلى تدوين الأحاديث ، فقد حثّ الأئمّة الطاهرون أصحابهم على ذلك ، حيث روى أبو بصير فقال : دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال ، ما يمنعكم من الكتابة ، إنّكم لن تحفظوا حتى تكتبوا ، أنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء فكتبوها وقد انبرى جماعة من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) إلى جمع الأحاديث الصحيحة في جوامع كبيرة ، وهي الجوامع الاُولى للإمامية والتي تعدّ الأساس لتدوين الجوامع الأربعة لمشايخ الإسلام الثلاثة [10][98] .
3 ـ الفقه :
ومن أبرز العلوم التي ساد انتشارها في ذلك العصر بل في جميع العصور الإسلامية هو علم الفقه الذي يتكفل بيان التكاليف اللازمة على المكلّفين وماهم مسؤولون عنه عند الله ومطالبون بامتثالها وتطبيقها على واقع حياتهم ، ومن ثمّ كان الاهتمام بدراسة علم الفقه أكثر من سائر العلوم ، وقد قام أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بدور فعّال في إنشاء مدرستهم الفقهيّة التي تخرّج منها كبار الفقهاء والعلماء أمثال زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وجابر بن يزيد الجعفي وأمثالهم من عيون العلماء ، وقد دوّنوا ما سمعوه من الأئمّة الطاهرين في اُصولهم التي بلغت زهاء أربعمائة أصل ، ثمّ هذّبت ، وجمعت في الكتب الأربعة التي يرجع إليها فقهاء الإمامية في استنباطهم للأحكام الشرعية .
ولم يقتصر هذا النشاط في طلب علم الفقه والإقبال عليه على الشيعة ، وإنّما شمل جميع الطوائف الإسلامية .
4 ـ علم اُصول الفقه :
وأسّس هذا العلم الإمام أبو جعفر محمّد الباقر(عليه السلام)، وهذا العلم ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد والاستنباط ، وكان موضع دراسة في ذلك العصر .
5 ـ علم النحو :
وهو من العلوم التي لعبت دوراً مهمّاً في العصر العبّاسي ، فقد كانت بحوثه موضع جدل ، وقد عقدت لها الأندية في قصور الخلفاء وجرى في بعض مسائله نزاع حادّ بين علماء هذا الفنّ ، وقد تخصّص بهذا العلم جماعة من الأعلام في ذلك العصر في طليعتهم الكسائي والفراء وسيبويه ، وقد أسّس هذا العلم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) رائد العلم والحكمة في الأرض .
6 ـ علم الكلام :
ويقصد به الدفاع عن المعتقدات الدينية بالأدلّة العلميّة ، وقد تأسّس هذا الفنّ على أيدي الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) وتخصّص فيه جماعة من تلاميذهم ، يعدّ في طليعتهم العالم الكبير هشام بن الحكم ، ومن أشهر المتكلّمين عند أهل السنّة واصل بن عطاء ، وأبو الهذيل العلاّف ، وأبو الحسن الأشعري والغزالي .
7 ـ علم الطب :
وقد شجّع ملوك بني العبّاس على دراسة الطب ، ومنحوا الجوائز والأموال الطائلة للمتخصّصين فيه أمثال جبريل بن بختشوع الطبيب النصراني .
8 ـ علم الكيمياء :
وقد تخصّص فيه جابر بن حيان مفخرة الشرق العربي ، وقد تلقّى معلوماته في هذا المجال من الإمام جعفر الصادق العقلية المفكّرة الفريدة في العالم الإنساني والمؤسس لهذا العلم .
9 ـ علم الهندسة المعمارية والمدنية.
10 ـ علم الفلك .
ترجمة الكتب :
وكان من مظاهر الحياة الثقافية في ذلك العصر الاقبال على ترجمة الكتب إلى اللغة العربية ، وقد تناولت كتب الطب ، والرياضة ، والفلك ، وأصناف العلوم السياسية والفلسفة ، ذكر أسماء كثير منها : ابن النديم في الفهرست ، وكان يرأس ديوان الترجمة حنين بن اسحاق ، وقد روى ابن النديم: أنّ المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات ، وقد استظهر عليه المأمون فكتب إليه يسأله الإذن في انفاذ من يختار من العلوم القديمة المخزونة ، المدّخرة ببلد الروم فأجابه إلى ذلك بعد إمتناع ، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجّاج بن مطر وابن البطريق ومسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم ، فأخذوا ممّا وجدوا ، فلمّا حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل..[11][99] .
المعاهد والمكتبات :
وأنشأت الحكومة في هذا العصر الكثير من المدارس والمعاهد في بغداد لتدريس العلوم الاسلامية وغيرها ، فقد أنشئت فيها حوالي ثلاثون مدرسة ، وما فيها من مدرسة إلاّ ويقصر القصر البديع عنها .
كما اُسّست فيها المكتبات العامة التي كان منها مكتبة بيت الحكمة ، فقد نقل إليها الرشيد مكتبته الخاصة ، وأضاف إليها من الكتب ما جمعه جدّه المنصور وأبوه المهدي ، وفي عهد المأمون طلب من أمير صقلية بعض الكتب العلمية والفلسفية ، فلمّا وصلت إليه نقلها إلى مكتبة بيت الحكمة ، كما جلب إليها من خراسان الكثير من الكتب ، وكان حيث ما سمع بكتاب جلبه لها ، وظلّت هذه الخزانة التي هي من أثمن ما في العالم قائمة يرجع إليها البحّاث وأهل العلم فلمّا استولى السفّاك المغول على بغداد سنة (656 هـ) عمدوا إلى إتلافها ، وبذلك خسر العالم الاسلامي أعظم تراث علمي له [12][100].
الخرائط والمراصد :
أمر المأمون بوضع خريطة للعالم سُمّيت ( الصورة المأمونية ) وهي أوّل خريطة صُنعت للعالم في العصر العباسي ، كما أمر بإنشاء مرصد فلكي فاُنشي بالشماسية وهي إحدى محلاّت بغداد[13][101] .
في هذا الجو العلمي الزاهر كان الإمام أبو جعفر الجواد (عليه السلام) الرائد الأعلى للحركة الثقافية ، فقد التفّ حوله العلماء أثناء اقامته في بغداد وهم ينهلون من
نمير علومه ، وقد سألوه عن أدقّ المسائل الفلسفية والكلامية فكان يجيبهم عليها ويتحدّى الزمن مما منّ الله به عليه من معارف وعلوم[14][102] .
المصدر:سایت السبطین